مجلة الفنون المسرحية
صبري الحافظ - العربي الجديد
لا شك أن تميز المخرجة يائيل فاربر Yael Farber المولودة عام 1971 في جوهانسبرغ بجنوب أفريقيا أثناء فترة التمييز العنصري فيها، التي تربت في بداية حياتها المسرحية، كما تقول لنا في (مسرح السوق Market Theatre) الشهير في جوهانسبرغ، وهو أبرز معامل جنوب أفريقيا الدرامية، هو الذي مكّنها من أن تشق طريقها في عالم المسرح الغربي الواسع، وأن تفرض نفسها بقوة في ساحته. حيث عرضت مسرحياتها في السنوات العشر الأخيرة على أهم مسارح لندن ونيويورك وباريس، كما استطاعت عروضها الحصول على عدد من أبرز جوائز الإخراج الغربية. وقد سبق أن كتبت لقراء "ملحق الثقافة" عن عرضها المتميز لمسرحية الكاتبة الأميركية السوداء لورين هانزبري (البيض) في المسرح القومي الإنكليزي في العام الماضي. وها هي تعود هذا العام إلى خشبة المسرح القومي الإنكليزي من جديد، بأحدث عروضها "سالومي" الذي طورته في العاصمة الأميركية، واشنطن، ثم جاءت به إلى المسرح القومي الإنكليزي حيث يعرض على خشبته الآن.
وقبل التوقف عند هذا العرض لا بد من التريث قليلاً عند مسيرتها المسرحية وكيفية تحوّلها من الإخراج إلى الكتابة "الركحية" كما يسميها إخواننا التوانسة. فقد تخرجت من قسم الفنون المسرحية في (جامعة فيتفاترزراند Witwatersrand) أبرز جامعات جوهانسبرغ. وبدأت حياتها كممثلة ثم مخرجة في مسارح جنوب أفريقيا، حيث أخرجت عددًا من العروض المسرحية لأبرز كتّاب جنوب أفريقيا المعاصرين الذين تعاملوا مع ميراث التمييز العنصري البغيض وقضايا التحول الحرجة إلى الديموقراطية.
لكن المسرحية التي وضعت اسمها على خريطة الإخراج هناك ثم لفتت لها الأنظار في الغرب كان إخراجها لمسرحية الكاتب الإنكليزي مارك ريفينهل الشهيرة الصادمة (الاستبضاع والجنس Shopping and Fucking) حيث حصلت على أفضل الجوائز المسرحية في جنوب أفريقيا وقتها، بما في ذلك جائزة أفضل مسرحية وأفضل إخراج عام 1997. فدعاها مركز لينكولن المسرحي في نيويورك لورشة عمل استمرت لعشرة أشهر، ما أتاح لها إخراج مسرحيتها التالية لمسرحية أشهر كتاب جنوب أفريقيا المسرحيين قاطبة: آثول فوجارد Athol Fugard (أهلا وإلى اللقاء Hello and Goodbye) لمسرح الطريق بمانهاتن أو بالأحرى في برودواي قلب المسرح النابض في نيويورك ثم انتقلت بها إلى نيوجيرسي.
وهو الأمر الذي فتح لها الباب عام 2000 للمشاركة مع نجمة المسرح الأسود في جنوب أفريقيا ومغنيته الأشهر ثيمبي متشالي Thembi Mtshali لكتابة مسرحيتها التالية (الوصيفة A Woman in Waiting) لمسرح جوزيف باب Joseph Papp Public Theatre في نيويورك، فحصل العرض على أكثر من جائزة في نيويورك، الأمر الذي فتح لها الباب أمام المشاركة في مهرجان الفنون السوداء في أتلانتا، ثم مهرجان إدنبره المسرحي في اسكتلندا، ثم مهرجان قرطاج المسرحي في تونس، فحصلت في هذه المهرجانات على أكثر من جائزة. حيث اهتمت ببلورة لغة إخراجية خاصّة تولي عناصر المشهد التكوينية وتراتباتها الدلالية، والموسيقى الحية التي تتخلق بطزاجة على الخشبة، وتوزيع حركة الممثلين بطريقة كوريوجرافية Choreography مع التركيز على استخدام طاقاتهم العضوية عنايتها الفائقة، بصورة يؤدي تضافرها ومشاركة الممثلين في توليدها إلى خلق مناخ يرد للمسرح طقسيته الساحرة.
ثم عادت إلى جنوب أفريقيا لتخرج تأويلها الإخراجي الفريد لمسرحية شكسبير "يوليوس قيصر" بعنوان SeZaR الذي كرست به وضعها في بلدها كأفضل مخرجة في ذلك العام. ثم جرّبت الكتابة وحدها بعدها بمسرحية (غادر بهدوء He Left Quitely) عام 2002 عن حياة دوما كومالو Duma Kumalo وهو آخر الناجين من زنازين الإعدام في جنوب أفريقيا العنصرية.
لكن أولى مسرحياتها المؤلفة التي حظيت باهتمام كبير، وجربت فيها بحق قدرتها في الكتابة، وبالطريقة التي بلورها أعلام المسرح التونسي المعاصرين من توفيق الجبالي إلى فاضل الجعايبي والمعروفة باسم الكتابة "الركحية"، كانت (مولورا MoLoRa) عام 2004 التي تناولت فيها قضية موقف الضحية، بعد انتهاء سطوة الجاني القاهرة: هل يلجأ للثأر والانتقام لما عاناه على يديه، أم يتبع دعوة ديزموند توتو النبوية في لجنة الحقيقة والمصالحة بالتخلي عن نزعات الثأر الغريزية، والبحث عن عدالة ناجزة، قادرة على الخروج بالبلد كله من أزمته، أو بالأحرى من أنشوطة الانتقام والانتقام المضاد المزرية؟ صحيح أنها كجنوب أفريقية بيضاء لم تكن أبدا الضحية، مهما كانت مواقفها الشخصية، لكن إخراجها لعدد من أعمال كتّاب جنوب أفريقيا المختلفين، في تناولهم لمختلف التجارب التي عاشها السود تحت وطأة التمييز العنصري وطرد أشباح الماضي المقيت، أهلتها لأن تكتب بحق تجربة التحول من التمييز العنصري إلى الديموقراطية في هذه المسرحية.
والواقع أن سر نجاح هذه المسرحية يعود إلى أنها تنهض على نوع من التطويع الحر لثلاثية أيسخيلوس الشهيرة بالأوريستايا Oresteia التي ركّزت على اللعنة التي يعاني منها بيت آتريوس بعد مقتل أجاممنون وتطارد أرملته كليتمنسترا، وابنه أورست، وابنته إليكترا على السواء. تقدم لنا من خلال مفردات جنوب أفريقية خالصة، ومن خلال الميراث الشفهي للأمهات الأفريقيات وهن يمارسن غناء لغة "الخوسا" الحلقي التقليدي باعتبارهم كورسا جديدا للمسرحية المعاصرة، أول أعمالها التأليفية المتميزة. فكلمة "مولورا" التي جعلتها عنوانًا للمسرحية هي كلمة من لغة "السيسوتو" الجنوب أفريقية، وتعني الرماد المتخلف عن الجثث بعد ترمدها. ومن خلال طقوس التعامل مع هذا الرماد يواجه الحاضر ماضيه. وتعيد الدراما تجسيد هذا الماضي بكل عنفه ودمويته على المسرح، من دون أن يتخلى كورس الأمهات الطاعنات في السن عن التعليق عليه، فالذاكرة الجمعية هنا قادرة على اختزان التواريخ، لكنها أيضا تختزن القيم والمعايير التي تحول دون أن يتدنى السود إلى الحضيض الذي يتردى فيه الرجل الأبيض وعنصرية تمييزه الدموي القديم.
وكأنهن يطالبن الضحايا باستمرار، ومن خلال لعبة المرايا ورماد الأسلاف بالحفاظ على احتلال الموقع الأخلاقي الأعلى الذي جسّده كل من نيلسون مانديلا، وديزموند توتو باقتدار، بصورة ندرك معها ونحن نشاهد دراما الضحايا وهم يحثون الخطى نحو التحرر، ومأساة حياة السود المدمرة تحت وقع سنوات القهر والتمييز العنصري، ومدى تغلغل انكساراتهم في بنية تصرفاتهم التي تدفعهم إلى الثأر لميراث طويل، من القهر والعنف واليأس والموت، إن المسرحية تحول ذلك كله إلى طقس عضوي يستهدف الارتقاء بمشاعر القهر القديم إلى الموقف الأخلاقي والجمالي الأعلى، بعيدًا عن دوافع الثأر المتدنية.
بعد هذا النجاح الكبير الذي طافت معه بالمسرحية إلى كثير من عواصم العالم، بدأت في مواجهة قضية أخرى، هي قضية المرأة هذه المرة، وعلى خلفية جنوب أفريقية أيضًا، فهي تدرك أن موطن قوتها نابع من خبرتها الحميمة بمجتمعها. وذلك من خلال إعادة كتابة مسرحية أوجست سترندبرج الشهيرة (الآنسة جولي Miss Julie) في سياق حنوب أفريقي خالص، ومن منظور نسوي جديد بعنوان (Meis Julie) وأدارت أحداثها في جنوب أفريقيا الطالعة لتوّها من أسر التمييز العنصري، ولا يزال فيها الأفريقي الأسود يقوم بنتظيف حذاء سيده الأبيض، بينما ابنته المطلقة حديثًا جولي ترقص حوله في رقصة حسية جنسية واضحة، تطلق عنان التوترات الجديدة والقديمة معًا، وتوقظ عالم الأسلاف وهم يدعونه لفرض سيطرته الأفريقية على أرضه، وعلى جولي في الوقت نفسه.
ثم واصلت مسيرتها النسوية تلك في مسرحيتها التالية (نيرباهايا Nirbahaya) التي عرضتها لأول مرة في مهرجان إدنبره المسرحي عام 2013 فحصدت أكبر جوائزه وقتها. وتنهض هذه المسرحية على حادث كان لا يزال ساخنًا وقتها. حيث اغتصبت عصابة من الجانحين ليلة 16 ديسمبر 2012 شابة كانت تستقل مع خطيبها حافلة، جنوب مدينة دلهي العاصمة، فأشبعته ضربًا حتى فقد الوعي، واغتصب أفرادها خطيبته بالتتالي. أي أنها جاءت بالعرض إلى مهرجان إدنبره في أغسطس بعد شهور قليلة من وقوع الجريمة. واستعانت بممثلات هنديات وكورس هندي، لتكتب المسكوت عنه في الثقافة البطريركية التي تمارس مختلف أشكال العنف ضد المرأة، وتواصل هذا العنف بإخراسها صوت الضحايا. لذلك عمدت المسرحية إلى تدمير هذا الإحساس بالعار الذي يجبر الضحايا على الصمت والعمل على تبديل مواقعه، ليجلل العار أفعال المعتدين، لا المعتدى عليهن. فركوب فتاة جميلة تلك الحافلات المزدحمة في الهند المكتظة بالناس كمصر، يعني أن تتعرض دومًا للتحرش، وللأيدي التي تتحسس انحناءاتها، مما يستدعي الفيلم المصري الجريء (876) لبشرى ومحمد دياب. وقد عمدت المسرحية إلى تضعيف المشهد لتصبح قصة كل ضحية من خلال تقنيات المرايا تجسيدًا لعشرات القصص المشابهة على مر التاريخ وعبر الكثير من الثقافات والجغرافيات.
سالومي" من المغوية إلى المحرِرة"
وإذ يبدو أنني أطلت كثيرًا في تناول مسيرة يائيل فاربر المسرحية، فلأنني أقدر كثيرًا الموهبة الدرامية من ناحية، خاصة حينما توظف في خدمة قضايا عادلة، وبوعي درامي حساس بطبيعة مفردات العمل المسرحي المتضافرة، من النص والتشكيل المشهدي والحركة. وكل مفردات العمل المسرحي المعتمدة على التكثيف والحتمية الوظيفية. كما أنني أقدر حرصها على الوقوف في الجانب الصحيح من قضايا النضال في جنوب أفريقيا، وضد مرحلة التمييز العنصري البغيضة فيها، وعملها على طرد أشباحها وأوجاعها المقيمة في النفس البشرية. ثم أنها أضافت لها في مسرحيتيها الأخيرتين قضية المرأة، ومنح صوت للمقهورين والمهمشين، وتعرية المسكوت عنه كعار للمجتمع الأبوي وليس للمرأة الضحية.
لكن مسرحيتها الأخيرة "سالومي" قد تزعزع كثيرًا هذا التقدير، لأنني وبعد أن كتبت عن مسيرتها الطويلة تلك، لم أذكر أصولها اليهودية برغم اسمها الواضح في هذا المضمار. إلا أني مضطر الآن لذكره لأنني استشعرت من مسرحيتها الجديدة "سالومي" أنها تسعى لتوظيف كل ما أنجزته من خبرة إبداعية في الكتابة والإخراج على السواء، في خدمة أشد رؤى العصر تخلفًا وعنصرية، أي فكرة تبرير الأسس التي تنهض عليها دولة الاستيطان الصهيوني في فلسطين. من دون وعي، أو ربما بوعي صهيوني مراوغ، يدس السم في العسل. لكن دعنا نتعرف على المسرحية أولاً.
تبدأ المسرحية في القدس المحتلة، باكتشاف بقايا جثة نسائية تحت ما يفترض أنه آثار معبد سليمان أو معبد الجبل Temple Mount. ويندلع الخلاف حول أي من الجانبين: الفلسطيني أم الاستيطاني الصهيوني هو صاحب الأحقية في بقايا المرأة. هنا يرتد بنا السرد من الحاضر إلى الاحتلال الروماني للقدس قبيل ظهور المسيح. وكأنما ليقول لنا إننا نتعامل مع أرض كانت دومًا موضع نزاع. وهي فكرة صهيونية خبيثة، تبدأ بتأطير المسرحية كلها في الحفريات التي يجريها الصهاينة، وحتى اليوم من دون أي نجاح يذكر، قرب حائط البراق وتحت المسجد الأقصى لإثبات ملكيتهم التاريخية للقدس، ومعبد الجبل القديم الذي بدأ في بناء حائطه الغربي، حائط البراق، لمرارة المفارقة هيرود Herod عام 19 قبل الميلاد، بعد أن كان الرومان قد دمروه ونفوا اليهود من المدينة قبل أربعة قرون. وهو نفسه هيرود بطل قصة سالومي، ورأس يوحنا المعمدان.
وقد أكدت هذه الفكرة، فكرة أن هذه أرض متنازع عليها، بتعمدها أن يضم فريق الممثلين عربًا و"إسرائيليين" وأيرلنديين، كي تؤكد حقيقة الأرض المتنازع عليها وقد تجسدت بصريًا على الخشبة، ثم تجسدت لغويًا بأن جعلت الممثل السوري "رمزي شقير" الذي يقوم بدور "يوكانعان" Jokanaan وهو الاسم العبري ليوحنا المعمدان، يتحدث طوال العرض بالعربية، بينما أحد حراسه، وأحد حراس سالومي أيضًا يتحدث العبرية طوال الوقت، بينما بقية المسرحية بالإنكليزية. وهو تلفيق آخر لأنه لم تكن لا العربية ولا العبرية مستخدمة في القدس الرومانية وقت ظهور يوحنا المعمدان، وتبشيره بمقدم السيد المسيح. لكن دعنا نواصل قصة المسرحية "سالومي" التي تعتمد على المعلومات القليلة التي تخبرنا قصتها في أناجيل يوحنا ومرقص ومتى وفي المصادر التاريخية اليهودية الشحيحة من ناحية، وعلى المعارضة المباشرة لمسرحية "أوسكار وايلد" التي تحمل اسمها من ناحية أخرى. أي أننا بإزاء عمل يستغل شحة المصادر الدينية والتاريخية لزعزعة عدد من القناعات التي استقرت حول القصة الدينية، واستغلالها الدرامي معا ضمن تصور وايلد الذي يمزج الديني بالبطريركي بالإيروتيكي في خلطة درامية ناجحة.
هذه الرغبة في زعزعة السائد وتحديه، وطرح عدد من الأسئلة عن المنظور الذي تعاملنا به مع القصة الدينية وغيرها من القصص التي تمتزج فيها السياسة بالدين، هي فيما يبدو ما تطمح المسرحية إلى تحقيقه. فسالومي قد حرمت من أن تروي قصتها، وتحولت عند إوسكار وايلد إلى تجسيد لشرور الغواية وقدرة الجسد الأنثوي على الخداع، وهي تطرح عن الجسد الباذخ اللعوب أثناء الرقص غلالاتها السبع. أما هنا فإن يائيل فاربر تسعى لتخيل قصتها الدينية كسجل للمحو، وكطقس جمعي ينطوي أيضًا على تاريخه الخاص من العنف في مسرحية تعيد فيها تعريف الرقصة القاتلة وهي تسفر عن نفسها هذه المرة كفعل مسرحي سياسي معقد، يرد الصوت لمن لا صوت لهم. فقصة سالومي في الأناجيل وفي المصادر التاريخية اليهودية تخبرنا بأن هناك رقصة، لكنها لا تذكر شيئًا عن الغلالات السبع التي يبدو وكأنها من اختراع خيال أوسكار وايلد. وتحيط تفاصيل القصة بقدر من الغموض الذي لا يذكر شيئًا عن أن هيرود والرومان يمثلون سلطة روما كسلطة مستعمِرة. وكأننا بإزاء استعمار قديم جديد لم تتغير تفاصيله كثيرًا، وهذا هو سر صراخ يوحنا المعمدان في بريته بالعربية!
وبين سلطة هذا الاستعمار القديم الجديد أبدًا الغاشمة، وجماليات الصمت التي تغلف أجزاء مهمة من القصة، تروي يائيل فاربر قصة سالومي الجديدة باعتبارها قصة أساسية، ولكن في بحر من القصص الأخرى يصبح فيها جسد سالومي رديفًا لمدينة القدس في لاوعي النص الدرامي الذي تتراكب فيه المواقع، ويصبح يوحنا المعمدان وحائط المبكى والمسجد الأقصى وجوهًا متعددة لجوهر واحد. كما تضطلع سالومي بأكثر من دور في تلك القصة القديمة المتجددة دومًا. حيث تسيطر قوة استعمارية على الأرض والبشر، وتصبح الأرض مجسدة في القدس وفي سالومي معًا هي بؤرة أشواقنا وأحزاننا ومخاوفنا، وهي مزيج من الدنيوي والمقدس معًا.
وكما تتراكب الدلالات في شخصية سالومي، تتراكب أيضًا في شخصية يوحنا المعمدان/ يوكانعان/ الروحاني/ السياسي/ الثائر/ الذي يرفض الواقع السادر تحت الاحتلال، ويهجره – كجماعات التكفير والهجرة – إلى الصحراء حيث يقتات على الجراد ويرتدي بردة من وبر الجمال. أليس عربيًا؟! يقود أتباعه عبر نهر الأردن إلى أرض لا تزال موضع نزاع منذ زمن الرومان حتى الآن، داعيًا إلى عهد جديد يتحرر فيه الناس من الاحتلال الروماني، وتنبثق عن هذا التحرر أمة جديدة. لكنه يخفق، كما أخفق العرب دومًا، وينتهي به المصير إلى أقبية سجون المستعمر الروماني، فمن يا ترى سيحرره من هذا السجن، إنها هنا في مسرحية يائيل فاربر المرتبكة تلك سالومي. تتحالف مع الثائر الذي كرست القصة الدينية دورها في قتله، والمجيء برأسه على طبق من الفضة، كي تكون لها بالقطع أرض هذا الوطن الذي حررته.
ومع تلك النهاية ترتد بنا القصة من جديد، إلى الإطار والحفريات وبقايا المرأة التي ندرك الآن أنها سالومي اليهودية المحرِرة، حيث تنهي المسرحية رمزيًا على الأقل، الجدل حول تلك الأرض المتنازع عليها منذ آلاف السنين! ألم أذكرك أيها القارئ كيف أن تلك الفكرة التي انطلقت منها المسرحية فكرة صهيونية خبيثة؟! فها هي سالومي تغسل أيديها من ذنب اليهود عن قتل يوحنا المعمدان، كما حررتهم الفاتيكان عبر سنوات من الضغط السياسي من الذنب عن قتل المسيح. وهي بالطبع شخصية نسوية مغرية، حررتها الكاتبة من قيود عقدة المرأة المغوية، لتجعلها امرأة قادرة على رواية قصتها المغايرة، وعلى لعب دور في الثورة على الاستعمار.
نحن هنا، في الحاضر وليس أيام الرومان طبعًا، بإزاء أرض متنازع عليها منذ آلاف السنين، ولسنا بإزاء قضية استعمار استيطاني، كذلك الذي عاشت فترة أفوله في جنوب أفريقيا. ولكن الفرق أن الاستعمار الاستيطاني الصهيوني، أسس دولته الاستيطانية في فلسطين، في زمن غروب الاستعمار، وبداية التحرر منه في العالم كله، على عكس ما كان في جنوب أفريقيا. وهذا ما جعله أسوأ استعمار استيطاني عرفه العالم، وهو أيضا قد تحول في العقود الأخيرة إلى نظام فصل عنصري بغيض. عرفت حقيقته المخرجة عن كثب في بلدها، ولكنها هنا آثرت أن تصمت عنه وأن تموه عليه بلغتها الإخراجية المتميزة التي تبدو هنا كما لاحظ الناقد المسرحي المرموق مايكل بيلنجتون، ناقد صحيفة (الغارديان) المسرحي، لغة تتسم بالتزيد والترهل وتفتقد للوظيفة الدرامية. فالدراما الحقة لا تتعايش مع الكذب والتخليط.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق