تصنيفات مسرحية

الجمعة، 16 يونيو 2017

العرض المسرحي "من سيرة المدعو حمد" أنين الثكالى وبوح المقهورين

مجلة الفنون المسرحية




 كاظم اللامي

من بين كل ما كُتب، لا أحب سوى ما كتبه الأنسان بدمه....

فريدريك نيتشه

عند تراكم الوجع متكدسا في القلوب كأصابع ديناميت تتفجر الهواجس بأفكار يتجلى على إثرها فعل المسرح الواعي صورا إبداعية براقة وبمعانٍ مختلفة وفقا لحقيقته المستسقاة من بحر تجاربٍ متواترةٍ لصناع الجمال على مختلف مشاربهم واتجاهاتهم ومدارسهم الفلسفية والفنية،  لذا نجده أي المسرح يقف بانتصاب جبلي معلنا عن نفسه فوق الفنون الأخرى بتبني الهم اليومي الإنساني وبتماهٍ توأمي معه وبدرجات عالية من الصدق والموضوعية وما يدعم هذا القول وبدلالات واقعية تشهدها خشبات مسارحنا هذا الفكر المتقد لجهد تجريبي يتماهى مع المصطلح باحترافية كبيرة توازن بين الحداثة والماضي من خلال فكر متجدد ومحافظة قيمية على ما هو موروث من تجليات إبداعية، كذلك نجد المسرح ترجمان حقيقي لما تتناوله السنة الناس من قصص هي المادة الأساسية المشتركة لميثولوجيا متواطئة مع الواقع تختصر تاريخ أجيال من البشر، وتماشيا مع عقيدتي المسرحية أرى أن من يحاول اكتشاف وتحري وتقصي حضارة قوم عليه أن يراجع الموروث المسرحي عرضا وكتابة، ومدى تواجد حياتهم اليومية ومشاكلهم العصيةُ عن الحل ظاهرة على أديم الخشبة، ومدى قدرة هذا الموروث على توثيق تداعيات أرواحهم كنوع من العلاج التطهيري في خضم تغاير نفسي محتدم بيئته النفس البشرية التي استهلكتها حكومات تتلذذ بالقهر والحروب، فضلا عن قدرة هذا الموروث على تضمين عروض المسرح بعضاً من أحداث مهمة مرت بالوطن بحلوها ومرها لها جذور في ذاكرة فرد وجماعات عاشوا فيه واستفوا آلامه الموجعة، فالحضارة الحقيقية هي تجسيد كل ذلك وبشكل فني جمالي تحريضي على خشبة المسرح أو توثيقه ككلمات هامسة على ورق نصي تحت بنط عريض عنوانه النص المسرحي .؟؟؟.

اليوم ونحن نتفيء ظلال الوجود واستنشاق هواء الله في كنف العقد الثاني من القرن الأول للألفية الثالثة، سنرى ومن خلال المقالة مدى صدق ما أسلفنا من رأي وهو يمر على تجربة مسرحية ميسانية بعملية تقص للجمال وتتبع آثاره من خلال التفكيك والحلحلة والاستكشاف والتفسير لطبقات لعرض المسرحي الميساني (من سيرة المدعو حمد) تأليف وإخراج المبدع صلاح أبو الحسن الذي عرض ليومين متتاليين 17_18/ 5 من سنة 2017 وعلى قاعة النشاط المدرسي في ميسان هذا الدائرة التربوية المتميزة في كل شيء والتي كانت ولا زالت تقدم الكثير من الخدمات الثقافية والإبداعية في ميسان من خلال كادرها المتميز  وعلى راسه الأستاذ علي الربيعي سابقا والأستاذ علي كاظم حاليا  حيث شهد النشاط تحت مسؤوليتهما الكثير من محطات النجاح والتالق وربما تكون شهادتي مجروحة بهم لانهم أصدقائي ولي تجربة بالعمل معهم لكن الحقيقة تعلو لوحدها لتؤكد ان جهود هذه الدائرة الفنية التربوية علامة فارقة في جسد الثقافة الإبداعية الميسانية ويتشرف الكثير منا بالعمل والتعاون معها.

قبل ان نخوض في غمار العرض المسرحي ونبحر في عناصره المتعاضدة نتطرق ولو ببعض الإشارة الى خواص ثنائية التأليف والإخراج التي تصدى لها بنجاح نسبي الفنان الأكاديمي الجميل صلاح أبو الحسن وهو من أساتذتي الذين أتشرف بإشعاعهم الفكري علينا وعيا ومعرفة كما افتخر بكافة كادر العرض وهم أساتذتي الذين لهم فضل عليا مسرحيا وفكريا.

 هنا عاش أبو الحسن صراعا مريرا بين ذاته الكاتبة وذاته المخرجة فكان لابد من تصالح وإحلال للسلام بين الذاتين، او غلبة إحداهما على أختها لإنتاج صورة وظيفتها الجمال، وجدنا هذا الصراع ماثلا من خلال العرض ولم يحل السلام بينهما حتى آخره بموت البطل حمد ومقولة ابنته (ان كان هذا يرضيك فخذ حتى ترضى) وفي الختام رجحت كفة الكاتب المتألم في ميزان الفرز والتمحيص والتحليل على المخرج المخيال لكونه الأول في استحضار حمد وإجباره على بوح سيرته أمام قلمه الشعري وهذا ما نجده حقا لدى الكثير ممن مارس الكتابة والإخراج لابد ان نرى وجه احدهما يطل ببقعة ضوء واضحة تختزل الآخر وهذا ليس عيبا بل حقيقة جمالية رائدها سلطة فنية تميز الاثنين.

علاقة أبي الحسن الكاتب بأبي الحسن المخرج علاقة ابتكار أفكار جديدة دسمة واكتشاف أفكار باطنية بيئتها الروح تتأجج لدى كل منهما باحتدام بركاني، وكأن المخرج متفرج أشرك بكتابة النص دفعه خياله المتجدد لتبني العمل،  والملاحظ ان عملية البناء والتطوير كانت تسير بجمالية خاصة، عكست التعاون الكبير بين المؤلف والمخرج مع احترام شخصية كل منهما للآخر لاعتبارات مهمة أن كل مؤلف هو مخرج ثاني وكل مخرج هو مؤلف ثان، مما ولد أريحية معينة لدى أبي الحسن الجامع للذاتين العاقلتين الغائبتين تحت رداء حمد كي يكتب ويخرج بلا ضغوط يمارسها أحدهما على الآخر كما هو الحال في تبني ذلك من شخصيتين مختلفتين في انتتاج العرض المسرحي كما هي العادة الدارجة في كل العروض المسرحية.

لكن أرى ومقاربة لتجارب عالمية وبما إن زمن وفعل الكتابة وبيئتها يختلف عن زمن وبيئة فعل الإخراج مما يعني أن هناك تفاوتا بين أهداف الأول عن الثاني مع اختلاف في الرؤى وان كان دقيقا لا يلحظ لكنه موجود ولا نعرف مدى تواجد هذه الفكرة والجزئية في طبيعة عمل أبي الحسن مؤلفا وعمل أبي الحسن مخرجا لعدم توفر النص لدينا لكننا نبني على الحوار كفعل مؤلف وعلى مكملات العرض كفعل مخرج.
على الرغم مما تقدم نرى أن هذه الأريحية المزعومة هي اختلاق ذاتي نحاول تسويقه كبث بعض الاطمئنان للوالجين هذه المهمة لكن الحقيقة هي أكبر واعمق من ذلك نتيجة للظروف المتباينة بين المؤلف والمخرج والمدلول السيميائي الطافي فوق سطح كل منهما حتى لو كان هو ذات المؤلف والمخرج المتبني لهذا العمل او ذاك ... وهناك رأي يؤكد ما نقوله ويدعمه فلسفيا أراه حقيقيا ومناسبا وهو للكاتب والمخرج المسرحي الراحل قاسم مطرود في احدى حوارياته، انه حينما يكتب نصا حتى خاتمته ينتهي دور قاسم مطرود المؤلف ثم يأتي قاسم مطرود المخرج ليهدم جميع ما بناه المؤلف أي يبني فوق انقاض ما بناه هو نفسه ويبدأ من جديد وهذا القول لا يعني انه يلغي المؤلف بل سيحتفظ بروحه خالدة في طبقات ما سيقدم مطورا ذلك ببناء جديد بلبنات من صنع المؤلف ومؤونة المخرج  وفي نهاية المطاف كانت هناك صورة مفادها ان المؤلف أبا الحسن وضع شخصيته وميولاتها النفسية وذاته وهيولاتها المادية بشكل حبر على ورق وقدمه للمخرج أبي الحسن فكان ملزما ان يحيي هذا الورق والكلمات المخطوطة عليه بخياله فنجد اثره في الكلمة ونغمتها، والمحاكاة وصدقها، والإيماءة وأثرها، والحركة وصورها، والماكياج وجمالية واقعيته، وتصفيف الشعر وحرفنته، والملابس ورسائلها، والإكسسوار ومشروعيته الدرامية، والمناظر ويقينها في نقل المكان بين يدي المتفرج، والإضاءة ودورها الجلي في تأزيم الصراع، والموسيقى ومحاكاتها لنبضات القلب العازفة تطهيرا، والمؤثرات الصوتية وقدرتها على تقريب خصال الزمكانية.

العتبة الاسمية وتشكلها كعنوان أولي للنص وربما نهائي للعرض يمثل ترجمان حقيقي واضح المعالم ودلالة ناضجة تتيح للمتلقي التجوال بأريحية لسبر أغوار المنتج الفني والأدبي ومنها هذا العرض المسرحي الذي نقف الآن على عتبة الولوج لعالمه الثر المليء بإشكاليات وأسئلة تحتاج إجابات غنية وتستحق منا المتابعة والمضي بعيدا في طيات رسائله العديدة العامرة بالصور ... إذن يمثل العنوان لنا باسوورد موضوعة العرض المسرحي رغم أن هناك من أراد التميز بطريقة وأخرى من خلال عنوان غريب لا يمت للعرض بصلة لكنه اختير لغرابته لجلب انتباه المتلقي وهذا امر أجده سلبي بكل ما للكلمة من معنى، لأنك بهذه الصورة تمارس دور المحتال الذي يزيف الحقائق للمتلقي ومنذ البداية، فتسمية المسرح أبو الفنون لم تأت من فراغ، بل أتت فضلا عن تكامل عناصر العرض وتواشجها جماليا أتت من خلال مميزات وصفات ووظائف عديدة اشتركت ببلورته كفن جامع لجميع الفنون وقيمها المعنوية وأهمها، الصدق في الطرح، الصدق في المعالجة، الصدق في بث المعلومات. لذا أرى أن الزيف في مورد العنوان هو زيف في بقية العرض، كما لا يفوتني أن اذكر بان شعرية العنوان تفعل فعل السحر في دواخل المتلقي وشحنه بعوامل الاسترخاء مع فيض من التركيز الواجب تواجده لتأكيد التواصل بين النص والممثل والمخرج على حدة وبين المتلقي وكل ذلك يحصل في عملية كيمياوية نقية معروفة الخطوات وبنتائج باهرة تصب في بلورة وصيرورة مجتمع متحضر مجتهد مثقف يجيد التحليل والتفسير وإيجاد الحلول لمشكلاته المعاصرة الحاضرة فوق الخشبة.

واجهنا صلاح أبو الحسن وقبل أن ندخل القاعة لمشاهدة فعله الجمالي وبأسابيع مضت برمي قنبلة موقوتة في ساحة ذاكرتنا الموشومة بالوجع والحنين واجترار الصور النابضة بالألفة زمكانيا مع دواخلنا الشعبية وكأنه يجمع شتات أيامنا الماضية ويلفها في قطة قماش كنا نسميها في الدارج الشعبي (بقجة) ويرميها في أحضاننا بقوله(هذا ما خلفته أيامكم الغائرة بالهضيمة لوجود لم تحصلوا فيه على ذؤابة كرامة عشتم ومتم وانتم تحلمون بها) طالعنا واطل علينا وارسل لنا كل رسائله الجميلة تلك بعنوان مجايل لتاريخنا القريب الذي عشناه ومازلنا نستف حجارة جنونه (من سيرة المدعو حمد) .

من عرف حمد فقد عرفه .. حمد هو بطل قصيدة الشاعر العراقي مظفر النواب التي كتبها عشية بركان فجرته امرأة نازفة حنينا عشقت ابن عمها ذات جمال ذات صدق ذات فطرة ذات إنسانية ... أين؟ في قرية (أم الشامات) الماكثة على طريق ناصرية / بصرة في زمن كانت القلوب بلباس ابيض كطهر مريم والزهراء، ونزولا عند قوانين العشيرة الغائبة في صحراء التخلف يُمنع وبشكل لا يقبل النقاش مثل هكذا عشق وهو ما يسمى العشق الممنوع ولا يجوز تزويجهما فاستحقت عقاب أهلها وأهله فأبعدت وربما هربت الى العاصمة بغداد ولما وصلت الأربعين التقاها النواب في القطار القادم من بغداد فقصت له وهي تنفث سجائر أحزانها دخانا يلون القطار الهادر بصوته المرير وبالوان تغازل العاشقين لذا كتب الشاعر قصيدته الريل وحمد لكنها أي القصيدة فيها إدانة كبيرة لابن عمها حمد الذي تخلى عنها ولم يرافقها الى المنفى القريب البعيد بغداد، وهنا يجب أن نناقش قضية مهمة بعد شيوع القصيدة شعبيا اصبح حمد موروثا أسطوريا يتداول سيرته الناس ليأخذ مديات ومنحنيات كثيرة غيرت من اصل الحكاية وحقيقتها وسبب نزولها ليبدو حمد بطلا في نظر الكثير .. ومن هنا بدأت الأقلام تشمر عن هواجسها والقلوب عن فيض مشاعرها بالكتابة اقترابا من حمد وحبيبته والنواب وقصيدته رغم أن أكثر هذه التجارب أخذها روج الشط بعيدا عن أصل الحكاية وقصيدتها، والثابت المحوري المتقصي لجذور حمد تلخص في تجربة المطرب الكبير ياس خضر الذي قدم لنا أجمل أغانيه (يا حمد) وهي من الحان الموسيقار الكبير محمد جواد أموري.

وفقا لما تقدم مارس البعض من الأدباء والفنانين سلطتهم البوحية في ترويض حمد وإضاءة المعتم من سيرته بأضوائهم الرومانسية الكاشفة وقد تناسوا بل أحجموا عن ذكر البطلة التي تنكر لها حمد وتنكر لاسمها حتى النواب ولم يذكرها في لقاءه بقناة الفيحاء الفضائية في أيام تلت الاحتلال الأمريكي للعراق في 2003، لكن الملاحظ وبقوة أن جميع تلك التجارب المتأثرة بالنواب وحمده جعل من حمد أسطورة خالدة بتقديس غريب في ثقافة الميثولوجيا العراقية تجاوزا مع انحراف شديد عن واقع الأشياء، لاعتبار مهم، هو التناقض الخطير بين الحقيقة الموضوعية وبين اجتهاد الإسقاط المعنوي، لا نبتعد كثيرا بطرحنا ولنعرج على ما يعنينا من حمد وسيرته بخصوص العرض المسرحي ونرى مدى اقتراب أو ابتعاد عنوانه (من سيرة المدعو حمد) من حمد النواب وطيشه الشعري، ونتبين أيضا تفاصيل هذه السيرة العبقة برائحة التراب يوم ترشقه زخة مطر تشريني، ونتعرف كيف تعامل أبو الحسن مع الحتمية التاريخية والإلهية لوجع في حدود جرح كبير ابتلع الوطن بآهاته الجنائزية.

بدأت اللعبة المسرحية المعنونة(من سيرة المدعو حمد) والتي هي من صنع صلاح أبو الحسن من خلال المشهد الاستهلالي المتمثل بصوت كريمةِ حمدٍ (حنين علاء) وهي تغني مقطعا من أغنية الفنانة أنوار عبد الوهاب للشاعر زامل سعيد فتاح والحان محمد جواد أموري، هنا توهجت الثيمة لدينا بأن هناك وجعا سيروي تاريخ أجيال مهزومة يتضوع منه عطر الأغاني الأثيرة على القلب فالأغاني كانت مهربنا الوحيد بعيدا عن مرارة الحياة(عدْ وانه اعد ونشوف ياهو اكثر هموم..من عمري سبع سنين وكليبي مالوم) وبعد أن كشفت الإضاءة عن تكوينات الخشبة بوجود حمد (جبار مشجل) على يسار الخشبة وابنته على يمينها، هو ممسك بخوذة، وهي تتشكل بهيئة تمثال تسواهن برفعها يدها باتجاه السماء، وهنا وليسمح لي أساتذتي ان تلك الصورة مقدمة منمطة مكرورة او تعبير احتفالي جاهز ومسبق تقليدي ومعهود ألا وهو الوقوف على الأطلال بظهور تسواهن والأغنية، لكنها تبقى رؤية مخرج لابد لنا من احترام خياله، ثم بعد ذلك بدأت خيوط اللعبة تنكشف بجمالية حتى انتقل بنا أبو الحسن الى زمن عصيب عاشه العراقيين إبان الحرب، حيث مازج صلاح أبو الحسن بين موروثاتنا القصصية طيلة عقد من الزمن وهي تجتر العويل من خلال سيرتين في سيرة واحدة، سيرة حمد التي يؤمن بها أبو الحسن أو التي اختلقها خياله، لا سيرة حمد مظفر النواب إنما سيرة أخرى، حمد جديد طالته يد دارون ونظرية التطور لكنه يبقى يسير على نفس سكة حمد السابق، وبين تسواهن وقصتها المختلقة هي الأخرى في ذهن أبو الحسن وهنا اجد بعض الترهل في استدعاء الشخصيتين لكنه ابتعد بعد ذلك عن الخوض في سيرة الشخصيتين لينساهما المشاهد في خضم الأحداث المتلاحقة ربما هي ومضة أراد بها أبو الحسن لشدنا لمتابعته من خلال تلك الصور الماكثة بقوة في ذاكرتنا الجمعية، لكن في النتيجة وجدت مبررا لهذا التشكيل التسواهني، أقولها مجازا إن ما وردنا حقيقة وواقعا عن تسواهن هو هذا التمثال المرئي بمعدنه الآيل الى الصدأ والمتوسط حديقة حديثة في محلة الماجدية في العمارة، أما القصة المتداولة لدى العامة وفحواها ان تسواهن امرأه من منطقة السوده  والبيضه، اكتبها هكذا اقترابا من لهجة أهل الجنوب، وفي لجة غزو الجانب الإيراني وسيطرته على مناطق شاسعة من العراق تصدت لهم تسواهن فقتلت منهم الكثير وفيما بعد أوجد الجميع وحسب ميولهم الثقافي والسياسي وحتى العشائري لقصة تسواهن تلوينات عديدة سقطت جميعها في خانة خدمة متواليات الأنظمة الاستغلالية للأحداث والشخصيات العامة وحسب مزاجها الفكري والسلوكي مع العلم ان مصمم التمثال وهو النحات الراحل احمد البياتي وفي حوارات كثيرة أكد إن تسواهن الحقيقية وتمثالها الذي صممه في إيطاليا قد تمت سرقته ماديا ومعنويا فكان في خدمة غرض غير الذي صمم من أجله.

استثمر أبو الحسن حقيقة الأغنية بلحنها الحزين والبطيء المتثاقل بتفاعل كيمياوي مع التعب والوجع الماثل في صورهم (حمد وابنته) للهرب حيث الظلام والمشاعر المأساوية السائدة في روح المواطن المسحوق وهذا ما درج عليه أبو الحسن كثيرا كلمات الأغنية تنطق برهان مترع بالمعاني والصور مفاده... أن الفتاة كانت تجادل أباها وربما الجمهور أيضا، جدال يشي بالمراهنة معهم ... لكن ما شكل وطبيعة هذا الرهان ... من يزعم انه تألم أكثر مني؟ لنمسك ورقة وقلم ونعد مآسي بعضنا، تاريخ طويل من النكبات وخاصة لفتاة يتيمة في ريعان الصبا وفي زمن عاهر بصحبة وحش كاسر لا يفقه لغة للتعايش غير القتل والجنس، وكما قلت توظيف جميل للأغنية وتمهيد ذكي لدخولنا مسالك العرض المسرحي الغنية بالصور... ظهرت الفتاة ببقعة على يمين المسرح وهي تظفر حبالا بالوان زرقاء وحمراء نازلة من اعلى وحسب قولها أنها تحيك سترها لترد على أبيها حمد الذي كان ممتعضا من سماع هذه الأغنية وكانه ملها لاعتبارات انه كان يجاهر بها هو الآخر في المراهنة مع غيره من الموجوعين بانه اكثر وجعا واشد درامية منهم لكن لم يحظى بتعاطف من قبل الجميع.

واجهنا أبو الحسن بقضية غاية في الروعة هي مثار جدل مرير لسنوات عديدة ومازال يأخذ حصته من وقتنا ووقت الأنظمة وتفرعاتها الاسمية الوظيفية غايات هذا الجدل تتلخص بتساؤل يحتاج لزمن طويل كي يجد له إجابات حقيقة (ماذا ترتب على الجندي العراقي الذي سقط أسيرا في الحرب من مواقف من قبل بلده وأهله وحكومته من جانب ومن جانب آخر من قبل العدو الذي أسره او الحكومة التي أتت بعد انهيار نظام صدام في 2003) هنا كانت ثيمة واقعية عولجت بشكل خيالي في طرح عديد أسئلة لو استثمرت بشكل جيد في حوارات الممثلين لكانت دستورا ينهي جدال المتجادلين على مر الأجيال .. حيث وجدنا ابنة حمد تتهمه بعدم الأهلية لان يكون زوجا لامها وأبا لها فهو بالنسبة لها (تسمع بصفة الأب لكنها لا ترى موصوفا) حسب حوارها معه وهي عبارة مريرة كانت عميقة المعنى لكن لم نرى ذاك التفاعل معها حواريا أو حتى على مستوى الممثل كإيماءة أو حركة أو ردة فعل بأداة ما، فمن ترك زوجته وابنته في مهب الريح يتلاعب بمصيرهم زمن قميء، إناث في زمن ذكوري امعن في هرسهن تحت عجلات قطاره الماشي على سكة شيطان بسرعة رغبة يحكمها مجون تعلق في استار نصف سفلي لنون النسوة لتحقيق نوع من الانتصار الغبي على أنثى بلا قوة تحميها وبلا رجل يدافع عنها وهي إدانة للجميع وفقا لذاكرتنا الجمعية، فمن مزق سترهن هذا مدان أصلا لكن المشكلة فيمن كان يشاهد ويتابع دون ان تخرج من فيه كلمة اعتراض على اضعف الأيمان... هنا نؤشر بشيء من عدم الرضا على دفاع حمد الضعيف الغير مقنع في هذه المحاكمة المصيرية بعدم قدرته على الرفض أمام قوة ميناتور حكم الناس بالحديد والنار وهو يقول بفلسفة لا تعدو أن تكون تهويمات ملاكم يصارع الهواء (بين المسالم والجبان مسافة لا يراها إلا الشرفاء) كأن أبو الحسن يريد ان يقول في هذه الجزئية كدفاع عن نفسه كرجل عاش زمن تلون بالخاكي كشعار لوطنية مزيفة سرقت كل لحظات الحياة الجميلة عنوة، (ان حمداً رجل مسالم لا توبخوه لا تحملوه فوق طاقته فهو من أراد ان لا يشوه أسماعكم بصوت إطلاقة ولا يثير فيكم رغبة بالقيء ومرأى دم بريء سفحه ساعة جنون اعذروه أعطوه فرصة أخرى كي يدافع عن نفسه).

 لكن الحقيقة هي غير ذلك بالمرة، كان حمد جبانا وبمرتبة الشرف، فهو يعلم علم اليقين من سيخلف وراءه لو سقط في شرك الشهادة المزيفة التي يريدها له الميناتور، وجميعنا يعرف ما آلت اليه نساء الشهداء في عراق كان للرجل فيه له القدرة على التلون والتصنع كثيرا باحترام المرأة وما ان يجد منفذا لديها باستثمار ضعفها ووضعها العام كالحالة المادية او الزوجية او حتى الصحية، تجده قد تحول الى وحش كاسر، وهذا الأمر ينسحب حتى على حمد نفسه لو ظفر بامرأة كحالة زوجته وابنته القاصرة.

هذا جانب من الاتهام وجانب آخر واجهه حمد مع قادته العسكريين ورجال دولته باتهامهم له بالخيانة حيث جسد المنظومة الحاكمة عسكريا ومدنيا الممثل المبدع خالد علوان والذي كان يصر على إذلال حمد وهتك شخصيته بمختلف الوسائل...

_ سأعطيك عملا يخلدك ... اجمع أكبر عدد من خوذ الأعداء

_ انا لا أجيد رمي الرصاص وخوض المعارك، إنما أستطيع ان اعبد طريق يمشي عليه الفقراء، اغرس شجرة يتفيأ ظلالها العاشقون،

_ يا لضحالة تفكيرك

_او زقورة تطل منها يد تلوح للمتعبين

_لا يد فوق يدي

حتى إذا ما أُرْسِلَ لجمع خوذ الأعداء وهو المتضور هياما لا حد له بالحرية وكأن هذا التكليف نزل عليه من السماء، يتلقفه بأيد من اشتياق، ذهب محملا بنشوة ورغبة في خلود كاذب من صنع قائده الذي طالما غرر به يوم قال له انت بطل انت ذكي انت لماح انت شجاع لكن بهيئة جبان، يسعدني ان تدافع عن حرائر وطنك لذا اجتهد حمد وراح يجمع خطأ خوذ رفاقه الجنود المقتولين في ساحة المعركة، ربما هي إشارة لعديد قتلى معسكر حمد وتأكيد حكايات كثيرة تنبئ بأن بيانات الدفاع في تلك الفترة كانت مزورة ومبالغ فيها.

وُبِّخَ حمد وبقسوة من قبل قادته الصغار على ما أتى به من خوذ هي في الأصل خوذ رفاقه وصحبه، فعاد ثانية وهو يلتقط خوذا أخرى ربما هي نفس الخوذ وقد يكون اختلط عليه الأمر وأيها يلتقط لاعتبارات عديدة أهمها كما يريد ان يشير أبو الحسن: ان الكثير من قتلى المعسكرين قد اشتركوا في تلقيهم صفعات حكوماتهم القهرية المتناسلة في سلب حرياتهم التي تفرهدت أمام أعينهم .. فضلا عن رغبتهم المتفجرة بالحياة والتي قتلها حاكم اخرق يتلذذ بانتصارات مزعومة حتى ان الكثير منهم وحسب التماعات تاريخية ماكثة في الروح والعقل رويت بأحرف من دم أصبحت قانونا مجتمعيا لتكرار مشهد يومي مصدره تبادل أمكنة الدفن بين الجندي العراقي والإيراني لذا نشاهد وبمرارة لطم صدر أم على قبر  شاب لم يطل رأسه يوما من رحمها  او نواح زوجة على جثة شهيد لم يلمس عفتها لحظة حب أسطوري، لأنها استلمته من مركز تسليم الشهداء قطعا متناثرة او لحما محترقا فذهبت معالمه أدراج رياح بطولة مزيفة وخاصة في زمن تنامي تبادل القصف الكيمياوي كيف لا وهي الحرب الشرسة التي وصفت بالحرب العالمية الثالثة والتي صدقت الآية القرآنية فيها(لا تبقي ولا تذر).

هناك وعند عودة حمد مرة ثانية لالتقاط الخوذ، سقط أسيرا لا لشيء إلا لأنه كان مسالما لا يريد ان يعكر صفو مزاج أحد من قادته على الرغم من المهمة القذرة التي كلف بها، وهنا إشارة جميلة وذكية من قبل أبو الحسن ان من كان يفطر على برميل دم في كل يوم من دم شعبه ومن دم أعداءه فالكل سواسية أمام ساديته البغيضة، المهم إشباع غروره في استعباد البشر والإطاحة بكرامتهم.

الاتهام بالخيانة لحمد من قبل الدولة ونظامها ولد كثيرا من ردود الأفعال الانتقامية للعامة والخاصة اجترحها من كان في خدمة الأجهزة القمعية والحزبية طالت ردود الأفعال تلك عائلة حمد ومن له صلة به حتى سابع جد، وكأن الوطنية هي ان تموت في سبيل إلهك ذي الفم الأشدق، حيث تجلى هذا الانتقام بهتك الأعراض وان لم يفعلها الحاكم عينا لكنه اهمل عوائل هؤلاء الأسرى فزج بهم في هاوية الانحلال والرذيلة والجوع والعوز، وكم من العوائل ذهبت بعيدا في آتون الظروف القسرية التي هي أيضا من صنع هذا الجلاد كما لا ننسى كم الازدراء الكبير الذي عاشه الأسير أيام أسره وبعد وصوله لبلده وهو يحمل أحلامه بوطن مزدهر وحياة كريمة لكنه وجد كل ما راود أحلامه سرابا في سراب..

أما الاتهام الثالث فقد أتى من (محمد عطية) هذا الرجل الذي يمثل قوى ظلامية أخرى تمثل زمنين ومعسكرين متناقضين مازالا يعيشان الحرب بكل فصولها، الأول وهو العدو الذي اعتبره جاسوسا للنظام وكأنها إشارة خفية في إن إيران تعتبر العراق مدينة من مدنها لذا من كان يدافع عن العراق فهو يدافع عن صدام وبالتالي فهو جاسوس شاء أم أبى لذا يستحق العقاب وكم هو جميل حينما صور أبو الحسن حجة هذا المعسكر على لسان الممثل (محمد عطية) وهو يوبخ جبار مشجل...

_كيف تسنى لك يا حمد جمع خوذ جنودنا وبهذا العدد الكبير.

 إذن كنت تراقب وتتلصص وتجمع المعلومات وأتيت هنا لتنكس رايتنا راية الحق والعدل الإلهي. حتى امعن هو الآخر بإذلاله بأن جعله يرقص رقصة الطير المذبوح من خلال استدعاء لرقصة أنطوني كوين في فيلم زوربا كما إنها إشارة الى الجهات الإسلامية الحاكمة في العراق بعد 2003 والتي كانت تردد نغمةَ نشازٍ مجة... باعتبار  تاريخي ان كل من شارك مع صدام مرغما في حربه مع ايران هو في نفس الخانةِ الموضوعِ فيها من مارس عمله القمعي في أجهزة السلطة، لكن حمد في النهاية هو إنسان بسيط من عامة الناس يريد ان يعيش بأمان وسلام وهنا إشارة الى جميع من مال ميلا خفيفا في تنكيس أعلامهم أمام جبروت الحكام وهم يرددون (اني شعليه) فهم يدورون مدار حمد في الاتهام والمحاكمة..وهنا نجح أبو الحسن في إنصاف حمد كحقيقة مسالمة حد الجبن لا يؤذي نملة لا يحب ان يكون متصادما مع الأخرين هو يعول على ان يستعطف قلوب الآخرين لتغيير مسارات سلوكهم، حتى ابنته وهي تعنفه وترفضه كأب كان يراهن على الزمن وتقادمه بان تشرح صدره بكلمة أبي، وبساطته كانت متواجدة حتى على مستوى ردوده في مواجهاته مع ابنته وقادته وأعداء قادته كان بلا حجة دفاع .. لذا أقول كم أنت قاسٍ يا أبا الحسن بقمعك الدكتاتوري لشخصية حمد كنت توتاليتاريا بامتياز.

ومن حواراته مع ابنته في محاولة منها لتحريضه على فعل شيء يغفر له ذنوبه يوم تركها وأمها عرضة لفحيح الأفاعي في غابة لا يسكنها إلا من طال نابه افتراسا.

_كيف تنتقم لي من الذين وصفوني بأبشع الصفات

_سأكشف عن شيبتي وادعو عليهم رب مجيب

تواجهه بضحكة ساخرة وهذا ما يستحقه فعلا لأنه بطل من ورق كان ضعيفا في المجادلة وثبات المواقف العاكسة لطبيعة الرجال، وقد بالغ كثيرا أبو الحسن بان جعل لهذا المتواضع عنوانا لمسرحيته وان نسمي حياته الباهتة بسيرة ليكون مجاورا في سير كل من كُتب عنهم سيرا خالدة.

من هو حمد اذن؟ هل هو المثقف الذي واصل قراءته لإنجازات الآخرين بوظيفة لا تتجاوز القراءة، إنجازات تكبر وتكبر على الورق فقط وهي تخدعه بانه عنوان للحياة، هل هو الأديب الذي صفق بقلمه بمقالات وأقاصيص وروايات ونصوص مسرحية تمجد المد الإلهي في شخصية الدكتاتور الذي كان يقول وعلى لسان الممثل (خالد علوان) لا يد فوق يدي، انه يبحث عن الخلود لمجاراة الله، نوع من التعويض القهري لحقيقة فارغة يملئها بالتضخم النرجسي(انا ربكم الأعلى) أريدها ان تلامس كبد السماء ان تنتزع عضوا مهما من أعضاء الله وهنا بالغ أبو الحسن في التجسيم، والتاريخ يحتفظ لنا بمناورات المرتزقة لبث هذه الروح لدى الطغاة حتى وصل الحد بأحدهم بان قال له سيدي (شكد) انت رائع، يا رجى الناس وما غيرك رجا ، يالعينك ما تنام، اجترحوا له كل صفات الله التسعة والتسعون بل زادوا عليها وهذا ليس بغريب فصاحب القلم متهم بالنفاق رغما عن انفه ،

طيب من هو حمد بعد ذلك هل هو الموظف المغبون الذي اجتهد كثيرا وفرط بحياته لخدمة القائد من خلال عمله، أم هو المعلم المسكين الذي يقضي يومه لاهثا لتعليم طلبته وحثهم على الدراسة وفي نهاية الشهر يستلم ما يكفيه لشراء علبة سجائر وعشر بيضات وخمس أرغفة خبز مشبعة بالشوائب وفي اليوم الثاني يخرج هاتفا وبكل حماس بالروح بالدم نفديك يا ؟؟؟؟ أم هو الهارب من الجيش والحرب والذي تتمسك امه بأذياله ما إن يخرج ملتحقا بوحدته العسكرية لإيمانها بان سيكون على شاكلة يحيى الفخراني خرج ولم يعد.... من هو حمد بحق؟؟؟ أرى ان حمد هو جميع العراقيين باستثناء الرجل الأوحد في منظومة المتنفسين هواء الوطن الخانق.

وفقا للتحليل النقدي ومنهجية الفرز والاستقصاء مع غربلة واستقراء للسيميائيات التي أسير عليه في نقودي وهذا ما تعلمته من أساتذتي ومنهم أبو الحسن لو قمنا بجرد القوى الفاعلة في المسرحية والتي لها القدرة على التطهير الأرسطي والحلول الروحي والرغبة في اعتلاء المسرح وزحزحة الممثل مع صرخة مدوية هذا انا، أريد ان أكون انت، انت تشبهني، نحن نحب الشخصيات القوية الفاعلة ذهنيا وجسديا، حركة ولغة، بالتأكيد سنستبعد حمد مطلقا لأنه لم يكن فاعلا في توهج الحدث كما انه لم يشترك في صناعة الحبكة ولم يغير مسار التاريخ المختزل في العرض او التاريخ الأكبر الحقيقي هو محمول على نفسه كشجرة يابسة لا ظل لها سكنت عرض الصحراء ورضيت بان تكون فزاعة نفسها. وما يتألم له ان الشرط الرئيسي لرسوخ الشخصية في الأذهان ولو بعد زمن طويل هو تطور الشخصية البطلة في الحدث الرئيسي ونضوجها بعدة اتجاهات وهذا الأمر لم نجده في شخصية حمد وابنته لكننا وجدناه ماثلا وبقوة في شخصية (خالد علوان) و(محمد عطية) اللتان سارتا وفق طريق ينفعل ويتغير مع الزمن بشكل متصاعد امتلك الذروة عنوانا لكن شخصية حمد وابنته كما بدأتا انتهيا في نفس الظروف ونفس الزمان ونفس المكان.

بمزاج شاعر داعب الطين الحري طويلا كتب واخرج صلاح أبو الحسن عمله (من سيرة المدعو حمد) وكان يرافقه في تخيلاته الصورية المبهرة الهور والقصب والبردي والشط والسمك ومنه أتى الهدوء والكهنوتية التي لازمت حمد(جبار مشجل) ، كان يكتب ويخرج بنزيف بأوداج مذبوحة كان ذهانيا مجنونا لكنه يفتخر بحمد الذي لازمه كوشم غائر حتى بعد موته بين يدي ابنته بطريقة جنائزية مبرهنا وفي آخر فرصة لإثبات الوجود ان المسالمة قضية كبيرة لا تقل شأنا عن السياسة والعقائد بتصويرها كالسرنمة (السير نوما) بلا إرادة طيلة زمن البوح ولكن بقسرية من قبل المتفرج او الشخصية الدالة على الطغيان، وبموته تنطلق مثيرات الإيقاظ بشكل اكثر فعالية وأوسع عمقا ليتأكد لنا ان حمد انتبه هنا وتخلص من قيوده ومن كل محركات اللاوعي التي كانت تسيره وكأن أبا الحسن يستنجد بحديث شريف (الناس نيام اذا ماتوا انتبهوا) بموت حمد يتخلص الكون من حزن ابكى الأرض وابكى الجمهور أيضا نتيجة لتزاملٍ بتلاحم متين مع كابوس يجثو على صدر حمد بقسوة وعنف كابوس مثلث الوجوه الأول سياسي ينحدر عنه (زعيم او إقطاعي او حاكم ظالم) والثاني شيخ ينحدر عنه (رئيس ديني وعنوان عشائري مغلق للجحيميات العالية والفردوسيات الهابطة النابعة من الدين والروح والعبودية) والثالث ممثل للقانون والسلطة ينحدر عنه تمثلات ضابط او مسؤول في حلقة من حلقات المجتمع (عائلة، مدرسة، مصلحة خاصة، مهنة حرة) وكل أولئك في تناسل لا يمكن لك الخلاص من شرهم إلا بالموت.

الجميل بالعرض هو تلك المقدمة التي تفضل بها السيد المخرج قبل العرض حيث أجاد أبو الحسن في رسم صورنا الحقيقية من خلال حمد رغم مؤاخذتي عليه بخصوص من ذكرهم في التماهي مع حمد تجاوزا لذا أشكل حينما حدد حمد ورسمه وفقا لصورة ثلاثة أسماء ما كان المفروض منه دبلوماسيا ان يحددهم بهذه المباشرة لان الأمر اختلط علينا لفوارق بين الماضي والحاضر شملت هذه الأسماء بتناقضاتها كما ان هذا التشخيص لازم المتفرج الواعي والعارف بهذه الأسماء بتقويض فرص رسم صور أعمق لحمد مما أوجد مطبات تزحلق عليها الوعي المغاير في مسالك أرْخَتْ سدول عتمة فصلت الروح الشفيقة للمتفرج عن حمد وذاته المنكسرة.  والجميل في المقدمة هو تلك العلاقة الحميمية التي خلقها أبو الحسن علاقة أبطال العمل بالجمهور وتطورها في تواشج ممتع كانت كرسائل بدلالات غامرة بالتلاقح كصديقين حميمين أحدهم يسال الأخر ها خوية شلونك أخبارك شكو ماكو، عندها يتقيأ الثاني ويبوح الواقعية بشكل خيالي، أشراك المتفرج بخياله بعبارة خالدة عقلك وروحك ملك الخشبة لا ملك نفسك ما دمت تجلس قبالتنا لان وعيه عند الخشبة تحت رداء الممثلين الأربعة مع مراعاة ما سبق قوله. ولو سألنا أنفسنا وبصدق وحيادية مطلقة لأحد من الجمهور: بربك هل ذهب وعيك صوب اهلك ناسك عملك مقهاك التي تعيش المتعة فيها مع أصدقائك أثناء العرض .. بالتأكيد سيقول لا، لماذا؟ لأنه غائب او غيب عن الوعي فعاش حلما مغايرا لحلمه او حلما داخل حلم وهذا ما نطلق عليه بـــ الباتافيزيقيا، ذاب في أجواء العرض المسرحي وهو المهم والمطلوب.

كان المفروض لمثل هكذا أعمال مسرحية والتي لم ولن تكف عن عويلها في فضاءات أرواحنا كان المفروض ان تكون وسط حانة توزع فيها المشروبات وكأن حمد صديق لنا على مائدة تعتعنا السكر فيها فرحنا نبوح بوجعنا، ومثل هكذا بوح هو خطر في كل الأزمان والأوقات يحتاج لقوة غيبية نتخلى فيها عن عقولنا التي شلها الشرب او الجنون اللحظي ففتحنا قماط أحلامنا على تمطي يدين كيدي طفل رضيع لا يعترف بسلطة رقيب يقتنص نبضات قلبه وعددها لذا لا نخاف نحكي ونحكي ونحكي حتى يمتلئ الفضاء كلمات ثائرة مائزة بهدير يصم آذاناً بعينها، كلمات تملأ المكان فلا مجال لغيرها لضيق المكان هي السائدة هي البطلة، بعدها نضع رأسا على رأس فوق مائدة اسمها الجمال والأبداع نغيب في عالم آخر من نفس جنس عالم البوح والحكي. وكما يصف نيكولا اوخلوبكوف العرض المسرحي بانه (مصادفة لقاء صديقين حميمين الممثل والمتفرج) فماذا يتوقع ان تكون نتيجة ذلك بالتأكيد حديث يسرد الماضي كنت وكان وكنا ببعض أدوات التشويق والأسر كلاهما مشدود للآخر ومن هنا يتم تأشير نجاح العرض المسرحي ووصول رسائله السيميائية بقوة ويسر.

بما إننا نسير على طريق نقدي منهجه المشاهدة والإدراك ثم التلبس والتقمص للأحداث ومشافهة الأبطال غيبيا ثم التحليل ثم الكشف عن جميع الخطوط المتوازية والمتقاطعة التي بلورت فكرة العرض المسرحي وغاياته التنويرية فمن الغريب أن تكون مهنتنا هي التبخيس والتسفيل والتكذيب والاستهزاء حين نشاهد ونتعاطى مع تلك المعلومات المنفعلة في الذات والمستسقاة من العرض، لذا نقول وبإيمان مطلق أننا وجدنا وبقوة فكر السيد صلاح أبو الحسن يأخذ مداه كنوع من إدامة البحث في العقل الإنساني وهو جزء من مهمة المسرح من خلال خلق وتدوير الأسئلة لإيجاد الحلول للمشكلات الاجتماعية الناشبة أظافرها في جسد المجتمع والتي توقف عندها الكثير لمناقشتها والتداول بحيثياتها، والجميل في ذلك هو إن الأسئلة كانت غنية مفتوحة الآفاق زمنيا ومكانيا بأُظنونات وفرضيات تحتاج منا التوقف والتأمل والبناء رغم أن الإجابات قد تم ترحيلها لدى المشاهد ولم نجدها على الخشبة لاعتبار هو يراه (أبو الحسن)فعلا مجديا إن الأسئلة اجدى من الحلول كي لا يفرض فلسفته على المشاهد وترك ذلك لثقافته وميوله الذوقية وقيمة عقله وتداول تجربته الإنسانية في اكتشاف السبل المناسبة للخروج من الأزمات، وهذا ما لمسناه من أبي الحسن فقد أوقف نفسه مدافعا ونجح في ذلك نسبيا لمن قتلته القوى الغاشمة كما قتلت الفكر الاجتماعي المختلف عن السائد والأكثري او المناقض والمناهض للسلطة الحاكمة الرسمية لذا كان أبو الحسن في كل أعماله وصيرورته الفكرية يتعقب المظلوم والمغبون ذا القيم المعاندة للرسمي، يتعقب الفقير الثائر المجروح المسفوح الدم او مهدور الكرامة والحقوق المضاد او النقيض او المحارب للثقافة الأكبر والقيم الأعم.

ومن هذه الأسئلة المتشظية الحاضرة في العرض وتماشيا مع قراءتنا العيادية المتسمة بالتنقيب في المعتم واللاموضوح تكررت كلمات من قبيل (متى، كيف، لماذا، أين) على لسان البنت وأبيها في خطابهم المكرور مع الله، وقد أوردها أبو الحسن باحترام إشفاقي من قبله لشخص حمد وابنته وباستعلاء امتعاضي من قبلهم لغائب يرى ويسمع، وذلك برغبة ملحة ودعوة صريحة لتحرر (الإنسان)من اللاهوتي، او المقزم للميتافيزيقا والانطلاق فكريا، والمقيد للحرية في انفعالات العقل الإنساني، وذلك بدفعه للأيمان بإرادته وعدم رد كل شيء للغيبيات في رفع الظلم واللجوء الى حلول الغير .

 ولمسنا ذلك في التكرار المتواصل للكلمات التي مر ذكرها، تكرار يحمل امرين في نسيجه الفلسفي، امر واقعي مفاده انه لسان حال الجبناء والمقهورين والضعفاء الذين لا حيلة لهم، والأمر الآخر مفاده الخيال واللامنطق بتكرار الانتظار القاتل والمؤدلج لفرج عاجل قريب كلمح البصر في سجن لا تعرف زمنك الآني فيه يكون حصة من وباسم من؟ وكأنه توبيخ للإله على محاكمته لنا من خلال الولادة وزجنا في سجن لا نعرف مدة محكوميتنا فيه ومتى تنتهي أيامه وأيامنا وكيف اقتحمنا أسواره وكيف نخرج منها؟؟، بالتأكيد يكون الجواب مريرا ، فالإنسان ومنذ ولادته وقبلها أيضا قد أُخذ منه العهد برضاه إن حياته (معتقله) ليست سفرا لنزهة عامرة بالسعادة  في ارض مفروشة بالورود بل سفر مليء بالمطبات والأشواك والأهوال، كما انه ليس سجنا لحاكم عادل بل لحاكم شرق أوسطي يتلذذ بدم الأبرياء، كل ذلك يواجهه الإنسان بعبارة : (لمَ وأنت تعرف إن الطغاة قد بالغوا في ظلمنا وقهرنا) ليكون الجواب : (الظالم سيفي انتقم به وانتقم منه) عندها يتحرر سؤال من ذوات المقهورين : كيف يتناسب غضبك على الظالم وفي نفس الوقت تعطيه المجال لتدمير المظلوم، وهذا الرأي يتجلى بمقاربة مع جدلية الشيطان وتسلطه على الأنسان نجح أبو الحسن في تقريبها لأذهاننا .. لكن لا إجابات ممكن لها أن تشفي صدورنا وكأن مهمة المسرح تنتهي هنا ولا تصل حيث الحلول وفرض الإجابات. حمد يواجه ربه بأدعية هو مجبر عليها لأنه تعب من كثرة الحروب وظروفها القاسية التعاقبية عليه ...

_الست العالم بكل شيء ... آلاف المرات أدعوك ولم تستجب بشيء

الصراع وجد وبقوة بين الذات الإلهية وحمد وابنته، وقد يكون التلغيز والتشفير بخصوص الإله ليس الله الخالق البارئ المصور كما يتبادر للذهن إنما أرباب متفرقون نتيجة تعدد ألوان العبودية وتعدد المعبودين وربما من سنخ الرب لوجود الكثير من المثابات الدينية التي ذبحنا أنفسنا من أجلها لكن النتيجة لا حياة لمن تنادي وكأنه يحيلنا لزمن هتافات عقيمة معجونة بهوس وهجاس الخلاص (اجه السيد اجه) والنتيجة صفر على الشمال، وآخر أشكال الإله هذا الوطن الذي نعبده ونفني أنفسنا من أجله ونجتهد بالصلاة له والتعبد تحت أقدامه المتسخة بدمائنا وهو يمضي قدما باتجاه المجهول يهرس أجسادنا المرمية بإهمال في طريق وجوده ورغبته بالخلود على حساب طفولتنا وشبابنا وسعادتنا...

الجمهور

 ملاحظة استقيتها من بئر تواجد جمهور بعينه على مقاعد النظارة وجدته طارئا وهو يجتر نفسه في طريق مليء بالعثرات وكأنه مصر على إلصاق نفسه بواقع سخيف أتمثله بمتابعي حفلات الرقص الشرقي لبائعات الهوى وهو يتفاعل مع كل رقصة وطقطوقة غنائية وان كانت هابطة لذا هو مسؤول عن قتل شيء اسمه جمالية الشكل في حضور المعنى رغم ان هناك الكثير من الصور المعبرة والتي كانت تحتاج الى تفاعله لكنه يأبى إلا ان يتغاضى وكأنه أتى من اجل شيء معين يغازل انحداره الذوقي.

في بعض اللحظات كانت هناك جلبة وظهور أشخاص في الكواليس ألخصها بجريرة سرقة عين المشاهد وتشتيت تركيزه فضلا عن جلبة القاعة والمتفرجين وتواجد الأطفال والشباب الجاهل بأهمية العرض وقدسيته أوحى لنا أننا جالسون في مسرح شارع او مسرح سوق للصفافير.

مثابات جميلة

الصراع الدرامي الذي ينهض على خاصية الاختلاف الفكري بين الشخصيات ينمي الطيران باتجاه عوالم أخرى لترصين الحدث وتطور الشخصيات ولو في الحدود الدنيا وهذا ما تكشفه الجمل التصادمية التالية لتحقيق البعد الجمالي في استخدام الأسلوب التركيبي العام بتوظيف الكاتب للخصائص الذاتية لأبطاله وفق رؤية استلهام سيرة الموت والحرمان ومساوئ الدكتاتورية في بلد الموت المجاني، لكنها أي الجمل الحوارية لم تعزف كثيرا على وتر مهم وهو اليومي والمأثور والمعيوش من حياتنا لذا لم يحفل العرض بالمفارقات المطلوبة التي تثري العمل لكن وبالعموم كانت تلك العبارات والجمل شظايا انفعلت لها روح المتفرج كثيرا وهو ما يحسب للكاتب ولو ان الممثلين تعاملوا معها بإحساس آخر ونغمية موسيقية خاصة من صنع ذواتهم لكان لنا كلام آخر. وللتوضيح اكثر بشأن هذه الجزئية الحوارية ومن خلال ما سبق نجد ان الكلمة في نسق الحوارات التصادمية والتي جميعها كانت عبارة عن حرب في جميع المواجهات وحتى المونودرامي منها قد تشكلت رمزا لرفض الآخر حتى الكلمات التي أتت تعاتب الرب هي رفض لله وخاصة عبارة (ان كان هذا يرضيك) لم تأت من رحم التسليم لأمر الله، بل أتت بما يذكرني بذاك المتشاطر مع احدهم في موضوع مادي بعد جدل طويل بقوله له (خذهن ما أريدهن هن ذني الكاتلني عليهن) باستغناء مشروط وبتهكم وسخرية وعدم رضا. ومن العبارات الجميلة الأخرى....

_اقتل الملل بعد أخطاءك لا خسارة في العد (حنين وهي تعنف جبار مشجل).

_انا أحيك ستري ادفق في غرز السنارة حتى تتمكن كل غرزة خيط للمرور عبر من سبقتها لتتماسك معها لان أي سهو ممكن له ان ينفذ منه قيضا او زمهريرا وهذا ما أخشاه (حنين وهي تصف عملها بالتعامل مع الحبال).

_الاستكانة موت (حنين متفاخرة بانها لم تستكن لطاغية او جوع او مأساة)

_معظم الذين تعذبوا لقولهم (لا) تراجعوا وقالوا نعم وها هم اليوم ينعمون شاكرين رب السماء على نعماه (جبار مشجل يلوم حنين على إدمانها لكلمة(لا).

_الذكاء هو ان تستخدم الأشياء لغايات غير التي صنعت من أجلها (خالد علوان يتحدث عن الخوذ التي يرى لها استخداما آخر).

_تسقط كل القيم من اجل الحصول على الغنيمة (محمد عطية بمواجهة جبار مشجل).

صورة جميلة شاهدتها لحظة تقديم جبار مشجل الويسكي والمقبلات بالخوذة لخالد علوان وهي تمثل نوعا من الاستعباد لحمد لكنها أتت مفتعلة لوجود زجاجات ويسكي كثيرة على المنضدة قبل ان يدخل حمد للمشهد لكن لا استبعد ان إرادة أبي الحسن وقصديته بان حمد قدم المشروبات كنوع من الرشوة لسيده لاتقاء فعله الإجرامي، وعديد قناني الخمر المرصوفة على المنضدة قد تكون رشوة هي الأخرى قدمها حمد آخر يعمل ضمن منظومة الرق والعبودية للسلطة. لكن ... آسف لقد اكترت في هذه المقالة من كلمة لكن .. شرب الخمر من قبل خالد علوان واكل المقبلات من الخوذة أتى إيماءً وهذا الأمر نراه حاضرا في المسرحيات الصامتة لا الصائتة وقد تكرر لدى خالد علوان في مشهد انتزاع قلب حمد الذي جمعه مع حنين حيث قام بعدها بمسح يديه بقطعة قماش حقيقية وهذه التناقضات تثير امتعاض سلم أفكار المشاهد وانهياره صوريا.

(يد في كبد السماء تمسك سيفا رأسه الى الأعلى ونصله الحاد على الرقاب التي تحاول أن تستقيم من انحناءتها )عبارة اطلقها خالد علوان كتعبير ساحر بليغ أثار قلمي لأعرج عليه أجاد فيه الكاتب أبو الحسن والممثل خالد علوان وبحركة إخراجية جميلة لو أنها أتت بسلو اكثر مما طبق لكانت ابهى واعظم واعمق، وترجمة لهذا المشهد قفزت عند ذهني فكرة ان الرؤوس لها أصحاب أذلاء ومنهم حمد وما ورد على لسان خالد علوان هو نوع من التهديد درجت عليه السلطة: من كان معي فهو معي ومن كان ضدي فالمقابر الجماعية وبطون التماسيح والحيوانات المفترسة نهايته المحتومة،، ونزولا عند هذا الفكر الشوفيني انحنت الرؤوس كثيرا خوفا أمام السيف المسلط، ولو أن هذه الرؤوس راودها التعب او أصابها الملل من الدونية والتسافل وفكرت بالاستقامة قليلا فالموت حليف الرؤوس الواطئة، والاستقامة هي ضدية الانحراف وكأنه يقول لهم أنا سيد الاستقامات تعلموا مني وانا الناصح الأمين، تكمن استقامتكم بانحنائكم لي والا كان الانحراف سبيلكم، وهي لهجة مقرفة اتبعها الطاغوت في تقويم مسيرة أفراد المجتمع بشكل ساخر ومنهم المعلم، وهذا ما لمسناه في التسعينات حينما كان يوصيه كيف يلبس وينظف أسنانه ويسرح شعره وكيف يأكل طعامه وحتى في كيفية ممارسة الحب مع زوجته فوق سريره البائس ذي القوائم العرجاء، السلطة تُمْرِض وتقتل وتقيد وتفسد هي عدائية ظالمة ونرجسية متباهية في كل الأزمان واجهها العقل الشعبي بالتصفيق والتأييد والمؤازرة وكأنه انتحار جماعي أوصى به نبي له كتاب مطبوع في مطابع الزوايا الخائفة الوجلة.

مثابة جمالية أخرى ... حنين وهي ترفع جثمانا ما يتبادر للذهن تصور وتساءل؟ جثة من هذه؟ لم تصل الفكرة لدينا ربما زوجها اخوها أبوها حبيبها لكنه في النهاية شيء عام تافه يتشكل بصفة إنسان عاش العراقيون تفاصيله الروحية، رددت حنين وبجمالية خاصة لها شعار الثكالى والمقهورين شعار البؤس والفأل السيء: أي غضب هذا الذي سلطته علينا يااارب...  هناك غضب سُلط علينا مصدره الرب والغضب لا يأتي جزافا وذلك لقيمة غيبية موجودة في أصول الدين هي العدالة والرب عادل كما تعلمنا على يد المشايخ وربما هي حاجة عقلية نتمناها كي تُفَعَّلْ لِكَم الحجارة الهائل الذي شج رؤوسنا ظلما وجورا وهي حاجة نضعها بين هلالين (نضحك على انفسنا)، اذن هناك ذنب كبير اقترفه العراقيون فاستحقوا هذا الغضب الكبير الذي لم ولن يكون من نصيب احد في هذه الدنيا إلا نحن غضب مسجل كماركة عالمية باسمنا لا يشاركنا به احد، لكن الإجابات الواجب تفعيلها على لسان الشخصيات وتبيان ما سبب هذا الغضب الإلهي وهل التاريخ كراو لحياتنا الماضية لديه إجابات ممكن ان تؤل هذا الغضب وإعطاءه الشرعية لكن وبشديد الأسف لم تظهر تلك الإجابات بوضوح ولو حصلت كان ممكن لها ان تكون دستورا يمثل فكر كاتب ومخرج ورأيهما وفلسفتهما لهذا الموضوع المهم والذي له مريديه ومعتنقيه... ربما الأسئلة التي وردت بعامتها في حقيقة تكوينها هي إدانة لمن حضر، إدانة جماعية ودعوة لمراجعة ومحاسبة الذات العراقية، ما الذي اقترفتموه يا أولاد الخايبة في سابق حياتكم ومنذ نشأة عراقكم فكروا وتدبروا قليلا بما ستؤول اليه حياتكم ان لم تتوبوا وتغيروا سيرتكم أم أنكم استعذبتم طعم اللامبالاة وصراخكم بصوت جماعي(آني شعلية).

كانت هناك إشارات ودلالات مهمة طفت على السطح أهمها التصالح مع الشيطان ومداعبته ومداراته استحياءً، وتبرير ذلك وعلى لسان حمد: هناك فرق بين المسالم والجبان... ادعى حمد زورا فلسفة هذه الإشارات والدلالات بطريقة الفيلسوف الخاسر... صه يا حمد وانتم أيها الحمديون، ضعفكم جعلكم مسالمين مع اليد القوية لأنكم لا تستطيعون ليها لذلك أدمنتم مصافحتها وتقبيلها بحجة السلام، وهذا ما جعلكم تسقطون على أم رأسكم في هاوية أوجزتها الآية القرآنية بتقريعكم ووصم جباهكم بترسيخ قوة المتجبر المتسلط (وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ) وقيل ما تفسير هذا الركون قالوا: الميل الخفيف وأشكاله المتعددة خلقت مصالحة مع الشيطان ولو من طرف واحد هو المواطن الهامشي ومصدر هذه المصالحة الخوف والوجل والجبن والضعف وحب النفس وقد اكد ما ذهبنا اليه المتميز أبو الحسن بهذا العرض المسرحي بتأويل غضب الله علينا وسرد معالمه وملابساته..

هنات

البنت تستهزئ بابيها بإشارتها له بأصبعها بطريقة تنم عن سوء خلق فضلا عن بعث رسائل للجمهور بعدم التعاطف معها او إعطاءها الحق في جدالها معه وهذا الأمر ترهل صوري ولا يبرره مطلقا رغبة المخرج في إظهار شخصية حنين بهذه القوة من خلال تنافر مذهبي مع حقيقة المرأة المجروحة والتي عرفناها في حياتنا على غير هذه الصورة إلا اذا كان مطلبه وغايته ان يشير الى ان المرأة التي تركها زوجها بصحبة بنت صغيرة ولشظف العيش وبؤسه امتهنت السلوك الأعوج لذلك ظهرت البنت بهذا السوء الفاحش نزولا مع طبيعة البيئة وتنشئتها ومقولة التعلم في الصغر كالنقش على الحجر، وقد يكون فعلها نوع من الدفاع عن مشاعرها لعدم تأكدها بشكل واثق ان من يحاورها هو أبوها فعلا لذلك بقت تراوح في مكانها ولا تتقدم خطوة واحدة بمشاعرها اتجاهه حتى لا تقع في المحظور ...

تكررت حوارية جبار مع ابنته بخصوص زوجته وأنها بعد أسره تزوجت او سقطت ضحية لبشاعة السلطة والنظام والقوى الفوقية تكرار لا يفسح المجال لطرق حوارات أخرى أكثر أهمية بعد ان تعرف المتفرج على الخطوط العامة للقصة المسرحية وبهذا لم نجد خطوطا أخرى تلف الفكرة العامة وتنسج شرنقتها لاحتواء العمل بهالة من الضوء المؤجج لمسارات إبداعية أخرى.

وقع الأقدام للمدعو حمد في مشهده مع محمد عطية غير مبرر وخطا في خطأ فصوت الأقدام هي للمتسلطين المتجبرين الأقوياء وحمد وكما مر ضعيف لا حيلة له ولو ادعى المخرج إنها لمحمد عطية نقول له من كان يخطو بإيقاع مع وقع الأقدام هو حمد أما محمد عطية كان ساكنا كتمثال أبي الهول.

الآمر يوبخ حمد هل أنت اعمى بانسحاب حمد الى عمق المسرح وببقعة مع المانيكان الخاص بامرأة ترتدي العباءة ظهرت بمشهد سابق مع زوجة حمد وهي فرحة مهلهلة بان زوجها سيمنح نوط شجاعة، أولا ليس من المنطقي ان يظهر حمد ببقعة مع هذا المانيكان وهو خطا فادح لأمر اعتباري لأنه سيحيل المتفرج على ادعاء ان المانيكان يمثل الآمر الذي وبخ حمد هذا وثانيا ان لم يكن يقصد المخرج بهذا التوجه فهو خلل آخر يضاف لأخطاء الإضاءة بتفعيل وجود شيء على المسرح غير مرتبط بالحدث لا من قريب ولا من بعيد، وبعد تبرير حمد لجلبه الخوذ الغير مطلوبة يستدير الى الناحية الأخرى لمواجهة توبيخ آخر للآمر ولكن هذه المرة بلا بقعة للمانيكان الآخر وبلا إيحاء لهذا الصوت للممثل زياد طارق بتشكيل ما ولو تم التخلص نهائيا من المانيكانات النسائية لكان افضل واجدى وحوار الآمر يجعلنا نشكل على المخرج بان ثبت أركان شخصياته بوجودهم الفعلي لا الإخباري وسار على هذا النهج حتى الأخير لكنه اخل بالهارمونية المطلوبة والنسق المتوازن مع الآمر بان جعل صوت الآمر بإداء الممثل زياد طارق وهو يحاور حمد من خارج الكواليس خلط الأوراق علينا باستفسار استهجاني، في المونودراما ممكن لنا استخدام أصوات الشخصيات الواعية من خلف الكواليس كطريقة للحفاظ على جنس العرض المسرحي أما مع تعدد الشخصيات الواعية وحضورها الحقيقي في العرض فمن المعيب ان نقحم الصوت دون حضور الشخصية.

التناقض في السلوك الشخصي والجماعي مع تغيير في المواقف بلا مبرر وبزمن قياسي لم يثري الشخصيات ولم يفعل تطورها وأفقدها اتزانها كما هو حاصل لدى حنين وجبار مشجل من خلال التباين في الفعل الحواري ... نرى حنين تشكل على أبيها الرقص من جهة ومن جهة أخرى تطالبه بالرقص وبإلحاح دون تبرير لذلك... القناعات ممكن لها ان تتغير لكن لسبب وسبب جوهري ومهم... أمر آخر يواطئ سابقه بأن تقول حنين: ماذا يعوزك يرد عليها جبار مشجل: ينقصني الماء ... التباين في الأفعال اللفظية امر غير مرغوب به لغويا في العمل المسرحي، ونرى ان (يعوزك) أجدى من (ينقصني) لنحكم بان حنين قالت الكلمة الصحيحة وجبار مشجل أخطأ بها.

ذكرت قبلا في مورد حقيقة حمد المتصاغرة ان ابنة حمد او حنين في محاولة منها لتحريض حمد على تبني الغيرة في شخصيته بادرته بالقول....

_كيف تنتقم من أولئك الذين وصفوني بأبشع الصفات

_سأكشف عن رأسي وادعو عليهم عند رب مجيب.

ضحكة ساخرة منها ..

_وهل تظن إن لدى الله الوقت الكافي ليستجيب الى دعواك.

_انجرب شكو بيها وبعد الله وبكيفه ما الضرر بذلك.

وهذا ما سار عليه الكثير من الذين يعبدون الله على حرض يجربون الله بدعائهم ثم تتراجع قائلة ...

_نعم لنجرب ذلك وما الضرر في ذلك فالدعاء كلمات مجانية لا تباع ولا تشترى. حتى لو كان قصدها السخرية من الله فهذا يعني في تسجيل المواقف والانفعالات التناقض والتحول الغير مبرر ... فقبل قليل تشكك بسماع الله لدعاء حمد وهنا تدعو لتجربة الدعاء.

_لا (يمدها حمد بسخرية مفتعلة لم توظف بالشكل الصحيح) ولكن الله سميع متميز (هكذا سمعتها من جبار مشجل قد أكون مخطئا وقد أكون مصيبا هنا لكثرة الكلمات التي ذهب صداها أدراجَ فضاءٍ عائمٍ لمسرحٍ يشتت الصوت وجلبة جمهور لا يعي مسؤوليته).

بادرته بـــعد ذلك...

_هل يعوزك شيء... دون أن يبدو عليه تحير او ارتباك او تفكير يدعو لاحتياجه لشيء ما.

_ينقصني الماء جزاك الله خير الجزاء_ وهي لازمة تنتقص من المتدينين الغير مؤمنين لازمت ذاكرتنا السيسيولوجية وخاصة ما بعد الاحتلال الأمريكي للعراق.

طريقة سكب الماء بواسطة الخوذة لوضوء حمد لم توظف بشكل جيد، فالخوذة ترتبط بشيء مهم في ساحة الحرب يوحي بالموت والفناء وبإيحاء يبتعد قليلا عن الماء وهذا الادعاء الغير مجدي، لان الماء يوحي بالحياة والطهارة وهنا تمايز وتناقض لم يوفق المخرج في ترميزه بما يتواكب ويتلاءم مع مخزون ذاكرتنا وربما وهذا تبرير مني أراد أبو الحسن بتلك الصورة لإقناعنا بان الخوذة مكانها الرأس والرأس مكمن العقل والتفكير والثقافة والانطباعات وخبرة الحياة والآراء عموما فقيمة المرء تكمن في هذا الراس حتى انه جُعل في قمة جسد الإنسان، وهي أي الخوذة  تمثل رأس حمد الجبان الرعديد الخائف المتصالح مع الطغيان وكل هذا بالعرف الإنساني نجاسة يجب التخلص منها كي يستحق لقب إنسان لذا توجب تطهيره بالماء الذي يعني الحياة كما قلنا وبالتالي التحول من موت حقير الى حياة جميلة زاهرة بالفعل المضيء، وقد يكون المعنى اكبر من ذلك وكأن حنين تبالغ في سخريتها من حمد وما صبته من خوذة أبيها هو بولا صريحا وكأنها تقول له انت بلا طهارة أصلا وهذا استحقاقك .. نعم نحن كنقاد واجب علينا ان نقلب المعنى على عدة وجوه حتى لا نغمط حق الآخرين، لكن كان أجدى كنوع من التحرش بذاكرة حمد وإدرارها نواحا جمعيا لو أن حنين سكبت من الخوذة على يده كمية من الرصاص بالتأكيد ستكون أجمل وأجدى، وكان من الممكن للخوذة ان تكون موضوعا كبيرا يخدم تفاصيل العمل لو استثمرت كطاقة إيحائية متفجرة.

وفي النتيجة لم تكن هناك صورة جميلة بعد هذا اللغط والحوار الغير ممتع خوذه وماء ودعاء رغم إن المشهد كان قابلا لان يكون مفعما بالصور التشكيلية المعنوية والمادية لكن ما كل ما يتمناه المرء يدركه.

حنين تستغرب على أباها جبار مشجل انه رقص وتلومه وتدينه ولا تدين أمها التي نامت على سرير غير سرير زوجها كما إنها اعترضت عليه عندما قال عنها تربية حرمة وكأنه أهانها بهذه الكلمة وسر إهانته لها ليس لان أمها كاملة الطهر والعفة فهي تعرف أمها غير ذلك إنما لما تراه هي في أبيها من منطلق منبوذ اجتماعيا: كيف لرجل وضيع مثلك يهين امرأة مثل أمي سر الإهانة إنها أتت منك أنت أيها الجبان، جرذ بهيئة إنسان، رغم واقعية هذه الإهانة إلا ان حنين رفضتها وبقوة لطبيعة شخصية حمد النكرة.

ما الذي تغير لدى البنت حتى تغير رأيها بابيها؟ وتقول له (أبي) بعد الكثير من التبريرات والكثير من التجاوزات، من أين تولد وانبثق هذا التعاطف الذي نزل عليها... كان ممكن لهذا التغيير ان يكون حدثا كبيرا له القدرة على تغيير المسارات لدى الشخصية لكننا لم نجد ذاك الحدث الكبير الذي يهدم قناعة لازمت حنين طيلة عقود... وهذا وغيره من التغييرات الكثيرة التي تحتاج لسنين طوال حتى تتضح مواقف غاية العظمة نعالجها بمجرد حوارية ليس لها مبرر في هذا التحول، حقيقة لم تروق هذه الجزئية لبديهية مهمة مفادها العلة والمعلول وفاعليتهما معا... أي نعم الاختزال سمة العصر الدائرة مدار الحداثة لكن ليس على حساب الجماليات البديهية فهي لها القدرة على ملء الفراغات وإنضاج وضعية البداية ومد حياة الخشبة بصيرورة التحول لتعبيد أرضية الغاية المؤسسة للثيمة من خلال وضعية النهاية.

تكرار الكلمات كبادئة حوار كما في جبار مشجل حرام حرام سب الميت حرام حيث وجدنا ان تكرار الكلمات بهذه الكيفية اللادرامية هي نتيجة طبيعية للنسيان او عدم التركيز او نوع من الارتباك والخلل الأدائي لدى الممثل وقد تكون رؤية إخراجية كتأكيد لمعنى يريده المخرج ان يصل للمتفرج.

رقصة زوربا بإداء جبار مشجل كانت سقيمة حقا ولم تقترب من رقصة أنطوني كوين كما ان طريقة رفع الدشداشة بالكيفية التي فعلها جبار مشجل أثناء الرقص كانت سيئة للغاية كما إنها كشفت عن البنطلون الخاكي بجلاء.

التمثيل

الممثل ذلك العلامة الكبرى في نسق العلامات السيميائية لخواص العرض وعناصره التأسيسية، ومنه واليه ولأجله تنفعل جميع العلامات في تركيبة مثالية تجمع الصورة بالصوت في تعظيم قيمة الإحساس، لإنتاج سلسلة من كتل معنوية مكانها الروح والعقل تتوهج كل حين بفورات تعتمد في زمنها الغلياني على قدرات الممثل نفسه، يستلمها المتفرج رسائلا يركبها هو الآخر وفقا لثقافته وبيئته ولغته، في عملية إنتاج أخرى أصفها بمقاربة مجازية مع عملية استخراج النفط وتصفيته وتحويله لمواد مهمة ضرورية في الحياة... لذا كانت مسؤولية الممثل اكبر واعمق من الجميع فهو من اجتمعت لديه رؤى الكاتب والمخرج وتفاصيل العرض الأخرى، وهو أمام هذه المسؤولية كيف سيصل بتلك الرؤى عند عتبة قلب وعقل المشاهد وباي أدوات تمثيلية جسدية ولفظية وذكاء وفطنة وإحساس سيستحوذ على لب المشاهد ويقنعه بجدوى قضيته المعروضة على هذا الركح الذي يفقد معناه الكبير في الإشعاع حين يخرج الممثل من أسواره في نهاية العرض، اذن الممثل وحسب رايي ميزانسين العرض برمته ونزولا عند هذه الفكرة يجب التفاني بالاهتمام به وبشكل كبير من قبل المخرج لأنه الأمين على أفكارك ورؤاك وأفكار الكاتب ورؤاه.

ولأنهم خالد علوان وجبار مشجل ومحمد عطية العلامات المضيئة في مسرحنا الميساني فليس من حقي الا ان أقول كنتم مشاعل نور أضاءت لها الخشبة فكنتم عند قدر المسؤولية بهذا الهدوء والاستقرار والثقة بأنفسكم وكنتم كذلك وبدرجة إبداع كاملة لكن هذا لا يعفيكم من بعض العثرات التي أتت نتيجة طبيعية لجغرافية المسرح التي لم تواكب التطور العمراني والحداثة في صناعة الخشبات.

 فعل الممثلين بإعطاء ظهورهم للمتفرجين تكرر هذا الأمر لدى خالد علوان ومحمد عطية وجبار مشجل وهو خلل بالتأكيد نحيله على مدى تركيز المخرج في حيثيات عمله، على اعتبار إن الحركة هي رسم يده ونتاج خياله وقد يكون خللا لدى الممثل والسبب الفني التقني في ذلك هو اقتراب الممثلين طوليا وابتعادهما عمقا ولوجود حوار بينهما ولضرورة التفاعل اللاإرادي بينهما نجد الممثل يلتفت بكامل جسده كطريقة للتخلص من الخطابية ومواجهة الجمهور.

هناك من الجمل المهمة التي فقدت عذريتها باغتصاب الممثل لها من خلال تواضع المد العالي لنبرة صوته حتى وصل ضعيفا للمشاهد نتيجة عدم التقاط الأنفاس التي يمارسها قراء القرآن، او تقدم السن قد كان له دور مهم في ذلك او لطريقة جبلوا عليها في الأداء تتفرق الكلمات جزافا من أفواههم او لنسيانهم بعض الكلمات فتلصق بها أخرى اجتهادا لتهدم الهارمونية التي كتبت بها الجملة الأصلية وهنا يكمن الخطر التمثيلي الذي يقتل غايات كلامية مهمة تدعم طبقات العرض وترص صفوفه.

محمد عطية يحاور جبار مشجل: نحن (صمت) مد الكلمة الأولى وتعقيبها بــ(أس) ثم دمج الكلمات الأخرى بسرعة طبيعية وهي طريقة في الإلقاء درج عليها جل ممثلي ميسان بكلاسيكية مملة ثم يكمل: لا ننظر للأشياء كما يريد خصمنا، بعدها يشير بقصد الأعداء لحمد، وبهذا التأشير إجبار على التمييز بان عدونا هو حمد وعدم إعطاء الفرصة للمتفرج لفهم مفصليات العمل لوحده وتحديد مرامي الكلام باي جهة هو، وفي حقيقة الأمر ان أسلوب الإشارات ذهب وولى منذ زمن بعيد وقد تكرر لدى حنين بعد قولها: بعد ان أنكرنا الجميع .. وكذلك في حوار آخر: من نظرات الناس ... عندما تتحدث هذه الممثلة بشي عام وبطريقة توبيخية للناس تشير للجمهور بحركة إصبع بانورامية خطابية مباشرة فهي تحمل الجمهور ما لا طاقة لهم فيه وهو إجبار قسري منها لاتهامهم بهذه الطريقة المباشرة الفجة.

تقنية الممثل وفيزيقيته هي ترجمة للشعور الدرامي الماكث في نفسه عن طريق الحركة النموذجية الفاعلة بالمتعة أي ان تكون الحركة استفزازا للمتفرج بإنشاء خيالات لديه وفي اصلها وأثناء التمارين هي استفزاز للمخرج أصلا ليتفتق ذهنيا بحركات فاعلة تكثف الفكرة بمتعة راقية، الحركة مع الديكور كما هو معلوم تعطي دلالات اجتماعية وتاريخية لم نراها في العرض ولم تتشظى لدى الممثل لينشئ ديكورا آخر بجسده وانفعالاته لذا أتت حركة الممثلين وفقا لاهتماماتهم الدرامية واستفزاز المخرج الذهني لم تكن حافلة بالصور الثرثارة التي تحكي بلغة الجمال، كانت كلاسيكية بان يقف المتصارعان بمواجهة بعضهما دون اثر للصراع في التماس والمناورة وتأكيد التباين الشخصي والعدائي بينهما او باستثمار أدوات العرض المادية، وهي ثنائية ألفها العرض بين جبار مشجل وحنين، وخالد علوان وجبار مشجل، وخالد علوان وحنين، ومحمد عطية وجبار مشجل، إلا اللهم ما قام به خالد علوان ببعض الحركات بتماس مع حنين وكذلك ما قامت به حنين مع جبار مشجل وإن كان شيئا خارج المألوف والمنطق من خلال دفعها لحمد ووضع الكيس في رأسه ورمي قطعة القماش في وجهه وهي حركات وتشكيلات أقضت مضجع المتفرج لكنها حسبت على الفعل الدرامي المطلوب والمرتجى، أما بقية المشاهد كانت تنقصها الفاعلية الحركية فالحركة لغة يجيدها المتمرسون لا تجيدها الأصنام وحركات من قبيل التقاطعات الأفقية وتبادل الأماكن وتبادلها عمقا ومقدمة لا تجدي نفعا في رسم تشكيلات فاعلة تدعم المشهد او الحدث وفي رأيي هو ليس قصورا في أدوات المخرج بل نتيجة للعمر المتقدم لأبطال العمل وصعوبة تكليفهم بحركات نشطة ممكن لها ان تثري العمل وحتى العنصر الشبابي الوحيد في العمل (حنين علاء) كانت حركتها مترهلة نتيجة لوزنه المخالف لقوانين المسرح السياسي والتثويري، وخاصة بعد مشهدها الراقص وإطلاقها الهلاهيل نتيجة للطاقة المبذولة في مقدمة العمل حيث تم تأشير الهبوط في النشاط الحركي وحتى اللفظي.

تكرار حنين وجبار مشجل لكلمة الوجع ااااه بشكل متكلف جدا لا وجع فيه ولو استمرت هذه الممثلة بهذه الكيفية سيكتب لها ان تكون نمطية حتى الصيحة، وفي خطوات جمالية خارجة عن سيادة حنين مارسها جبار مشجل بحرفية متقنة أبكتنا وحركت كوامن الذاكرة وذلك لخبرته وتمرسه الطويل فوق الخشبات وكان ممكن لحنين ان تجاريه بأداء ممتع لو تكررت أعمالها الناضجة مع هذه النخب التمثيلية المتميزة.

عبارة حنين وهي تخاطب صاحب الشأن وتسأله عمن ينقذها ويكفيها شر الأشرار: يا صاحب الشأن قل من؟ تذكرني بحركات الأوبريتات لمخرجي الصدفة وهي حركات تهويمية كتب لها القدر المسرحي ان تكون من نصيب حركات الأطفال التشكيلية.

تشكيل حركي أتى به محمد عطية بأن كمن لجبار مشجل وأجهز عليه من الخلف وقبض على راسه بوضعه بين فخذيه تكرر هذا الأمر لمرتين، وتكرار الحركة والتشكيل في المسرح وبهذه الكيفية يدعو للملل وعدم حصول الدهشة والمفاجئة المرتجاة من العرض.

قد أكون قسوت بعض الشيء على المخرج وفريقه التمثيلي بخصوص الحركة لكن ربما نجد تبرير فلسفي تجريبي لحركات الممثلين وهي تتمثل بكونها أشبه بحركات الكهنوت وهذا ما سار عليه مايرهولد في الكثير من أعماله وهو شيء جميل ربما هو تأثر انتهجه أبو الحسن في إدارة فريقه لكن طريقة إلقائهم غير ملحنة كما أراد مايرهولد أفقدتنا بعض المتعة.

الوقوف على متحرك والاستمرار على ساكن تكرر كثيرا لدى الممثلين وهو يمثل ثقافة ممثل يجب تجاوزها لثقافة أكبر.

كلمة (لا لا لا) و (حسنا حسنا حسنا) التي ترددت على لسان جبار مشجل ومحمد عطية وخالد علوان مبالغ فيها مع تمثيل أقرب منه الى الرسوم المتحركة او طريقة الكلاسيكيين من ممثلي بغداد والمتوفين حصرا .. فوزي مهدي وخليل عبد القادر رحمهم الله.

حنين في مشهدها مع خالد علوان وهو يحاول إذلالها وابتزازها جسديا وروحيا، لم تحصل على عطفنا لأنها لم تكن بالصورة التي تثير الشجن وتفجر مآقي الدموع لتأكيد التطهير الأرسطي.

حنين خطابية زيادة عن اللزوم بأسلوب متشنج يلامس التكلف المرهق للممثل رغم ان طبيعة دورها يحتاج الى بعض القوة، وقد تكون هي توصيات المخرج بأن تدفع كلماتها من جوف حنجرتها بأسلوب خطابي تباشر فعلها فيه وبكثرة مع الجمهور وهذا ما لا يتوافق مع الحداثة في المواجهة مع الممثل الآخر والتفاعل معه في الأخذ والعطاء، وحسب الانطباع السيكولوجي ان الخطابية دليل خواء وعدم قدرة على الخلق والابتكار، لكن في المقابل وجدنا الفنان جبار مشجل متفاعل معها متابع لسكناتها وحركاتها بانسيابية تعكس واجب مهم من واجبات الممثل بالاندماج والانصهار مع الآخر  وهذا الأمر ينسحب على محمد عطية في التناغم مع الممثل المقابل وذلك لفارق الخبرة الذي يتمتع به الأساتذة.

تعابير الوجه لها حكاية خاصة في العرض المسرحي منحدرة من مبدأ التأثر والتأثير المقابل الذي يخلق أجواءً من التواشج والانصهار ببعض بين قطبي المشهد وقد تجلى بدرجات معينة لدى الممثلين وخاصة عند وجه خالد علوان فقد اغنى الدور بنظرات عينيه وتغيير سحنة وجهه بحركات رشيقة استعارها بقية الممثلين بقوة فتميزوا بها.

محمد عطية كان يستخدم اليد الأخرى لا اليد المطلوبة وهو يؤشر لجبار مع استدارة بكامل الجسم بسبب ان جبار مشجل كان في العمق وهذا شيء جميل من قبل محمد عطية ان يتفاعل مع محاوره ولكن بهذا الخطأ الجسيم أضر بجمالية الصورة وبتقنيتها.

الاقتصاد في الجهد طيلة العرض والاحتفاظ بالجهد الأكبر عند الذروة لان خاتمة العرض هي ما سيحتفظ به الجمهور للعمل بكامله في مطلق الأحوال، حيث وجدنا تراخيا في مدى الصوت وتردده مما يعني ان هناك جهدا قد بذل مقدما ولم يُحْتَفظ بشيء منه للختام.

الأزياء

حمد في مشاهده مع ابنته كان يلبس الدشداشة وكان واضحا بنطلون جبار أبو اسعد الخاكي وهو يتسلل من تحتها مما أخل بالعين وأربكها جماليا، وتبرير ذلك حسب رأيي هو لاختزال الوقت في تبديل الملابس لأنه سيمثل مشهدا آخر بالبنطلون الخاكي، لكن كان بالإمكان تلافي هذا القبح البصري مع الاحتفاظ بالبنطلون لأجل الإسراع بتغيير الملابس هو ان ترفع أذيال البطلون قليلا حد الركبة وعدم نزعه والعودة اليه في المشهد التالي وبشكل سريع.

تغيير ملابس خالد علوان من البدلة الى الكوت الى القميص أراد به أبو الحسن تنويه عن تعاقب الطغاة لكن لم تأت الرياح بما رغبت واشتهت وأرادت السفن بفتح السين حيث لم تعكس تلك الأزياء عن واقعية تلمح عن حقيقة صاحبها كما أننا لم نشاهد تغييرا على اللهجة او اللغة المتحدثة او الطريقة التي كان عليها خالد علوان وكأن شخصية خالد علوان لشخص واحد غير ملابسه لأجل التنويع في الزي لا أكثر ولا اقل وهذا فعل خاطئ يؤاخذ عليه أبا الحسن.

عباءة محمد عطية كانت وبالا عليه لأمرين مهمين، لحجبها فعل اليدين ورشاقة القدمين ولانشغاله بها كثيرا وقد أخذت من جمالية أداءه الكثير، كما ان منظر حزامه وصايته شيء مضحك لا اعرف كيف مر ذلك دون ان ينتبه عليها الأساتذة الكرام.

أزياء حنين كانت متزنة مع الشخصية وقاربت المعنى كثيرا... أزياء جبار مشجل عموما وخاصة في لبس قميص النوم الأبيض (الفانيلة) مع الاحتفاظ بالبنطلون العسكري دلالة الأسر أتت واقعية جدا. أما زي محمد عطية الغريب فهو تغريد خارج السرب بصوت نشاز.

الموسيقى والمؤثرات

كالعادة وفي كل الأعمال التي يشارك بها الموسيقار الكبير محمد الرسام بانغام عوده ورقص أنامله على الأوتار وبصوته الشجي الغافي على مشحوف يركبه حسين سعيدة ومسعود العمارتلي وعبادي العماري نجده في كل هذه الأعمال ميزان الجمال وسر نجاحها كل ذلك لم يأت اعتباطا جاء نتيجة دربة طويلة الأمد وجهد متميز بالتواصل مع العود والنغمات وكنتيجة واقعية للقيمة الفعلية للموسيقى وخاصة التفاعلية منها أي العزف والغناء المباشر مع الحدث الآني للعرض وهو ما درج عليه الرسام بنفسه الجميل وروحيته العبقة بهدوء شط العمارة حيث يستقي عرب صوته وتأرجح معزوفاته على صوت ارتطام ماء الشط بمشحوف عماري ذي الغلاف القيري كما قلت سابقا ركابه من طينة الخالدين في الروح حسين سعيدة ومسعود العمارتلي وداخل حسن وعبادي العماري.

الديكور

أكد عباقرة المسرح على فاعلية المكان بانه هو من يحرك الشخصيات والحدث ويبلور الحبكة لذا نرى ان المنظر وديكوراته لابد ان تكون في خدمة الفكرة الأساسية للمسرحية وان لا يتواجد عبثا لمرة او للأبد وان لا يوضع ويرفع بغير مناسبة. إطلاق أساليب التشكيل والتصميم في المسرح من خلال إيجاد روابط تصل الجميع بحبل دقيق رقيق محكم الحياكة كستر بنت حمد التي طالعتنا في مستهل العرض بحياكتها ستر يقيها نيل الزمن من عفنها كذلك أساليب التشكيل والتصميم المسرحي ان تتسم بهذه العفة والستر كي تتقي القبح والفوضى، وهذا بعض ما لفت انتباهنا في المنظر وديكوراته التأثيثية على الخشبة.

البيئة كانت عائمة غير جلية ربما أراد لها المخرج ان تكون سوريالية لكنها جانبت الاحتفاء الجمالي وقد تكون إرادة المخرج وقصديته ان لا يظهرها بشكل جلي للتحرج من امر ما يضر باللحمة الوطنية في حال لو حسبت الأحداث بالقلم والمسطرة لأسقطت على مكون معين لكنها عموما أتت جامعة مانعة حيث تنوعت بين البيت والفضاء المفتوح وغرف التعذيب الروحي والجسدي وساحة الحرب وكلها أماكن لها وقعها الخاص في النفس البشرية والذاكرة الجمعية استطاع أبو الحسن تذويبها في النسيج العام للخلفية المسرحية.

 الحبال الأربعة وبألوان العلم العراقي الأحمر الأسود الأبيض الأخضر هكذا شاهتها ربما هناك غير ما ذكرت من الألوان، وجدت هذه الحبال على مدى العرض لكنها استخدمت مرة واحدة من قبل حنين بحياكتها لها لكنها لم تعطينا التصور اليقيني بانها تحيك شيئا بل كانت تظفر شيئا ولو كان المنظر لضفيرة كان أجمل وانفع وقد أرهقت أعيننا تلك الحبال وهي تعاني الوحدة والإهمال وكان الأولى ان ترفع بعد نهاية دورها الدرامي.

الإطارات الخشبية المتوسطة لعمق المسرح لم تكن موفقة في إغناء الفكرة (إطار داخل إطار) حيث كانت رمزيتها غامضة وعدم تواصلها مع فضاء العرض وعدم اهتمام الممثل بها بتفعيلها باتجاه ما، كان تكون شاشة تلفزيون داخل شاشة تلفزيون الحياة بمعنى شاشة داخل شاشة وبعملية احتواء وتضمين لِهَمٍ خاص يولد من هَمٍ عام وهذه اللاجدوى أضرت بالميزانسين العام.

الرمزية في الشباك والصليب أثناء دعاء حنين ورغبتها بالخلاص من هم كبير جاثم على الصدور هذه الرمزية لم تكن موفقة فالشباك وقطعة القماش الصغيرة الخضراء أوحت بالرمز الشيعي المقدس، والصليب لا غبار عليه في إيحاءه لمريم وابنها عيسى، ومن خلال الرمزين تم تأشير ان المخرج قد ألغى مقدس لمكون آخر كان يمكن لنا استثماره في استجابة الدعاء كما ان طريقة وضع الرمزين بهذا الشكل الفوضوي على المانيكان فيه من عدم الجمالية ما لم يروق لعين المتفرج.

كما ان قطعة القماش الحمراء التي رميت فوق المكعب بغير انتظام حفلت بإهمال مرير وظلت مرمية على أثره طوال العرض بعبث مما أخلت بالمنظر جماليا. كما ان المكعب والذي شهد ارتقاء الممثلين عليه كثيرا كمحطات استراحة او الإيحاء بالعلو والارتفاع والتضخم كان وجوده الى نهاية العرض شيء مؤلم حقا جعلنا نحدق بالعدم كصورة لها ضرر نفسي بالغ.

الإضاءة

في ظل التطور العام في المسرح واشتغالاته التعبيرية أصبحت الإضاءة لغة خاصة ذات بنية وروح ممكن لها أن تكون فضاءً يعج بالحركة والنشاط برسائل بليغة لها معانٍ كبيرة تدعم دور الممثل بدلالات إيحائية، فالفكرة الرئيسية لا تحددها الحوارات فقط بل السينوغرافيا بمجملها والإضاءة هي العامل الأهم في هذا الدعم حسب ما نراه في الكثير من الأعمال المتميزة.

لنرى الآن كيف كان دور الإضاءة وما هو المميز فيها سلبا وإيجابا في (من سيرة المدعو حمد) ...

إضاءة البقعة لم تكن مضبوطة ونظامية في العديد من التشكيلات البصرية برفقة الممثل او الديكورات الثابتة حيث نرى فجوة وفراغ بين البقعة والممثل وقد يكون خللا مصدره الممثل في عدم تلافي خلل البقعة والبحث عنها والتواجد وسطها لكن هناك تخوف من البعض لمداراة هذا الخطأ لاعتبارات نجهلها لذا وجدنا اختفاء ذاك التناغم السينوغرافي بين الضوء والأشياء الثابتة والمتحركة فضلا عن التوازن المطلوب الذي لم نلمسه بين الكتلة والضوء وبين الحدث والضوء والمتعارف عليه علميا وفنيا ان إضاءة الكتل في الحوارات المشتركة شكل وفي الحوارات المنفردة شكل آخر بصراحة لم نجد ذلك في العرض، كما ان الإضاءة لم تكن فاعلة دراميا في البوح والحكي وجدناها صماء لا تنطق بالجمال ولم تكن متناغمة مع الموسيقى وإيقاع الحركة وبساطة المنظر وهارمونية الأصوات والحدث بشكل عام كما ان اللون الأصفر كان هو الطاغي على الإضاءة مطلقا إلا اللهم بعض الومضات التي لم ترمم الشرخ الكبير في العرض بسبب الإضاءة.

كان الدم او التعتيم في نهاية كل مشهد أسلوبا عقيما فلم يرسخ الانتقالات الزمنية والمكانية مطلقا كما انه يجب ان يكون تدريجي كشيء مقارب لتعاقب الليل والنهار.

الضوء ودلالاته المعدمة وحتى لو وجدت في نطاق ضيق بخيل فهي لم تكن دلالات إيجابية أمعنت في التماهي والانغلاق مع اللاشيء .. حتى الحوارات يجب أن يكون لها تأثير متبادل مع الإضاءة وأن تتغير حسب الحالة والحدث وجميعنا يعرف ما للون من تفاعل في حياتنا اليومية منها ما هو حقيقي ومنها ما هو متصور على حدود الخيال والطاقة البصرية والطاقة اللسانية كل ذلك يجب ان يتعاضد في تجسيد أبعاد سيرة جانبها الضياء طويلا. حيث أصبح للضوء حركة وروح ممكن لها أن تلغي دور الممثل بدلالات إيحائية ... الإضاءة لابد أن تكون درامية بحته وان تعطي صورة أخرى تتكلم لذا أتى التوازن بين الكتلة على الخشبة والضوء الكاشف لها وخيالاتها وظلها ناقصا متشكلا بفوضى بصرية قاتلة للجماليات المرجوة، كما ان الممثل المنفصل في مونولوجه الخاص يجب ان يأخذ بقعة خاصة لا عامة حيث لم نجد ذلك حاضرا.

هناك خلل في الميزانسين بظهور صليب عيسى ببقعة ضوء في بداية المشهد وعدم مباشرة حنين الدعاء معه ومن ثم توجها للجهة المقابلة وبقعة ضوء على شباك الحسين وشكايتها ومباشرة الدعاء معه ثم اتجهت للحوار مع الصليب بغلق الإضاءة هنا وفتحها هناك وكان المفروض في هكذا حال ان تكون هناك بقعتان على الاتجاهين كشيء عام ومتوازن ثم العتمة ثم بقعة على أحدهما ومباشرة الدعاء معه وهكذا مع الآخر.

الثيمة والخاتمة

يقول ستانسلافسكي العظيم: (أشد الأكاذيب صفاقة لابد ان تتحول على المسرح الى شيء صادق من اجل ان تصبح فنا) لم نجد من الدفوعات والأطروحات لحمد ما يمكن له أن يتشكل دستورا يمد أصحاب التجربة المماثلة بميكانزمات لها القدرة على رد لهيب سياط جدالات الغرف الخلفية في باطن اللاوعي الإنساني أفرادا وجماعات، وكأن ستانسلافسكي وفقا لمقولته الآنفة الذكر تنبأ بحمد وكذبه، فأنا أراه، أي حمد إما فاشل في إدارة حياته بالشكل المتزن وامتهن الكذب آلة للهروب من المسؤولية العائلية فأختلق كذبته الكبرى ببطولات وهمية وأعداء من نسج خياله ونظريات فلسفية أجاد أبو الحسن في قهر عقولنا لتصديقها والأيمان بها، وقد يكون متواطئا بأخلاق رخيصة مع السلطة والذئاب المتأنسنة في كشف عورة بيته والانسحاب بابتسامة عريضة ومقولة ادخلوها بسلام امنين تاركا تاريخا كبيرا من القوادة يلطخ باب بيته، عار يلد عارا، وكل هذه السباحة في بحر زاخر بالكذب هو لتبرير استهتاره بحياة زوجته وابنته وهربا من لذع سياط الأسئلة التي لا تنهي على فم الزمن وفم ابنته وحتى عتبة داره، حمد نكرة بكل المقاييس فرضت علينا شخصيته المتهالكة الذاهبة باتجاه العدم وسخريته ان نقرن حقائق ودلائل تبروز انطباعنا النهائي بانه ثلمة مشوهة في تاريخ الشخصية العراقية وان تناسلت وتواجدت بقوة وبكثرة في حياتنا العامة لأناس مازالوا يتواجدون بين ظهرانينا لتكتمل من خلال ما مضى بنية المفهوم العام لوجودنا كعراقيين وسط النار والحديد وبطولات مزعومة. صلاح أبو الحسن أراد في شخصية حمد أن يغير من الكمالية المزعومة لكثير من الشخصيات البطلة والمبالغة بالطوباوية والنرجسية في واقعنا المسرحي، لذا جعل حمد بهذه الكيفية المنحدرة ناقلا لنا شخصيته كما هي بلا رتوش. لكل عرض هناك رسالة تتلخص بالمفارقة التي لا تشبه المفارقات الأخرى لعروض أخرى، مفارقة مستقلة تمثل خبرة وتراكم وعي لدى المخرج والكاتب مفارقة تدعو لأفعال الدهشة لدى الجميع مع ضربات على الأفخاذ للمتلقي والصراخ بكلمة (اويلي) رغم وجود التعاطف مع جبار مشجل كشخص مقهور وإعجاب المتفرج بتمثيله الحزين لكننا تراجعنا قليلا أمام وجع حمد الذي لم نره وجعا إنما مجرد تجربة لشخص لا يعدو ان يكون نكرة في مجتمع لا يعترف بالنكرات. ورغم الكم الكبير من الرسائل من قبل العرض المسرحي الا اننا وجدنا حمد صوتا أحاديا منغلقا وكأنها تجربة منفردة لم تمر على الآخرين لأسباب عدة: فهو لم يراع شيوع الألم وانتشاره المرضي كطاعون أصاب كل من تنفس هواء هذا الوطن، واختياره لأحداث من وحي الخيال لم تكن بذاك الوهج الذي يلتقط نبضات قلب المشاهد وهو يقف منتصبا على مقعده ليقول: هذا انا، حمد انا، وانا حمد... ورغم هذا وذاك ورغم ما نطمح اليه من لدن ابي الحسن من إشعاع اكبر واعظم الا انه كتب واخرج قياسا بتجارب حديثة لمخرجي بغداد الكبار شيئا جميلا وكبيرا، وما اقصده ان العام في العرض تفوق على الخاص وجزئياته ... حيث كتب سيرة حمد بالاعتماد على المعيوش من حياة كحلت عيونها الحروب بالموت والضياع وقد قالها العرض بأنها أوجاع مخزونة أتى وقتها المناسب لكي تتفجر صورا تشير الى مرحلة معروفة وتاريخ عاشه أبو الحسن ورفاقه وكان موفقا بدرجة الكمال في اختيار شخصياته الخمسة فقد أتت مضبوطة مليون بالمية في زمن العرض يعني لو تقدم بهم العمر منذ زمن الحدث لزمن العرض لكانوا بنفس العمر الذي شاهدناهم به هناك زمن للحدث وزمن للعرض وزمن للكتابة حافظ عليهم المؤلف والمخرج بشكل واعي من خلال اختياره لشخصياته الفاعلة في تشكيل الحدث بمشاهد حياتية قائمة بذاتها في ظل مرويات طالما ترددت على ألسنتنا فترجم ذلك لسان حال أبو الحسن وهو يقول (ما جاي بشي من جيبي هاي حياتكم) مرويات شُحنت بالدهشة  فانفتحت لها فضاءات المعنى والرسائل المشفرة التي لو تم ترتيبها من قبل المتفرج بوعي وادراك للخصت له ما كان وما يجب عليه ان يكون في قابل الأيام، وهذا الانطباع تولد لدينا وبإنصاف رغم ملاحظاتنا الكثيرة على العمل لرغبتنا ان نكون احترافيين وبدرجة كمالية عالية.

برايي المتواضع ان جميع شخصيات العمل هي شخصيات مظلومة مرهقة بتأثير الحتمية الإلهية والحتمية التاريخية التي فرضت واقعيتها علينا بامتهان الوجع والبؤس وظيفة ملزمين بأدائها لكن في المقابل تقف فلسفة ان الإنسان مخير لا مسير وكل يتحمل سلوكه وأفعاله وسكناته وألفاظه الحادثة في حياة مسجلة كشريط فديو وان أتت بإشراف رقابي لذا ارتفعت في أذهاننا كمتفرجين بؤرتان ارتفعت بالعمل في واجهة حية بؤرة ان تكون ظالما وأخرى ان تكون مظلوما في نفس الوقت والمكان والظروف وهنا اتهام بالذنب في فلسفة ان لا يجتمع النقيضان في فعل واحد وزمن واحد ومكان واحد وشخصية واحدة كما في سيرة خالد علوان ومحمد عطية على وجه الاستقلال الفاسد وكونهما ضحية لقوى ظلامية اكبر منهما، وسيرة حمد في مزاوجته للظلم لنفسه ولزوجته وابنته وفي نفس الوقت لتلقيه ظلما آخر من آخرين كما ينسحب الأمر على زوجته وابنته في ظلمهما له واتهامهما له بالتقصير والخيانة وبنفس الوقت انهما واقعاً امرأتان مظلومتان وبقسوة من قبل حمد والمنظومة السلطوية والاجتماعية الجائرة.

في نهاية العرض فتح أبو الحسن النار بموت حمد على كل مقدس كان يراهن عليه ولم يسعفه بالانتباه او التفاعل او الإجابة ولو على شكل رمزي او ذر الرماد في العيون حيث ترك قميئا منبوذا منذ المشهد الأول حتى نهاية العرض فقد سخر منه حتى المؤلف والمخرج بان جعلاه بهذه الهيئة المقرفة وموت تافه نافقا كما تنفق الحيوانات وليس موتا شريفا فريدا يغيض الأعداء ويبهج الحبيب وهو غير الموت الذي يتمناه الكبار (اللهم لا تمتني في فراشي) وهي دعوة مأثورة تبناها الكبار ولقربي الشديد من أستاذي حمد الكبير أبي الحسن أرى ان المفارقة التي أراد لها ان تتوهج في أذهاننا  هي استسلام حمد للموت وصرخة ابنته ان كان هذا يرضيك فخذ حتى ترض ليحيلنا بذلك الى اليقين بسيرة حمد المتواطئة مع مزيد من الاستسلام وهنا دليل عقائدي آخر ينفي التعلق بالمنقذ وإخراج أسطورة الإمام المهدي من اهتمامات المقهورين لأن صوتهم قد بح ولم يأتي منقذ واحد لذلك كان أبو الحسن ذكيا في تأطير عقيدته الرافضة للميثولوجيات وأساطيرها التي أغرقت نفسها في العدم ملخصا العرض المسرحي بالخاتمة المأساوية وهو ما درج عليه شكسبير في مآسيه الخالدة. من الشخصيات الفاعلة على كل المستويات.
وفي النهاية يمكن لنا القول ان حمد ما هو إلا خلية سرطانية في عراق يئن بلغة الوجع.

أبارك لأستاذي الكبير أبا الحسن نجاحه المتميز مؤلفا ومخرجا في (من سيرة المدعو حمد) وأبارك للكادر المتميز خالد علوان وجبار مشجل ومحمد عطية وحنين علاء وزياد طار كممثلين إبداعهم وجمال أدائهم وأبارك للفنيين محمد الرسام موسيقى وإبراهيم فريح إضاءة وأبارك وبشيء من الخصوصية لأخي الأستاذ علي كاظم السعد وباكورة تواجده على راس الهرم للنشاط المدرسي هذا النجاح المميز الكبير.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق