مجلة الفنون المسرحية
صامتٌ وصائتٌ: صباح الأنباري وأديب كمال الدّين؛ قراءةٌ في تجربتهِما الإبداعيّة
صامتٌ وصائتٌ: صباح الأنباري وأديب كمال الدّين؛ قراءةٌ في تجربتهِما الإبداعيّة
د. أسماء غريب
(1)
باب السّؤال
لا
أحبُّ هذا الشّيخَ "غوغل"؛ لمْ يَتْرُكْ شيئاً إلَّا وكشفَ عنهُ، وكلُّ
ما يُكْشَفُ يَفقِدُ شهيّةَ السّؤالِ ومُتعَةَ الجوابِ، ويُصبحُ باهتاً لا معنى
لهُ. والعقلُ منذُ ظهور هذا العمِّ "عارفاً" في حياتنَا أصبحَ في سباتٍ
عميق، لأنّ ما يُفصِحُ عنهُ، يُلْهِي عنِ المعرفة الحقّة بلْ يُلْغِيها، وأقصِدُ
المعرفةَ التي مركزُها القلبُ؛ هذه المشكاةُ الكبيرة التي فقدَ الإنسانُ التواصلَ
معَهَا وبِها منذ زمن بعيدٍ. لذا، فإنّهُ حينما طرقَ حرفُ الأنباريّ بابَ
أبجديّتي، نأيتُ بنفسِي عن هذا العَمّ، وعُدتُ إليَّ أتحسَّسُ سراديبَ الرّوح،
وأسألُها مَن يكونُ هذا الحرفُ يا ترى؟ وأذكرُ آنذاكَ أنّهُ لمْ يَكُنْ في حَوْزَتِي
سِوى كتابٍ واحدٍ منْ تأليفهِ، وأعني بهِ ((إشكالية الغياب في حروفيّة أديب كمال
الدّين)) (1). وهذا وحده لمْ يكنْ كافياً للانطلاق في رحلة البحث الحقّة. أيْ نعم،
ظهرَ لي الرّجل فيهِ بِاسْمِ النّاقد وحاولتُ ما أمكنَ أنْ ألتقطَ العديدَ من
الإشاراتِ المتناثرةِ هنا وهناك بين الصّفحاتِ من الغلاف إلى الغلاف، بما فيها تلكَ
التي لها علاقة وشيجةٌ بمُثلّث الصّداقة المتينة التي تجمع بين كلٍّ من كاتب
الدّراسة، وسعد محمد رحيم المُقدِّمِ لهَا بحرف المحبّة، ثمّ أديب كمال الدّين؛
الحرفَ موضوع الدّرس والتحليل. وهُو المثلّث الذي رأيتُ فيه التّزاوُجَ بين مثلثاث
أخَرَ، هي مثلثُ الوطن بكلّ تجليّاته المتشظّية بين الحلّة وبعقوبة وبغداد
واستراليا، ومثلّث الحرب والحصار والموت، ثم مثلثُ الشّتات والهجرة. وهي وحدها هذه
المثلّثات كانت كفيلةً بأن تُشْعِلَ بين جوانحي فتيلَ السّؤال: من هو حقّاً صباح
الأنباري ضمنَ كلِّ هذا؟ أهُو النّاقدُ فقط، أمْ ثمّةَ أشياء أخرى يجبُ إضافتها
إلى حصيلة ما باحَ لي بهِ كتابُه النّقدي عن أديب كمال الدّين.
إنَّ
طريقةَ كتابتهِ النّقدية عن أديب هي أقربُ إلى عيْنِ مُصوّرٍ فوتوغرافيّ تتقصّى
التفاصيلَ الدقيقةَ في كلِّ مشهد من مشاهد حياته، لا سيما مشهد الموت بكلّ مافيه
من حركةٍ وشخصيّات متعددة الظّهور بأشكال وصور مختلفةٍ ومتنوعة، فهلْ كانَ صباح
الأنباريّ مصوّراً في حياته؟ ثم ما قصّةُ هذا اللّقب، هل هو منَ الأنبار مثلاً؟
ليس في الكتاب شيءٌ يدلّني على ذلكَ، وليس أمامي سوى أن أبحث عن ماهو صورة فيه،
وهنا لا تطالعُني سوى صورةِ أديب كمال الدّين في الوجه الأماميّ للغلاف، وصورة
صباح الأنباري في الغلافِ الخلفيِّ.
(2)
الغلاف كعتبةٍ
نصّية
قلّة
هُم أولئك الّذين يتوقّفون عندَ العتبات، وقلّة أولئك الّذين يرون فيها المفتاحَ
الرئيسَ لكلِّ شيءٍ. أجل، الغلافُ كما باب المنزل، إذا لم تقفْ أمامهُ وتعرِف كيفَ
تحاذيه أو تطرقهُ، فلا شيء يمكنُ أن يظهر لكَ منهُ. وقديماً كانتْ دور الطّباعة
تولي عنايةً واهتماماً بالِغيْن بالأغلفةِ، وتحرصُ على صناعتها بشكلٍ بديعٍ وراقٍ،
واليوم وإنِ اختلفتْ معايير المقاربة، إلّا أنهُ مازالت هناك إمكانية للاعتمادِ على
الغلافِ كعتبة رئيسةٍ لقراءة نصّ ما كيفَما كان جنسُهُ الأدبيّ أو العلميّ. وبما
أنّنِي دخلتُ تجربةَ صباح الأنباريّ من كتابه عن حروفيّة الشّاعر أديب كمال الدين،
فإنّي أرى أنهُ من الحصافة بما كان العودة إلى صورتَي الغلافِ؛ الأماميّ والخلفيّ
منه:
-
صورة أديب كمال الدّين
هذه
الصّورة أعرفُها جيّداً؛ لقد أخِذَتْ في 17 آذار 2012 بهولندا على قاعة جامعة
لاهاي، حينما استدعتْ مؤسسةُ (أوطان) الشّاعرَ ونظّمتْ من أجله أمسيةً ثقافيّةً
أدراها الروائيُّ محمود النّجار، قرأ فيها أديب مختاراتٍ من قصائدِه باللُّغَتين
العربيّة والإنجليزيّة، وأذكرُ أنّها كانتْ (بغداد بثياب الدّم)، و(اذهبوا للجحيم)،
ثم (شجرة الثّعابين)، و(محاولة في أنا النقطة)، وغيرها من القصائد. لكنّ ما يُلْفِتُ
النّظرَ في الصّورة هو الجديد الّذي أدخلهُ عليها الشّاعرُ نفسه: لقد حوّلها إلى
صورة فنّية تشكيليّة عبر تقنيات الفوتوشوب، ثم حرصَ على أنْ تأتي بشكلٍ متشظٍّ،
وتعمّدَ شَطْرَ الجُزْءِ الأعلى من الرّأسِ، مع التّركيز على حركةِ اليدِ الّتِي
تحملُ الوجهَ، ونظرةِ العين الممتلئةِ أسىً وحسرةً، والممزوجة في الوقت ذاته ببُعْدِ
رؤيةٍ يسبرُ أغوار الآخر الجالسِ قبالةَ الشّاعر.
إنني أمام العنصر الرئيس إذن في هذه
الصورة: التشظّي، وأقولُ الرئيس لأنه هو ذاته العنصر الّذي رأيتُه أيضاً في صورة
الأنباريّ. كيف ذلك؟ هذا ما سأسعى لشرحه بعد لحظاتٍ.
-
صورة الأنباريّ
هناك
خلفية مائيّة لمنظر طبيعيّ يوجدُ على الأرجح في مكان إقامته الحالية وأعني به
استراليا، ثمّ هناكَ جسدُ الشّاعر الذي يطغى على الصورة ويغطّيها، ولعل أوّل ما
يثير الانتباه هو حركةُ الرأس الملتفتةِ إلى الجهةِ الأخرى مع الإبقاء على الجسدِ
(الصّدر) ثابتاً. وبما أننِي هنا بصدد الحديث عن جسد هذا المبدع فإنّ الّذي ظهر لي
منهُ في الصّورة يوحي بجسدٍ قدْ يكونُ لرجلٍ عسكريّ أوْ لراقصِ باليه، أو لهُمَا
معاً، وإنْ كانَ الأمرُ يبدو فيه مُفارقة غريبة، ولكن لا ضير، فالأنباريّ كما
الحرف والحياة، يجمعُ الشّيءَ وضدّهُ. أمّا عن عنصر التشظّي فهو موجودٌ في نظرته الموجَّهَة
إلى ما يدور في رأسهِ أثناء لحظاتِ التقاط الصّورة: تبقى استراليا خلفَ ظهره،
ويبقى العراقُ بكلّ حمولاته الحياتيّة أمام عينيهِ يستمدُّ منهُ قوتَ القلبِ
والقدرة على المضيّ قدماً في الحياة.
من
يعملُ في حقل الكتابة يعلمُ جيّداً أنَّ صُور الأغلفة ولوحاتها لا تُختارُ بشكلٍ
عبثيّ، ولا تُتْرَكُ للصّدفة أبداً، إنّها الحبلى دائماً بالخطابات والإشاراتِ
والمفاتيح، وهذا الغلافُ الذي بين يديّ يقول لي: ثمة علاقةٌ وشيجة بين الدّارسِ
والمدروس، ثمّة ماضٍ، وحاضر ومستقبل، وثمة وئامٌ وتفاهم وانسجام لأنّهُمَا معاً
يحاولان أن يجمعا أجزاءَ الزّمن المتشظّية، وخلقَ لوحةٍ فسيفسائيّةٍ جديدة قوامُها
الحرفُ والإبداعُ الملتزمُ الرّصينُ.
ما من
شكٍّ أنّ ثيمةَ أو موضوعةَ الانشطار هذه والتشظّي قد شدّتني إلى أبعد الحدود،
لدرجة أنني لمْ أشأ التّوقفَ فقط عند الجانب النّقدي من شخصيّة الأنباريّ، وإنّما
حاولتُ الغوصَ في جوانب أخرى من حياته الفكريّة معتمدةً على ما تلقّيْتُ من إشارات
سابقةٍ عن الموت والموتى، وعنِ الحرب والحصار وما إليهمَا، وقبل أنْ أبادر إلى فتح
باب السّؤال مرّة أخرى، جاءني الجوابُ من الأنباريّ نفسه حينما أرسلَ لي كتاباً
كان قد سبق ونشرَهُ في دمشق وأعني به ((كتاب الصّوامت)) (2)، وأذكر أنّ النّسخة
آنذاك كانت رقميّةً، أدخلتُهاَ إلى قارئيّ الإلكترونيّ، وقبل أن أبدأ في قراءَتها
انتبهتُ إلى أنّها كانت بدون غلافٍ، فطلبتُ بعد ذلك الحصول على النّسخة الورقيّة،
وما هي إلّا أشهر قليلة جدّا من الانتظار أو ربّما أقلّ، حتّى كان بين يديّ الكتابُ،
وفقط في تلكَ اللّحْظَةِ عرفتُ سببَ ذاك الهاتفِ الذي كان يحثُّنِي على طلبِ النّسْخَةِ
الورقيّةِ!
استقبلتُ
الكتابَ بكلِّ محبّةٍ وبهجة، وأذكرُ أنّ أوّل ما شدّ انتباهي كانَ لونُ العنوان
وطريقة نقشِه فوق الغلاف بشكلٍ بارز، لدرجة أنّني بتُّ أكرّرُ عملية تمرير أصابعِي
فوق أحرفه المرّةَ تلو الأخرى لأتحسّسَ هذا النتوءَ متسائلةً عن سببه قائلةً: أيّ
خطاب أحمر هذا الّذي يريدُ إيصاله الأنباريّ لنا؟ وبينما أحرفُ السّؤال ترنّ
بداخلي بقوّة وعمقٍ، إذا بعينيَّ تقعانِ على لوحة الغلاف لأجدَني أدخل في دوّامة
جديدة من الأسئلة المتلاحقة: ماهذهِ الدّوائرُ والأشكال الهندسيّة المتداخلة؟
لكأنّ الأمرَ فيه ما يشبهُ الحلم، أو الرّؤيا: نعم، هذا كتاب للرؤيا والرّؤى، ولن
أفتحهُ الآنَ، فمازالت ثمة العديدُ من الأشياء التي تستمرُّ في التّوارد على قلبي
من هذا الغلاف، وإنني أسمع فوقَه وقعَ خطوات رجال قادمين منهُ إليّ، رجال أعرفُ
أسماءهم جيّداً، وأخصّ بالذّكر أبا حيّان التوحيديّ، وكذلك فاسيلي كانديسكي!
آه يا إلهي، ما هذه الحمولات الثقيلة الوزن وكيفَ سأقاربها؟ أليسَ عليّ أن أعرف
أوّلا لماذا هي هذه الأسماءُ هنا، وما الذي جعلها تلتقي فوق سطح هذا الغلاف العجيب
الغريب؟
إنّه
السّؤالُ الّذي ظلَّ معلّقا لثلاثِ سنوات تقريباً، ذلك لأنني لمْ أُرِدْ فتحَ
الكتاب كي أجد الجوابَ مباشرةً، ولمْ أشأ أنْ أضع أيّ اسم من هذين الاسمين في
محرّك "غوغل" كي أبحث عنهمَا، فما زلتُ أعتبر هذا الماردَ سببَ كَسَلِ
وركودِ عقل البحّاثة والنّقاد؛ لقد أصبحَ كلّ شيء في متناول اليد، يكفي أنْ تفركَ
بأصابعكَ ظهر فأرة الحاسوب، ليأتيك "غوغل" هاتفاً: ((لبّيكَ وسعديْكَ، كلُّ
شيءٍ بين يديكَ)). ولأنّني مستغنية عن خدمة هذا المارد العنكبوتيّ، أحببتُ أنْ أصلَ
إلى الأجوبة بنفسي، وأحفّزَ ذهني على العمل والبحثِ أكثر وأكثر، لذا حرصتُ على أنْ
أضع ((كتاب الصّوامت)) فوق طاولة مكتبي حتّى لا تغادراهُ عينيّ، ويا لجمالِ ما ظلّ
يصلُ منه إليّ!
(3)
ما
بعد الامتلاء
وبعدَ
أن بلغ الامتلاءُ ذروتَهُ، قرَّرْتُ أن أحملَ قلمي وأكتب عنهُ، فكانتِ البدايةُ من
خلال جوابي عن كلّ ما سبقَ وطرحتُهُ من أسئلةٍ سأجردُ بعضها كما يلي:
- الأنباريّ والتّوحيديّ أيّة علاقةٍ
هذه؟
هذا
السّؤالُ نبعَ بداخلي من طبيعةِ عنوان الكتاب، وطريقةِ صياغته. لقد وجدتُ فيهما
معاً مسحةً تراثية ذكّرتْنِي بكتاب آخر هو لأبي حيّان التوحيديّ ومسكويه، وأعني
بهِ (الهوامل والشوامل) (3)، إذْ ليسَ التشابُهُ في صيغة الجمعِ فقط (صوامت /
هوامل / شوامل) وإنما أيضا في تركيبة العنوان؛ ففي الوقتِ الّذي كان من الممكن أن
يكتفيَ الأنباريُّ بكلمة (الصوامت) فقط كعنوان لنتاجهِ هذا، نجده أضاف إليها
مُصطلحَ (كتاب)، ممّا أضفى عليها موسيقى لفظيّة تُذكِّرُ بكتُب الأجداد وتراثهم.
لكن ماذا إذا فتحنا الكتابيْن معاً، هوامل وشواملَ التوحيدي، وصوامتَ الأنباريّ؟
لا
يساورني شكٌّ في أنّ هناك نقاط مشتركة بين الاثنين كثيرة، أوّلها خفّة ورشاقة
اللّفظ والتّعبير، وثانيهَا وحدة الهدفِ والمطلب، فإذا كان التوحيديّ في كتابه
طبيباً للرّوح يدلُّ القارئَ عبر مسائله على مواطن الخلل، ويُجيبهُ وصاحبَه مسكويه
عن العديدِ من الأسئلة التي تهمُّ سلوكياتِ النّفس البشرية، فإنّ الأنباريّ أيضا
كرّس حرفَهُ للغوصِ في خبايا النّفس، والسّعي ما أمكنَ إلى تحريرها من قيودها
وأحزانها وآلامِها عبر قوّةِ البوح والتّعبير الجسديّ والحروفيّ فوق خشبة الحياة.
ويبقى هناكَ عنصر ثالثٌ يجمع بين الكاتبين لا أعتقد أنّهُ أقلّ أهمية عن سابقيْه،
وأعني به مدى التّشابُه في السيرة الحياتيّة لكلاهُما، فذاك تجرّع منْ مرارة
التجارب والأوجاع ما لا يطيق قلبٌ ولا صدر على تحمّلها، والأنباريّ كذلكَ (4)
فهُوَ الّذي عملَ جاهداً مثل صاحبه في المنشأ والموطن على أنْ يستمدّ من ويلات
الحياة غذاءاً للرّوح، ومادّةً للكفاح والتفكير بهدف الوصول إلى نوع من توازن
النّفسِ في دنيا اللّامعقولُ فيها والعبثُ هُما عينُ العقلِ ومنطقُه الأكبر!
لكنْ
هناك شيء لا بدّ من إضافتهِ عن علاقة هذينِ المفكّرين ببعضهما البعض، وأقصدُ
تأثُّرَ اللّاحق بالسّابق، أو بمعنى آخر نهلَ الابن مِنْ معين الجدِّ، وهذا لاحظته
بشكلٍ أوضح في نصّ مسرحيّ صامتٍ سأتحدّثُ عنهُ لاحقاً، وقدْ أهداه الأنباريّ إلى
صديقه الشّاعر أديب كمال الدّين، التّوحيديَ النّفسِ والرّوح هُو الآخر.
-
لماذا فاسيلي كانديسكي؟
لأنه بكلّ بساطة كما الأنباريّ أمير الرّوح، هو مجدّدٌ
والأنباريّ أيضاً، هُو أتى بنظريات غيّرتْ نظرةَ العالم إلى الفنّ التشكيليّ،
والأنباريّ كذلك طرق أبواباً لم يطرقها قبله أحد في مجال المسرح والإخراج
والتصوير، والأهمُّ في هذا وذاكَ أنّ الأنباريّ أفادَ كثيرا من تجربة فاسيلي
كانديسكي، وهذا ظهرَ جليّا منذ أول عتبة لكتاب الصّوامت حينما اعتمدَ كصورة للغلاف
واحدة من لوحات عديدة أبدعها هذا الفنان التجريديّ الروسيّ، الشيء الذي جعلني أشعرُ
بأنّ ألوان الغلاف مجتمعةً أصبحتْ ذات طعم ورائحةٍ وصوتٍ، فلونُ العنوان الأحمر
مثلاً أيقظ فيّ الإحساس بالدّفئ والألم في الآن ذاته، ليس لأنه مرتبط بلون الدّم،
ولكن لخصائصه المتعلقة بما يُحْدِثُهُ داخلَ القلبِ من حديثٍ داخليّ له صوت وإيقاع
عميقيْن يجعلانِ من الغلاف برمّته آلة بيانو صاخبة؛ الألوانُ فيها هي المفاتيح،
وعينُ المُتلقّي هي المطرقةُ الّتِي تضربُ على أوتار الرّوح فتجعلهَا ترى في اللون
الرّملي الفاتح (أرضية الغلاف) إشراقاً وإشعاعاً، وفي الأزرق (اسم الكاتب) هدوءاً
وغوصاً والتفافاً حول النّفس، وفي لوحة فاسيلي مسرحاً قائماً بذاته، تتحركُ فيه
الألوان كما تتحرّكُ الشخصياتُ فوق خشبة الحياة.
(4)
ودخلتُ بيتَ الصّوامت
لستُ أدري لليوم كمْ من الشّهور والأيّام مرّت بالتّحديد
وأنا غارقة في قراءة الأنباريّ من خلال عناصر خارجية و"عتباتيّة" دلّتني
عليه كناقد أولا، ثمّ كرجلٍ متعمّق في أسرار اللّون وموسيقاهُ ثانيا، لكنّي أعلمُ
جيّداً كمْ كانت مهمّةً تلك اللحظةُ التي فتحتُ فيها (كتاب الصّوامتِ) بعد سفرٍ
مضنٍ طويل لأكتشفَ صحّة ما توصّلتُ إليه من نتائج قبل أن يظهر لي الأنباريّ بصورةٍ
كاملةٍ ومكتملةٍ: فهو في كتابه هذا رجل المسرح المُجدّد بامتياز: إنه صاحبُ
"الصّوامت" التي هي بصمتُه المميّزة في الكتابة المسرحيّة من خلال تفعيل
جنس أدبيّ جديد يستمدُّ قوّتَهُ من فن البانتومايم، مع الحرص على أن يتضمّن هذا
النّوع من الكتابة مزيجاً بين فنَّي القصة والمسرح، وبين عنصرَي الأسطورة والثرات،
ثم الحكاية المعاصِرة، دون إهمال إشكاليّة الانفتاح على رؤى إخراجيّة مختلفة تتيحُ
التخاطبَ مع العالم بلغة كونيّة يفهمها الجميع بعد أن يصبحَ النصّ المكتوبُ
منقولاً على خشبة المسرح.
ما من شكٍّ أنّ المسرحية الصّامتة لها لغتُها، لغة على
الممثل المسرحيّ أن يؤدّيها بجسده بشكل خلّاق يعتمدُ على إتقان كلّ أنواع الأداء
الإيمائيّ والحركيّ الجسديّ حتّى يحدثَ الامتلاءُ، ويصبحَ الصّامتُ ناطقاً. ولعلّ
هذا هو ما لاحظتُه بالضّبط، وأنا أقرأ نصوصَ الأنباري الّتي رصّها الواحدة تلو
الأخرى بعنايةٍ شديدة في كتابه بعد أن أفاضَ جمعٌ من النّقَدة في الحديث عن تجربته
التجديديّة والتعريف بها (5)، بشكل عَمَّقَ وطوّرَ نظرتي وفكرتي عن أدب الأنباريّ
المسرحيّ، الشّيء الّذي دفعني إلى مغادرتها والمضيّ قدماً في البحث عن نصوص أخرى،
أجدُ فيها بعضا من آثار أبي حيّان التوحيدي، ولم أتوقّف إلّا بعد أن وجدتُ ضالّتي
أمام عتبة الباب نفسه الذي قادني إلى صباح الأنباري، وأعني به باب أديب كمال
الدّين!
(5)
ما بعد (كتاب الصّوامت)؛
قراءة في مسرحية (الموت بين يديّ القصيدة)
إنّني هنا أمام حرفيْنِ؛ أحدهما أراهُ صامتاً وهو صباح
الأنباريّ، والثاني صائتاً هو أديب كمال الدين، وبينهما حرفٌ ثالث ينطقُ تارة
ويصمتُ تارات أُخَرَ، وأعني به أبا حيّان التوحيديّ، وهو الأصلُ والنّبع والمصدر،
وأقول هذا لأنّني أراه اللحظةَ يقودني إلى إشاراته الإلهية لأقرأَ على ضوئها كلمةَ
الإهداء التي افتتح بها الأنباريُّ نصّ (الموت بين يديّ القصيدة) قائلاً: ((مسرحية
صامتة مهداة لصديقي الشاعر أديب كمال الدين بمناسبة إشاراته الصائتة))، فعن أيّة
إشارات يتحدثُ صباح؟ ولماذا نعتها يا ترى بالصّائتة؟
هذان السُّؤالان لا يمكنُ الإجابة عنهُما إلّا عبر
تتبُّع تواريخ إصدارات كِلا المُبدعيْن، فإذا كانَ صباح قد كتبَ نصّه الصّامت هذا
سنة 2014، ونشرهُ على صفحات العدد 61 من جريدة تاتو (6)، فإن أديب كمال الدّين
نشرَ في السنة ذاتها ديوانا بعنوان (إشارات الألف)، وعليه فإنّ الإشارات التي
يتحدّثُ عنها صباح الأنباريّ في إهدائه هي نفسُها إشارات الألف، وهي نفسها التي
ستقودني إلى ديوان آخر للشّاعر، وأعني به (جيم) الّذي صدر سنة 1989 (7)، وأوّل نصّ
فيه يحملُ عنوانَ (إشارات التّوحيدي). سؤالي الآن: ما الّذي جعل الشّاعرَ يعودُ
للتوحيديّ من جديد بعد خمس وعشرين سنة مضت، وما الّذي دفع بالأنباريّ إلى إحياء
فكر هذا الفيلسوف العارف في نصوصه الصّامتة، وبالذّات في نصّ (الموت بين يديّ
القصيدة)؟
إنّ من يتصفّح ديوانيْ (جيم) و(إشارات الألف)، سيجدُ ولا
حتمَ الجواب: فالأمر فيه إعادةُ قراءة لفكر التوحيديّ بحرف التّجديد، مع الحفاظ
على بعض الموضوعات التي طُرحت سابقاً في (جيم) مع صياغتها بشكلٍ جديد في ديوان
(إشارات الألف)، وهي الموضوعات أو الثّيمات التي أجردها كما يلي:
يظهُر
أديب كمال الدّين في مختلف إشاراته كعارف مستغرق بالكلّية في المطلق، ولأنه يصلُ
في تجلّياته إلى حالة يصعبُ معها التعبير عن كشوفات الحُجُب، فإنه يحاوُل أن يُوصلَ
خطابَهُ بلغة مخصوصة، هي لغة الإشارة والرمز الموجّهة للخاصّة، وخاصّة الخاصّة،
والبعيدة بالتالي عن فضول الجهلاء، ولأنّ إشاراته فيها الكثيرُ من التّلويح
والإيماءات إلى أسرار معيّنة عبر الإخبار من غير الاستعانة بتعبير اللّسان للطافة
المعاني، فإنه يبدو أمراً طبيعيا أن يكون صباح الأنباري أوّل الملتقطين لإشارات
صاحبه في الحرف، وكيف لا يكون أوّلهم وهو المُنَظِّر التجديديّ لما سأسمّيه بمسرح
الإشارة القائمِ على أسس الإبداع الأدبيّ الصّامت، والذي في إطاره ومن خلاله، حاول
أن يجعلَ من إشارات أديب كمال الدين نصّا مسرحيّاً صامتاً قابلاً للعرض بكلّ ما يحويه
من عناصر مسرحية كاملة بدءاً من فعلِ الكتابة ووصولاً إلى إخراجه وأدائه فوق
الخشبة.
وصباح
الأنباريّ في كتابته لنصّه (الموت بين يدي القصيدة)، استخدمَ تقنية التناصّ
الإشاريّ منطلقاً من النصّ الأديبيّ (8) وهي التقنية نفسها التي لجأ إليها أديب
كمال الدّين فجاءت بعض قصائد (إشارات الألف) متناصّة مع بعض نصوص ديوان (جيم) (9)،
وكذا مع نصوص أبي حيّان التّوحيدي، والتي جاء التناصّ فيها ضِدّياً.
ومن
يتأمّلُ إشارات الفجر والشّكوى والموت سيجدُ ما يؤكّد هذا القول، ذلك أنّ أديب
كمال الدين لا ينتقلُ من سؤالٍ ما في إشارة معيّنة، إلّا وتجدُ الجواب عنه في
إشارات أخرى متوزّعة بين الدّيوانين سواء أتعلّق الأمر بديوان (جيم) أو بديوان
(إشارات الألف).
أمّا
فيما يتعلّقُ بالتناصّ الضِدّي مع إشارات التوحيديّ، فإنّي أعني به ذاكَ العملَ
الحفرّيَّ الذي قام به أديب كمال الدّين حينما كان في شبابه مرابضاً أمام عتبة
الحرف التوحيديّ، والذي أسفر في سنوات متقدّمة من عمره عن قصائدَ حبلى بردود تابثة
عمّا سبقَ وطرحَهُ أبو حيّان من أسئلة أو إشكاليات في كتابه (الإشارات الإلهية).
فإذا
كان التوحيديّ يقولُ على سبيل المثال لا الحصر ما يلي: ((مطرت السّماء فلم تبتلّ
بقطرةٍ من قطراتها، وهبّت ريح الولاية فلم تعبق بنسيم من نسماتها، وغنّت ضمائر
الحكمة فلم تطرب على لحن من ألحانها، وجليت عرائس الهدى فلم تتشبّث بذيل من أذيال
واحدة منها، فيا جافي الطّبع ويا قاسي القلب، ويا سيّء الاختيار: كيف يطمعُ
الطّامعُ في رشدكَ وهذا نظرُكَ لنفسِكَ؟)) (10) فإنّ أديب كمال الدين يجيبهُ
قائلاً في إشارته التالية:
((إلهي،
انهمرَ
مطرُكَ وبرقُك
فبلّلا
ثيابي وجسدي وروحي.
ونظرتُ
إلى غيمتِكَ التي ملأت السماء
بعينين
تفيضان دمعاً.
نعم،
أردتُ
أنْ أجيبَ على مطرِكَ بدموعي،
وعلى
رسالتِكَ المبلّلةِ برسالةٍ أكثر بَلَلاً،
وعلى
إشارتِكَ المليئةِ ببرقِكَ الهائل
بإشارتي
المليئةِ بظلامي العظيم)) (11).
وهي
ذاتها الإشارةُ التي انطلق منها صباح الأنباريّ من أجل تأسيس صرح نصّه المسرحيّ
الصامت الموسوم بـ (الموت بين يدي القصيدة)، مستخدماً في عمله هذا عدّة تقنيات
فنّية أذكرُ منها على التوالي: الضوآنية، التشظّي المرآتيّ (12)، ثمّ تقنية الصّوت
الموسيقيّ. وهي كلّها تقنيات مرتبطة ببعضها البعض، ولا يمكنها أن تعمل أبدا في
البعد عن النصّ الأصليّ، الذي هو ديوان (إشارات الألف) باعتباره المادّة الخامّ
التي منها تخلّقَ نصّ الأنباريّ كما هو واضح في مصامت النصّ الخمسة والتي تجلّت
فيها العديد من قصائد أديب وإشاراته (13).
أمّا فيما يتعلّقُ بالضوآنية، فقد استخدمها الأنباريّ
بشكل شلّاليّ تدفقيّ بحيثُ يتوقّفُ كلّ عنصر من عناصر الضّوء على باقي العناصر
الأخرى، حتى تكونَ هناك أسبقية للكلّ على أجزائه، أيْ أنّ كلّ عنصر من عناصر
الضّوء لا يتّخذُ معناه الحقيقيّ إلّا بالوضع الّذي يؤدّيه داخل المجموعة، التي هي
هنا حزمة من أضواء مختلفة متدفّقة وهّاجة بشتّى الألوان، مع قدرتها على التوالد
والتبرعم إلى حزمات ضوئية جديدة تتخلّقُ وتتحوّلُ إلى كائنات تستمدُّ حياتَها من
الطّبيعة بكافّة عناصرها المُزهرة، مما جعل المكانَ الذي رسمه الأنباريّ في نصّه
يبدو كأنّه حلقة وصل بين الفضائين؛ الدّاخليّ والخارجيّ، وبين العناصر المكوّنة
لهما وذلك بغرض تحويل الكلمة إلى رؤيا سارية المفعول في المكان والزمان.
وأمّا فيما يتعلّقُ بتقنية التشظّي المرآتيّ، فهذا أمرٌ
له علاقة بالإشارة الأديبيّة نفسها التي ترىَ أنّ الوجوهَ لا تتعدّدُ إلّا بتعدّد
المرايا، ولا تتجعّدُ إلا بتجعّدها ولا تُظلِمُ إلّا إذا أظلمتِ المرآةُ نفسها
(14). ولمّا كانت مرآةُ العارفِ غير محدّبة ولا مقعّرة، ولا مُظلمة ولا صدئة،
فإنها تُعَدُّ أقدرَ المرايا على أنْ تعْكِسَ جمالَ باطنِ الإنسان، ولمّا أرادَ
صباح الأنباريّ أنْ يُعبِّرَ عنْ هذا الفعل الانعكاسيّ، حتّى يُظهرَ للقارئ
والمتلقّي بشكل عامّ الكيفيةَ التي يحْدُثُ بها الوعيُ في السّلوكِ الصوفيّ، فإنهُ
لمْ يجِدْ من وسيلةٍ لتحقيقِ ذلك سوى اللّجوء إلى عنصر المماثلة، لأنّ سبيلَ
المغايرة مسدودٌ عليه في هذا الإطار، وعليهِ تُصْبحُ القصيدة هي المُجسِّدَةُ
لحضورِ الضدّية الجنسانيّة في التّجربة الأديبيّة، حتى أنّها قد تُصْبِحُ بديلاً
للضدّيّة الجنسانيّة المتعارف عليها عند أهل العرفان، والتي هي المرأة.
لا شيء عفويّ في نصّ الأنباريّ الصّامت، بل حتّى
الموسيقى المستخدمة كتقنيّة بالغة العمق والتطوّر هي متشكّلة من جدلية الحركة
والصّوت التي يقوم العرضُ بالجمع بين مختلف أطرافها من أجلِ تحقيق نوع من الحضور
الجماليّ الجديد عبر علاقة جدلية مع حدود الخشبة، والمنظر المسرحيّ الذي يُجَسّدُ
فعلَ ولادة القصيدة. ولادة لم يكُنْ للمتلقي أنْ يطَّلِعَ على تفاصيل إشاراتها،
ومواطن الجمال فيها لو لم يجتمعْ في محراب الإبداعِ، هذا الصّامتُ وذاكَ الصّائتُ:
صباح الأنباريّ، وأديب كمال الدّين.
الهوامش:
(1)
صباح
الأنباري، إشكالية الغياب في حروفية أديب كمال الدّين، منشورات ضفاف، ط1، بيروت،
لبنان، 2014.
(2)
صباح
الأنباري، كتاب الصوامت، دار التكوين، ط1، دمشق، سورية، 2012.
(3)
أبو
حيان التوحيدي ومسكويه، الهوامل والشوامل، الذخائر، القاهرة، مصر، 2001.
(4)
صالح
الرزوق، سيرة كاتب ومدينة (لقاء مع صباح الأنباري)، تاريخ النشر والدار (لا
يوجدان)، صص 13 /15.
(5)
أذكر
منهم على سبيل المثال لا الحصر؛ عبد الفتاح رواس قلعة جي، ثم سعد محمد رحيم وتحسين
كرمياني وعلي مزاحم عبّاس.
(6)
صباح
الأنباريّ، الموت بين يديّ القصيدة، جريدة تاتو، العدد 61، السنة الخامسة، تمّوز
2014، صص 14/15.
انظر
أيضا: صباح الأنباريّ، المجموعة المسرحية الكاملة، المجلّد الأول، المسرحيات
الصّوامت، منشورات ضفاف، بيروت، لبنان، 2017، ص 225.
(7)
أديب
كمال الدين، جيم، دار الشؤون الثقافية العامة ، ط 1، بغداد – 1989.
(8)
نسبة
إلى أديب كمال الدّين.
(9)
انظر
في ديوان (جيم): إشارة الشكوى، وفي ديوان (إشارات الألف)؛ إشارة لماذا؟.
وانظر
في (إشارات الألف) إلى كلّ من (إشارة الحرمان) واربطها بـ (إشارة الشكوى) في
الدّيوان نفسه.
(10)
أبو
حيّان التوحيدي، الإشارات الإلهية، تحقيق د. وداد القاضي دار الثقافة، بيروت،
لبنان، 1982، ص4.
(11)
أديب
كمال الدين، إشارات الألف (إشارة الجواب)، ط1، منشورات ضفاف، بيروت، لبنان، 2014،
ص 41.
(12)
نسبة
إلى المرآة.
(13)
المصمت
الأوّل، الإشارات التالية:
- إشارة لا ولا ؛
- إشارة الجواب؛
- إشارة المرآة؛
- إشارة أصابع الشّاعر؛
- ثمّ إشارة من أنا.
المصمت
الثاني ظهرت فيه:
- إشارة نوح؛
- وإشارة القاعة.
المصمَت
الثالث:
- إشارة رقصة الوحوش
المصمت
الرّابع:
- إشارة الموت.
المِصْمَتْ
الخامس:
- إشارة نهاية الحرب؛
- وإشارة الشّمعة.
(14)
انظر
غلاف كتاب صباح الأنباريّ (إشكالية الغياب في حروفية أديب كمال الدّين، منشورات
ضفاف، ط1، بيروت، لبنان، 2014.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق