تصنيفات مسرحية

الخميس، 17 أغسطس 2017

قابيل وهابيل في عمان

مجلة الفنون المسرحية

قابيل وهابيل في عمان

عواد علي - العرب 


'القبو' عرض مسرحي تشيلي يروي قصة أسرة تقرر العزلة عن المجتمع والحياة المعاصرة طيلة ألف يوم.

تستحضر مسرحية “القبو”، لفرقة كيوربولمايت التشيلية، التي حصلت على جائزة أفضل عرض مسرحي متكامل في مهرجان المسرح الحر في الأردن، قصة “قابيل وهابيل” بمقاربة درامية معاصرة ذات منحى بصري يقوم على الأداء الجسدي، مستغنية عن الحوار إلا في الحدود الدنيا. وسبق للعرض الذي أداه كل من مايرا كاودرا وبنجامين جورونو وبابلو جويرا وباولا هوفمان وكارلوس سانشيز أن قُدّم في الدورة الثالثة والعشرين لمهرجان القاهرة الدولي للمسرح المعاصر والتجريبي العام الماضي.

تمثّل شخصيات العرض أسرة محافظة مؤلَّفة من أم وأب وأبنائهما الثلاثة (ولدان وصبية). يشعر الوالدان بالخيبة من البيئة التي يعيشان فيها وعدم قدرتهما على مسايرة قيمها، فيقرران الانعزال عن المجتمع بالانتقال إلى قبو محصن لتعيش فيه الأسرة حياة أفضل بعيدا عن المجتمع طوال ألف يوم. لكن مخرجة العرض باولا كالديرون افتتحت العرض بمشهد ثابت يستمر بضع دقائق تظهر فيه الشخصيات الخمس مرتدية كمامات وألبسة واقية من الغازات يوحي للمتلقين أن الأسرة لجأت إلى القبو هربا من كارثة أقرب ما تكون إلى ضربة كيميائية تعرضت لها المدينة. ثم يتضح أن ذلك المشهد كان كناية عن الوباء الأخلاقي الذي أصاب المجتمع من وجهة نظر الوالدين اللذين لا يشير العرض إلى سبب تزمتهما الأخلاقي وقد يُعزى إلى دافع ديني (بيوريتاني).

الوالدان داخل القبو يسيطران على أبنائهما ويتحكمان في كل صغيرة وكبيرة من عاداتهم وطبائعهم الشخصية، مثل طريقة الأكل والنوم والاستيقاظ وغسل الأسنان. وبينما يستغرق الأب في قراءة جريدة قديمة تنهمك الأم بتفاصيل الحياة اليومية في القبو على نحو مبالغ فيه تعويضا عن حرمانها من التعبير عن مشاعرها
يسيطر الوالدان داخل القبو على أبنائهما ويتحكمان في كل صغيرة وكبيرة من عاداتهم وطبائعهم الشخصية، مثل طريقة الأكل والنوم والاستيقاظ وغسل الأسنان. وبينما يستغرق الأب في قراءة جريدة قديمة تنهمك الأم بتفاصيل الحياة اليومية في القبو على نحو مبالغ فيه تعويضا عن حرمانها من التعبير عن مشاعرها.

كلاهما تغمره برودة عاطفية وجنسية، وحينما يحاولان أن يلتقيا جسدياً يضيق بهما المكان ويخشيان من رؤية الأبناء لهما أثناء الليل حتى وهما ينتحيان ركنا معزولا في المستوى العلوي المكشوف عند مدخل القبو.

وبمرور الوقت الطويل ينتاب الأبناء الملل من رتابة أيامهم المتشابهة في القبو ويُصابون باضطراب نفسي وتصبح حياتهم لا تطاق، فيسلكون سلوكات غريبة تزعزع استقرار الأسرة وتثير حفيظة الوالدين اللذين كان جل همهما الحيلولة دون انجراف أبنائهما مع أخلاق البيئة التي أدارا ظهرهما لها، فإذا بهم يسيرون في مجراها وكأنها طبع غريزي وليست “مفهوما” اجتماعيا متغيّرا أو سلوكا مكتسبا، حيث تنشأ علاقة حب محرّمة بين أحد الشقيقين وشقيقته من جراء الكبت والعزلة المفروضة التي توقظ الجنون وينتج عنها تفسخ يصعب السيطرة عليه.

وهي إشارة إلى أن الأُسر المنغلقة تعزز هذه العلاقة المتأججة في أعماق اللاشعور، ذلك لأن الفرد لا يجد إشباعا لعاطفته ورغبته الدفينة خارجيا، فيلجأ إلى داخل الأسرة. وتفتح هذه العلاقة الباب لدورة جديدة من الحياة تملأها الفوضى والصراع بين الشقيقين وشقيقتهما من جهة، وبينهما وبين الأب والأم من جهة أخرى.

لكن الشقيق يتزوج من شقيقته بعد موت الشقيق الثاني خلال الصراع ويأخذان دور الأب والأم في “القبو”. وفي ذلك استعارة رمزية للصراع بين “قابيل” و”هابيل” الذي يُعدّ تمثيلا للصراع التاريخي بين الحالة البدائيّة الغريزيّة للإنسان والنظم الأخلاقيّة والدينيّة التي تكوّنت في مرحلة التحول إلى الحضارة وسعت لتأطير هذه الحالة والسيطرة عليها.

شكّلت المخرجة باولا كالديرون فضاء العرض بسينوغرافيا ذات مستويين علوي يمثّل مدخل القبو المسيّج في عمق المسرح وسفلي يمثّل أرضية القبو التي تحتل وسط المسرح، ويوصل بينهما درج خشبي، وثمة طاولة في مقدمة المسرح. واكتفت باستخدام إكسسوارات بسيطة مثل الصحون والحقائب الحافظة للطعام وسطل صغير.

وتمكنت من توظيف هذا الفضاء توظيفا مبهرا حركت فيه الممثلين بأداء جسدي بليغ في إيماءاته وتنوعه وإيقاعه المنضبط وهدوئه وتناغمه ورشاقته حتى في لحظات الصراع المتأججة داخليا من دون أيّ توتر أو انفعال خارجي. وقد دعمت هذا الأداء المدهش إضاءة وموسيقى جمعتا بين المنحى الجمالي والدلالي المعبّر عن الجو الخانق الذي ينزع الإنسان من فطرته السليمة ويرغمه على تكوين علاقات مشوهة.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق