مجلة الفنون المسرحية
كتاب "الخيال في الفلسفة والأدب والمسرح "
كتاب "الخيال في الفلسفة والأدب والمسرح "
عرض: عامر صباح
اسم المؤلف / د. علي محمد هادي الربيعي
المطبعة / دار صفاء للطباعة والنشر والتوزيع ومؤسسة الصادق الثقافية
شكل الخيال بوصفه نشاطاً عقلياً أهمية في فكر الإنسان، فبات مطمح كل نفس تتطلع نحو العاطفة حتى ليصدق القول أن الإنسان يتميز بكونه يتخيل، وبدون الخيال يكون من العسير إيقاظ العواطف.
فالخيال قوة تنقل الإنسان من التعامل مع المعطى والسائد والمألوف إلى التعامل مع المتشكل بإرادته وما يطمح إليه ولا يمكن له أن يحققه على ارض الواقع. وهكذا يصبح العالم مع الخيال عالماً لمبدعه بعد أن كان عالماً قائماً بذاته وبعد أن كان خاماً متناثراً يصبح واقعاً مفيداً، بل يتجاوز الإنسان عبر الخيال الموضوعية المبالغة كي يحقق الصلة البينية والمتفاعلة بين الذات والموضوع ويكون كلاهما في حالة اعتماد متبادل وتضامن وجودي.
فالخيال يُعَدُ معبراً يمر عبره مفسرو العملية الإبداعية، بل راحوا يميزون من خلاله بين الفنان المبدع وغيره من العامة ممن لا يبدع فناً أو يشيد صرحاً معرفياً، وهذا ما أكده الشاعر بودلير بقوله: إن الصفة الأساسية التي يتصف بها الفنان هي الخيال. فالخيال في الفنون الجميلة هو سيد الملكات. فهو ضرورة من ضروريات إنتاج المنجز الفني عند مبدعه، بل يتجاوز هذه الحدود عندما يحسبه آخرون ضرورة من ضروريات التذوق الجمالي وفهم معنى المنجز. فكل فن من الفنون يصعب فهم صوره المختلفة من دون تخيل، فالتخيل يهب الحياة للجماد والحركة للسكون. ولهذا جاءت أعمال قسم من الفنانين والأدباء والشعراء وهي تحفل بشطحات الخيال الذي ترك على أعنته كما في أعمال (هوميروس Homere) و (دانتي Dante) و (ملتن Milton) و (كولردج Coleridge) وغيرهم.
الخيال في الخطاب الفلسفي
لقد آلى الفيلسوف على نفسه ملاحقة تجليات الطبيعة كلها وإخضاعها لمشروعه التأملي ومن ثم إيجاد العلل لذلك، فكان أن توقف أمام سيل كبير من القضايا ولعل من بين أهمها والتي شغلت باله طويلاً قضية (الخيال) بوصفه مفهوماً ظل عسيراً على الفهم عنده وشكّل واحدة من المعاني الغامضة لديه من حيث ماهيته وآليات اشتغاله. فجاهد في معرفته وكشف حجبه ومن ثم تفسير عدد من الفعاليات المصاحبة لهذا المفهوم مثل الحدس، الذاكرة، التوهم، الإبداع والخلق الفني، ومن ثم تقعيدها وسبر كنهها والاستفادة منها في البحث المعرفي الإنساني خصوصاً بعدما أيقن الفلاسفة أهمية الخيال في العملية الإبداعية عند الإنسان. ومن خلال الاستعراض القادم لمفهوم الخيال في الفكر الفلسفي، سوف يتبدى جلياً أن بعض الآراء تربط الخيال باللاواقعي ربطاً محكماً حتى ليبدو هذا الربط وكأنه بحث بـ(الميتافيزياء). في حين نجد أطرافاً أخرى ترفض الخيالي لحساب الواقعي، مع العلم أن الواقعي ما كان بمسمياته إلا بفضل خيال ركب بفضل خيال غادر حدود السائد والمعيش والمعتاد كي ينعتق من هذا السور الذي شكل عقبة ابيستمولوجية، ويقدم للإنسان رؤى جديدة للواقع ليست محض انعكاس مادي آلي عن هذا الواقع، إنما هي رؤى تفهم واقعاً وتحاول عبر قدرتها الخلاقة أن تتخيل وتغاير وتخالف، كي تحول الواقع من واقع بذاته إلى واقع من اجل الإنسان. وبقدر ما تبقى ملكة الخيال قائمة بقدر ما يتغير الواقع ليس من حيث قدرة الإنسان على الفعل فيه وتغيير بنائه فحسب، إنما من حيث قدرته على فسح المجال أمام واقعيات جديدة هي في ابسط أشكالها فهم جديد للواقع. وهي واقعيات بقدر ما هي خيالات الإنسان التي كلما ذهبت ابعد كان الواقع واقعاً آخر.
يعرف أرسطو الخيال على انه الحركة المتولدة عن الإحساس بالفعل ولما كان البصر هو حاسة الإنسان الرئيسة التي يستمد منها الخيال مادته لهذا اشتق أرسطو منها لفظ (فنطاسيا) أي الحس المشترك من النور، إذ بدون الضوء لا يمكن أن يتم إدراك البصر للمرئيات.
فيما لقي الخيال عند كانط تغييرا كبيرا في مفهومه، فلم يعد ضربا بسيطا من اللعب أو مجرد إحساس كما ذهب الفلاسفة الذين سبقوه بذلك، أو تعلقا على عالم أُعطِيَ للمرء من قبل، إنما قد نأى عن هذين الوهمين وأصبح عنصرا يسهم إسهاما أصيلا في تكوين العالم، وانه لا غنى لأية قوة أخرى من قوى الإنسان عن الخيال، وفي ذلك يقول: قلما وعى الناس قدر الخيال وخطره، أو يقول: أن ملكة الخيال ضرورة هامة وأساسية في جميع عمليات المعرفة.
الخيال في المذاهب الأدبية والفنية
شكل عصر النهضة اللحظة الحقيقية لميلاد المذاهب، فأدب هذه الحقبة وفنها ينظر إليهما بوصفهما نمطين معينين من الإبداع، فقد تزحزحت أركان الجمود والركود التي لفت المنجز المعرفي الإنساني على العموم والنشاط الفني والأدبي على الخصوص، حيث شكلا بالمقارنة مع فن القرون الوسطى وما سبقها حركة مهمة إلى الأمام. فالقيم الجمالية والروحية التي خلفها الأدباء والفنانون في عصر النهضة مرتبطة عضوياً بتمثل ما هو دنيوي بالتأكيد على الإنسان وبإعادة الاعتبار لمشاعره وعواطفه بعد أن ظل طويلاً محروماً منها. فأضحى الإنسان في أدب النهضة وما تلاها معياراً لجميع الأشياء. ونظر الفنانون والأدباء إلى الواقع لا بوصفه انعكاساً مرتعشاً للروح الإلهية، بل بوصفه عالماً حقيقياً يعد أساساً للوجود البشري وميداناً لنشاطه وينبوعاً للمشاعر والمباهج الدنيوية.
لقد تباينت المذاهب في تأكيداتها ومجساتها التي اتكأت عليها ومرد ذلك إلى المتغيرات الزمانية والمكانية للمذاهب نفسها، الأمر الذي أدى إلى هيمنة موضوعات بعينها على كل مذهب دون سواها. ولعل غلبة موضوع أو مفهوم معين في مذهب محدد لا يشكل بالضرورة معياراً لتسيده أو هيمنته في مذهب آخر، لأن المذاهب في أصلها أشبه بالكائن الحي الذي يتغير في بنيته الفكرية والاجتماعية والبايولوجية مع تغير مراحل حياته وبيئته، ومن ثم فان لكل زمان ومكان مذهبا يتسق معه ويعكسه.
ينبثق الإبداع عند الكلاسيكيين من العقل والتفكير والذاكرة ويعتمد العاطفة أيضا التي لا ينكرونها أو يتجاهلونها، بل يرى الكلاسيكيون أن إرخاء العنان للعواطف يؤدي إلى الجموح والتطرف وعدم الاتزان لأن العواطف من وجهة نظرهم شخصية وفردية تختلف في أهميتها من شخص لآخر. وان أساس الجمال في المنجز الإبداعي من وجهة نظرهم يركن إلى العقل لأنه صالحا لكل زمان ومكان.
بيد طرق الرومانتيكيون آفاق الروح والميتافيزيقيا بجسارة وفي أملهم أن يستطيعوا إدراكهما وتمثلهما في سياق خطاب مكثف عن طريق الخيال والبصيرة الملهمة. فجعلوا الخيال الملكة الأولى لدى الإنسان وعدوها الملكة الخالقة القادرة على الوصول إلى الحقيقة. فهم قد ربطوا بين العقل والنظرة الآلية الكلاسيكية، وصار العقل عندهم يعتد بالفروق بين الأشياء والظواهر.
وأراد الواقعيون لخطابهم أن يكون له تماس مع الواقع الإنساني المعيش، وأن يرتكز إلى معطيات الواقع الموضوعي من حيث اجتماعية الإنسان والاستناد إليها لتكوين المنهج الفكري الذي ينطلق منه المزاول في نظرته إلى العالم، وان هذه الوضعية تتأتى من كون خطابهم يمثل الإحساس المتقدم من المسؤولية الاجتماعية، وانه من الضروري أن يستخدم في الميادين التي تخدم الإنسان.
الخيال في المسرح
يؤكد دارسو الفن المسرحي ونقاده الخصائص النوعية للمسرح بوصفه نشاطاً تخيلياً متميزاً في طبيعته عن غيره من النشاطات الإنسانية لأنه فن مجازي يحاكي الواقع أو يستحدث صوراً ومواقف متخيلة لها تماس مباشر مع الواقع، وانطلاقاً من هذا التوكيد يحاول الدارسون النفاذ في نسيج الخطاب المسرحي ومن ثم تأمله بوصفه بنية من العلاقات المتشابكة الدالة التي يكشف تفاعلها عن المعنى المستتر في بنية الخطاب، كما يشير إلى طريقته المتميزة في إثراء المتلقي وتعميق وعيه بنفسه وخبراته بالواقع. ومن هذه الزاوية تظهر أهمية الصورة الفنية في خطاب المسرحيين (كاتب، مخرج، ممثل، مصمم إضاءة، مصمم أزياء، مصمم مناظر، مصمم موسيقى …) فهي وسيلة كل واحد منهم وموقفه من المسرحية، كما أن الصورة بتجلياتها المتخيلة أحد المعايير المهمة في الحكم على أصالة التجربة المسرحية لأنها تعبير وليس محاكاة دائماً، وان خيال المسرحي هو أساس هذا التعبير لهذا يحتوي على خلق لواقع جديد يعبر عن خيالاته.
إن نوعية الخيال وإمكانياته وفاعليته في الخطاب المسرحي هو ما يميز عمل المسرحي المبدع عن غيره، كما أن الحكم على تقبل الخطاب يستند إلى مبدأ العمق الجمالي الخيالي الذي يعبر عن تقص كاشف واستجابة معيارية مركزة لطبيعة تلك الأوجه من الخطاب. فالخيال ليس بالطاقة الهينة عند المسرحي، بل هو اعمق من أبعاد العقل والفهم في دنيا الفكر والروح، وهو اشد دقة ونعومة من كل طاقات الإبداع الفني. فلا تنفصل قيمة المسرحي الخاصة عن قدرته الخيالية التي تمكنه من التوفيق بين العناصر التي تجعله يكتشف بينها علاقات مستحدثة، وكأن قيمة المسرحي وأصالته ليست إلا هذه الخاصية. وعادة ما يوصف إبداع المسرحي على أساس قدرته التخيلية المتميزة، أو يذهب المتخصصون إلى القول أنّ خيال المسرحي هو الذي يمكنه من خلق الصورة المسرحية ونسجها من معطيات الواقع، غير انه يتجاوز حدود المعطيات ويعيد تشكيلها سعياً وراء تقديم رؤية جديدة متميزة للواقع نفسه.
أخيراً نبارك جهد الربيعي المتميز في تأليف هذا الكتاب الذي توزع معرفيا في صنوف الفلسفة والأدب والمسرح، كاشفا ومدللا على عوالم الخيال في هذه الصنوف الإبداعية، نتمنى له مزيدا من الألق والاستمرار في مشواره الإبداعي الثر.
----------------------------------------------------
المصدر : اوراق المدى
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق