مجلة الفنون المسرحية
تونسيون وسوريون وأفارقة في رحلة مسرحية إلى الموت
محمد ناصر المولهي
يواصل مهرجان الحمامات في نسخته الثالثة والخمسين تقديم عروض مميزة، تمازجت بين العروض الموسيقية المنتقاة التونسية والعالمية وبين العروض المسرحية، في رهان على الفن والجودة الجمالية وعلى التنوع الثقافي للمادة المقترحة، لا على العروض التجارية كما بات رائجا في العديد من المهرجانات التونسية.
ضمن فعاليات الدورة الـ53 من مهرجان الحمامات الدولي قدمت مساء الأربعاء 19 يوليو الجاري مسرحية “الشقف” لسيرين قنون ومجد أبومطر، وهي العمل الذي كان من بين آخر مشاريع المسرحي الراحل عزالدين قنون قبل أن يباغته الموت.
“الشقف” هو لفظ يطلقه التونسيون على مراكب الصيد التي تتحول إلى مراكب هجرة سرية، خالية من كل مقومات الرحلة، أو ضمانات الوصول، متهالكة تماما كمن يقامرون بحياتهم لأجل بلوغ ضفة أخرى يكون فيها الحلم متاحا.
تبدأ المسرحية على ظهر “الشقف” (القارب)، رحلة هجرة سرية يؤديها تونسيون وسوريون وأفارقة إلى سواحل إيطاليا، يختضون داخل المركب، لكل منهم هدفه، شاب تونسي يريد الفرار من مجتمعه الذي يسمه بالمجرم، شابة تونسية تهرب من حياتها اليومية كبائعة متجولة ممن يمثلون ظاهرة لافتة في تونس ألا وهي الانتصاب الفوضوي أو ما تطلق عليه الدولة تسمية التجارة الموازية، أيضا نجد امرأة أفريقية تحمل طفلها الرضيع وحالها لا يختلف عن حال الأفريقيين الآخرين، الهاربين جميعهم من حروب القارة السمراء العقيمة.
نجد أيضا امرأة سورية تحاول اللحاق بابنها الذي هاجر على نفس المركب سريا إلى إيطاليا وتحمل إليه طبخة سورية، فيما تحاول العودة وإياه إلى سوريا، ونجد أيضا شابة لبنانية، تدعي أنها سورية إلى أن نكتشف الحقيقة، حيث أنهكها جواز سفرها اللبناني، في إحالة على وضع المرأة اللبنانية، وشاب تونسي آخر تخلت عنه حبيبته، ختاما بقائد المركب.
الشخصيات تمثل نسيجا متكاملا يجسد حالات جنوب المتوسط، بشكل إيحائي، حيث لم تتطرق المسرحية إلى سرد فج عن الفقر أو الإحباط أو غيرهما، إذ تنقد الأوضاع العامة من خلال جزئيات حياتية بسيطة، فيكفي مثلا حديث المرأة السورية الباحثة عن ابنها، والتي ستكتشف أنه غرق ومات لاحقا، للحديث عن أوضاع سوريا، ويكفي حديث اللبنانية عن شوارع بيروت للحديث عن حال لبنان وعلاقته بالجار السوري.
المسرحية لم تقدم عملا يصور الهجرة السرية بشكل مكرر، بل غاصت في حيوات الشخصيات من خلال تفاصيلهم البسيطة
ويكفي غناء الأفارقة لنسمع أنين المهمشين، يكفي حديث شاب تونسي أنه لا ينام لنفهم ما وراء ذلك من ألم، ويكفي حديث تونسي آخر عن حبيبته لنفهم واقع الشباب التونسي الذي مازال يعاني البطالة والتهميش وسطوة التقاليد والعادات، كما يكفي حديث التونسية الأخرى عن عملها كبائعة على الطريق وأحلامها بسيارة ومنزل لنفهم إلى أي مدى بلغ تهميش الإنسان. فحتى قائد المركب يقرر أن رحلته هذه هي الأخيرة، وبعدها سيحرق المركب.
ونلفت إلى أن التطرق إلى تفاصيل الرحلة كان بذكاء كبير، حيث لم تهتم المخرجة التونسية بالصورة النمطية عن رحلات قوارب الموت، بل تطرقت إلى تفاصيل منسية ربما حول المهاجرين السريين، مثلا كيف يقضون حاجاتهم في عرض البحر، كيف ينامون، كيف يتعايشون.
الشخصيات تتقلب مع البحر، إلى أن تكتشف أنها تائهة فيه منذ يومين، هنا تواجه كل شخصية الموت، لأول مرة، حيث تتحول رحلة الحلم بالوصول إلى الضفة الأخرى إلى رحلة حياة أخيرة، تحاول كل شخصية أن تحكي عن أحلامها وعن عالمها البسيط، لا شكوى، بل استذكارا، وكأن الذكرى تميمة ضد الموت المحدق.
تحول آخر يشهده مسار الرحلة، إذ بعد عاصفة بحرية شديدة يتعرض المركب إلى التلف ويتسرب إليه الماء، مهددا الجميع بالغرق بعد الضياع، لذا يقرر قائد المركب أن عليهم تخفيف الحمل، بدأوا بالأغراض، ثم قرروا أن عليهم أن يلقوا أحدهم في البحر، هنا يبدأ منعرج جديد في مواجهة الموت، من منهم سيلقي بنفسه؟
لكن جميعهم متشبث بقليل من الأمل، متشبث بحياته على علاتها، لذا يحاولون الاختيار من بينهم والاتفاق حول من سيلقي بنفسه. لكن لا أحد يقبل بذلك، لكل منهم مبرر لبقائه على قيد الحياة، مبررات قد تبدو بسيطة جدا، لكنها كافية للتشبث بالحياة، أملا في غد أفضل، إلى أن تقرر المرأة السورية الإلقاء بنفسها بعد أن فقدت الأمل تماما إثر معرفتها خبر موت ابنها في البحر، وفقدت الأمل في عودة وطنها سوريا كما كان، لكن الآخرين يمنعونها. هنا يتوحد المصير، إما حياة للجميع وإما موت للجميع.
على هذه الحال مع لعبة الضوء، مع هدير الموج الحقيقي الذي وفرته ظروف العرض في الهواء الطلق وصوت البحر القريب من المسرح، تكتمل الرحلة على صوت المروحيات، وحرس الحدود المتكلمين بالإنكليزية، فيلقي كل فرد بنفسه من ظهر المركب إلى البحر، ولا يبقى إلا اثنان واقفان مبهوتان كتمثالين.
الاشتغال كان ذكيا من قبل المخرجين؛ فالمسرحية لم تقدم عملا يصور الهجرة من الموت إلى الموت بشكل سطحي ومكرر، بل غاصت عميقا في حيوات الشخصيات من خلال تفاصيلهم البسيطة، لتقدم مشهدا حيا، وحكايات من لحم ودم، حيث أن بعض الشخصيات التي قدمتها كانت حقيقية وموجودة في الواقع مثل شخصية البائعة التونسية.
ونلفت إلى الأداء المميز الذي قدمه الممثلون على الركح وعلى ظهر المركب الرخو الذي لا يثبت في محاكاة لحركة البحر، ولتقلبه بشكل مميز.
ونذكر أن مسرحية “الشقف” نص لسيرين قنون ومجد أبومطر وسعاد بن سليمان، وتمثيل كل من عبدالمنعم شويات وريم الحمروني وبحري الرحالي وأسامة كشكار ومريم دارا وغي أنصونوصي وصوفيا موسى وندى الحمصي، وإخراج سيرين قنون ومجد أبومطر.
----------------------------------------------
المصدر : جريدة العرب
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق