مجلة الفنون المسرحية
القبح بوصفه خطاباً فـي مسرحية "أخاديد"
زهير الجبوري
القبح بوصفه خطاباً فـي مسرحية "أخاديد"
زهير الجبوري
على مدى سنوات والفنان (ثائر هادي جبارة) يقدم مشروعه الفني/ المسرحي بموضوعات تلامس فضاءات الخطاب الواقعي بمؤثراته الفكرية والاجتماعية والسياسية، وحتى النفسية، وبعد رحلة متواصلة من العروض ووضوح تجربته في الأبداع المسرحي، قدم مؤخراً مسرحيته (أخاديد ../ تأليفاً واخراجاً)، المسرحية التي شاركت في المهرجان السنوي التربوي في مدينة البصرة وحصلت على احدى الجوائز الأولى، أعيد عرضها على قاعة النشاط المدرسي يومي الأول والثاني من شهر أيار من هذه السنة /2017..
وكما شوهد، فإن العمل هذا تمتع بسينوغرافيا مزدحمة بالعلامات مع استخدام (الداتاشو) كتقنية حديثة تضاف الى مشاهد العرض ، بالإضافة الى الإنارة التي اعطت تكاملاً واضحاً مع أداءات الممثلين، وكذلك الموسيقى التي كان لها نسق تراجيدي مع المشاهد..
(أخاديد)، عمل كشف لنا للوهلة الأولى جدل الخطاب الواقعي، برؤية كونية، وبحفريات واضحة الدلالة للزمن الذي يستعيد نفسه من خلال توالد الأزمة، وتكرار المحنة الأزلية بتمظهرات معاصرة، وكأن التاريخ (على حدود جغرافيتنا) يستولد اوجه القبح بأقنعة متعددة، لذا كانت (أخاديد / شقوق) الأرض وما نتج عن قبحها وتكريسها لعالم (نتن)، عالم (الأرضة)، هي المعيار الرمزي الذي استعاره الفنان ثائر هادي جبارة في عمله (تأليفاً واخراجاً)، وعلى حدود العرض المسرحي، لا يمكن أن يعرض العمل بمكونات الاداء وعلامات العرض الأخرى كالموسيقى والإنارة الا بلغة تجريدية.. وهذا ما امسكنا به في تجربة (اخاديد)، لأنه خاضع للتأويل، أو للقراءة المفتوحة، وكما عهدنا في اشتغالات (جبارة) انه يغور في عالم التجريب وكسر المألوف، فإن تجربته أوضحت عن ملامح أحادية التوجه لأمر يرتبط بقناعات جوهرية تنطوي على قراءة الواقع بوصفه خطاباً رافضاً، والخطاب في احد تعريفاته هو (الكلام والرسالة)، فإلى أيّ مدى توصل به العمل المسرحي هذا في ايصال رسالته ..؟
وحين نمسك بالعمل المسرحي من زاوية تناوله للقبيح (حشرة الأرضة .. الأماكن العطنة .. الزوايا /الشقوق المتراكمة فيها ، وكيفية توظيف العناصر في كلية العمل) فإن ما تقوم به شخوص العمل درامياً (تعد فئة من الأشقياء، وهنا يكمن الجانب الآيديولوجي للقبح الباطن) - بحسب: عمر محمد نقرش ـ ، لذا جاءت أداءات الممثلين (علي التويجري وجواد الصائغ ومخلد ناهض وفقدان طاهر) على درجة عالية من اللامركزية في الحركة، تجسيداً للدور الثانوي المناط لهم .. في حين كانت حركة الفنان (حسن الغبيني) مركزية، فهو فنان يمتلك مهارة عالية في توظيف الجسد وتوصيل فكرة النص، لعب دوراً مهماً ومؤثراً كما عهدناه، فـ(الأرضة / الملكة الأم)، استعيرت رمزياً للكشف عن رأس السلطة، تناظراً مع البعد الايديولوجي والديني والسياسي والاجتماعي عبر التاريخ، وما نمسك به من اشتغالات شاشة (الداتاشو) للكشف عن وجه العالم الكاذب الذي يعبر عن جمالية زائفة، هو أيضاً استعارة رمزية للقبح الباطني، فالعالم بانهيار متواصل، لأن (أخاديد الأرض.. الأرضة) تنخر جذور الحاضر، مثلما نخرت الماضي بكل احداثه ومواقفه المفجعة ..
في حين جاءت شخصية الفنان علي غالب (الباحث) صريحة، لأنها تعاملت بمدركات حسية نلمسها جميعاً، فهوـ اي الفنان ـ لم يكن الباحث فحسب، انما الشاهد أيضاً، والكاشف والغائر في عمق المعنى الرمزي لفحوى النص، والمؤدي المرن للدور، في حين جاء دور الفنان رحيم مهدي (الملكة المهرج) مكملاً للشخصية المركزية (الملكة الأم)، وكذلك الحال الفنان باسل ماجد ودوره في (الملكة الدكتاتور)..حتى شخصية (الهاجس) الذي أداها الفنان علي حسن علوان، انطوت على مدلولات حسية تشعرنا بالرقيب الكوني..
وعلى الرغم من اقحام ارضية المسرح وخلفيته الجدارية بسينوغرافيا تماهت مع قصدية الموضوع، فهي في الوقت ذاته اعطت نسقاً متناظراً مع قبحية المكان، وتكاملت مع (الاضاءة والموسيقى والمؤثرات الصوتية)، كلها وحدات متوازنة الأبعاد ..
ومع كل ما تزاحمت به المشاهد والشواهد في مسرحية (أخاديد)، ومع إقرارنا وامساكنا بقراءة ثيمة النص، انه يكشف عن خطاب كوني للأزمة الكبرى التي يعيشها العالم والتي تشكل بؤرتها العميقة في واقعنا المعاصر، فقد أثارنا المشهد الأخير بصعود حدة الديدان (في شاشة الداتاشو) وفي الأنابيب ذات الإشارات الملونة (خضراء /حمراء)، بأن صراع القبح المقبل لا يزال مستمراً، بخاصة اذا ما سمعنا العبارات المتوالية (الزمن لي) .. وهي قراءة مفتوحة استنهضتها متواليات نصية مستفيضة من موضوعتها من بطون التاريخ المتأزم دائماً ..
في حقيقة الأمر، ومن خلال متابعتي المستمرة لتجربة الفنان ثائر هادي جبارة، فقد استوقفني هذا العمل من زاوية حساسة جداً ، هي زاوية (الإخراج)، ولشعوري الكبير بأن الفنان (جبارة) متأثر جداً بفلسفة الفنان العالمي (برخت)، فقد أفاض لنفسه (الخروج من الصورة المألوفة الى الصورة الغريبية)، ومثلما فعل (برخت) فعل ثائر هادي جبارة حين نقل الآخر المتلقي /المتفرج من فضائه العقلاني، الى فضائه المتفاعل.. ثمّة علامات استخدمت سريعاً في ثنايا العرض، علامات تشتغل على تابوات مشفرة لقضية كبرى، لا أعرف إن كانت هناك قصدية في الإشارة اليها بشكل سريع (منها ـ مثلاً ـ نجمة داود)، الأمر الذي جعل العمل مفتوح القراءة، لأنه خاضع للتأويل ـ كما ذكرنا ـ .
(الفنيون/ الإدارة المسرحية: محمد حمودي، الديكور: هادي كاظم، الأضاءة: سراج منير، الموسيقى: محمد رميض واحمد محمد حمزة ، المؤثرات الصوتية والصورية : خضر السلطاني الأزياء: عدوية فائق / الإشراف العام وادارة الإنتاج: غالب العميدي).
-----------------------------------------------
المصدر : جريدة المدى
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق