مجلة الفنون المسرحية
عـــن “مــــاذا أيـــن”: هـــل ثــمّة ثــقب في الــزّمان؟
حاتم التليلي/ تونس
– “الزمن يمضي؛ الوقت ربيع》الوقت صيف》الوقت خريف》الوقت شتاء”.
وهم آخر خمسة، أحدهم بالضرورة لم يسقط في الفصول، لم يكن فريسة سهلة بين أشداق الزمن، ولذلك هو الآن يطرح تلك العبارة (الزمن يمضي)، ويلحقها بأخرى (أنا وحدي). على الأرجح هو ذلك الحيوان الآدمي رغم كونه في لحظة حلول إزاء الزمن لم يستطع التخلص من أدران التاريخ بعد سقوطه في تخومه، لذلك هو خامس الفصول الأربعة؛ ما تبقّى في العالم يؤثثه الزمان والإنسان كما تشير إليه اللفظة اللغوية (آخر)، عليه هم (شخصيات العرض) على ما يبدو الآخر والأخير، وهم سؤال المعنى عن الوجود، لكن سيتوضّح لنا أنّ المشترك بينهم كينونة هشة لا غير. هم خمسة ممثلين قذف بهم مخرج العمل (عاصم بالتوهامي) إلى نص ينتسب إلى العبث (ماذا أين/ لصاحبه بيكيت) فإذا بهم يستنطقون عدمه الخاص إلى عدم موجب بعد أن تمت ترجمته (النص) ركحيا.
كيف يمكن أن يقترن العدم بالعبث؟ يمثّل الأوّل نقيض الحياة/ الوجود، بينما ينتسب الثاني إلى لا جدوى الوجود بعد خروجه من رحم الأول ، هكذا نعتقد وبعض الاعتقاد يظل نسبيا. في المقابل تقترن النسبية هنا بأفول القيم المطلقة والأزمنة الثابتة المجردة، وعليه فإن راهننا المسرحي صار من حقه التطاول على التراجيديا وكنسها، لهذا لا مناص له من ترجمة الالتباس والتعقيد ومن ثمّة الإشارة بأصابع الاتهام إلى عالمنا وانحطاطه الحالي، وهنا يكون من حقنا كمسرحيين تنشيط مسرح العبث ، إذ هو الاخر صار معولما مثله مثل جميع اهتماماتنا الحياتية الأخرى في أزمنة الخواء الإنساني.
من سينتصر في النهاية؟ الزمن أم ذلك الحيوان الآدمي، الفصول الأربعة أم هذا البشري الذي يسكن التاريخ ويعتقد أنّه صيغة عليا من السلطة التي يمكنها تنشيط الوقت؟ ربّ سؤال يصيبنا بالدهشة منذ بداية العرض؛ إذ يبدو الممثّل/ شخصية الإنسان مثله مثل باقي الممثلين (شخصيات الفصول الأربعة)، حيث لا ثمة مشترك غير السواد، وهشاشة الكينونة المسرحية من أبعادها، ورغم كونه من ناحية الأداء يبدو متحكما في مصير الآخرين إلا أنّه في نهاية العرض يسقط بتمردهم، وهذا دليل قاطع يؤكد سقوطه في الزمن.
ولكن ما سرّ عذابه، وحدته، ألمه؟ ولماذا يبدو قزما بهذا الشكل أمام البقيّة؟ صحيح أنّ الممثّل من ناحية بنيته الجسديّة قصير القامة، ولكن اسناده ذلك الدور بالذّات لا يبدو عبثيّا بالمرّة، ولأنّه يلعب في معادلة الصراع ضدّ دوائر الزّمن ودورته معتقدا أنّه سيّد العالم والطبيعة، صار على يقين مرّ من هزيمته أمامهما، لذلك هو يعترف بانفلات الوقت، وبوحدته، وبكينونة حياته التي لا تتغيّر: إنّ هذا الحيوان الآدميّ منذ سقوطه في التاريخ ومنذ لم يعد يدرك خصوصيته الانسانية، تأكّدت له عبثيّة الحياة، فإذا به يشخصن الفصول ويمسرحها الآن على الرّكح، بل ويسألها أيضا عن سرّ سقوطه في تخوم وقتها وأزمنتها كما لو أنّه جلاد يحاكم ضحيته.
ضمن هذا السياق، كان نص العرض برمّته قائما على تكرار شذرتين قصيرتين تداول على نطقهما الممثلون، ولم يحدث أن صار تغييرا فيهما إلا من حيث أسماء الفصول (الربيع/الخريف/الشتاء/الصيف)، لكن في كلّ مرّة كانت طريقة الافصاح عنهما كلاميّا مختلفة عن سابقتها باختلاف الأداء والحركة واللعب في فضاء العرض. إضافة إلى ذلك وأمام تحطيم الهالة النصيّة للعرض كثيرا ما أدلى الممثلون بأصوات مختلفة، كالأنين والعواء والصراخ والابتهال، ما دفع العرض برمّته لينتسب في بعض ايحاءاته إلى القسوة الآرطية. من جهة أخرى كانت بنية العرض ككلّ توحي باستقراء أرسطي من حيث مغازلة ثالوثه المحرّم، إذ ثمة فعل التصادم (الحدث)في نفس المكان بين شخصيات العرض (الانسان والفصول الأربعة) وحتى أنّ الحكاية أفضت في نهاية المطاف بتأبيد ذلك الصراع كما لو أنّه أمر حتمي وقدريّ (مصير الانسان بعد وقوعه في الزمن: أن يظلّ هكذا وإلى الأبد محفوفا بتماهيه مع الوقت وقلقه منه)، يمكننا اكتشاف ضرب من اللعب الميتامسرحي أيضا (مولد خرافة داخل خرافة: الانتقال من لحظة التفاعل مع الفصول وتواترها بشكل مقيت إلى لحظة ثانية يتحول فيها الجميع إلى محقّقين يجلدون شخصا غائبا من أجل بوحه بالسرّ)، وهنا بوح بهدم النموذج الأرسطي في حدّ ذاته، وليس أدلّ على ذلك من شيء غياب تلك الأجهزة المفهومية من قبيل المحاكاة والتطهير، وهذا يحيلنا ضرورة إلى تقنية تناسج المسارح، أو دعنا نقلها بوضوح: إن هذا العمل المسرحيّ شطب من متونه الوظيفة الاجتماعية والطبقية والنفسية وانغمس في التأمّل، وعلى الأرجح هو يطرح أسئلة رؤيوية تعالج أسئلتنا الكونية والمستحيلة، لذلك هو يخرج من براثن الهويّات وجدلها العدمي ليطرح نفسه بشكل كونيّ وانسانيّ.
تكرار مشهد التحقيق بشكل مختلف هو الآخر لم يفض إلا إلى نفس النتيجة، ألا وهي الفشل في الحصول على السرّ. وعلينا أن ننتبه، إنّ البحث عن ماهيّة السرّ لهو أمر عبثيّ وعشوائيّ أيضا، لأنّ المراد الحقيقيّ به ليس الخلاص كما يتوهّم الباحثون عنه، وإنّما هو نتيجة مولده في الخرافة الضمنية للعرض، كي يتسنّى لنا فيما بعد التيقّن من عبثيّة الحياة وتكرارها في الزّمن، هذا الوحش الذي يأسرنا في محيطاته بالغة التعقيد.
في خضمّ ذلك كان أداء الممثلين قائما على توالد الحركة الجسدية وتكرارها، ثم تطويرها فيما بعد، فإذا بها تتكرّر بشكل دائريّ يحاكي دورة الفصول ذاتها: لا يمكن لهذه الدائرة أن تكرر نفسها إلا بوصفها تقدمت خطوة إلى الأمام، أو هي تحتل مساحة جديدة في الزمكان، وعليه يمكننا ملاحظة ذلك التكرار الذي سيّر نشاط العرض، إذ هو في كل مرة يكرر فيها نفس الوضعية يوحي بتغير الحالة، وهذا ينم عن محاولتنا المستمرة في الخروج من أسر الزمن، هذا الوحش اللامرئي اللامحسوس الذي يتحكم في صيرورتنا، ويترك لنا هامشا خجولا أثناء سيرورتنا كي نحاول أكثر . أمّا الأكسسوارات بحكم أن العرض خال من الديكور ومن أيّه شيء آخر، فقد اعتمد الممثلون في لعبهم على أدوات بسيطة هي العصيّ، ولم يحدث أن رأيناها جملة واحدة، ففي البداية كان الممثل (الانسان) يأخذ عصاه ويسيّر نشاط بقيّة الممثلين كما لو أنّه يهشّ بها الفراغ، ولمّا اشتدّت ذروة الصراع صار لهم أن يحملوا عصيّهم بدورهم، ولم يحدث أن خلى اللعب على فضاء الركح من استعمالها المحكم، وتلك ضرورة جمالية كثيرا ما نعثر عليها في مسرح ما بعد الدراما: أن تكون الأداة في محلّها دون عشوائية.
تخصيب المعنى
أنا وحدي، في الحاضر ما زلت كما كنت في الماضي.
يا لهذه الشذرة النصية التي تربكنا حدّ مولد الدّهشة، لقد أجهش بها أحد المؤدّين في العرض بنبرة حزينة ويائسة تنمّ عن استسلامه التامّ والنهائيّ بين أشداق الزمن، لا مفرّ له إذن من تعريف نفسه خارج دائرة التكرار والوقت، وهذا مصيره التراجيدي الذي ألقى بضلاله علينا، فهو في نهاية المطاف يسقط في ذلك التعريف الفلسفي ليقول على لسان الفيلسوف النّابتة (فتحي المسكيني): “أنا الزّمان، والزّمان أنا”، وما لعبه على الرّكح من خلال مشهدية التكرار إلا نوع من التسلية داخل “عنكبوت الوقت” بعبارة نفس الفيلسوف.
في شذرة لفيلسوف العدم “إميل سيروان” نقرأ ما يلي: “الآخرون يسقطون في الزّمن، أمّا أنا فقد سقطت منه”، ربّ مفارقة لا يمكن تفكيكها إلا من خلال اللفظتين اللغويتين (في/منه)، إذ تحيل كلّ منهما إلى ضرورة ارتباط الزّمن بالمكان، وعلى الأرجح كلّما كان الزّمن واحدا تعدّدت الأمكنة، ما يدفع حتما إلى التساؤل عن فعل السقوط ومقاصده. تكمن المفارقة هنا في تحوّل الزّمن إلى مكان في حدّ ذاته، إذ هو عنوان إقامة وسكنى، نسقط أسرى في معادلتها أو نسقط منها إلى معادلة ثانية: أن نرتبط بالزّمن فمعناه أنّنا كائنات آدمية وتاريخيّة، وأن نفكّ هذا الارتباط فمعناه أنّنا إزاء عوالم في غاية الالتباس، هي في حقيقة الأمر تمثّل نوعا من الأبديّة المعطوبة، تلك التي تدفع الذّات البشرية إلى الاعتراف بالقول “لقد أتخمني العدم منذ البداية”، وكأنّ لا مصير لها غير التاريخ أو تجميد الوقت في خيام ميتافيزيقيّة.
نحن الآن أسرى هذا التاريخ، لقد سقطنا في الزمن ولم نسقط بعد منه، أتينا من العدم ولم نعد إليه بعد، ثمّ إن ارتباطنا الوثيق بمعادلة السيرورة الفيزيائية للتاريخ يجعلنا نشعر بالرّعب كلّما فكّرنا في سقوط من نوع آخر، ولكن يبدو أنّنا سقطنا وانتهى الأمر: لقد أعلنت حضارتنا البشريّة عن إفلاس أرصدتها ووعودها المبشّرة بالسعادة، وما هذا التاريخ إلا انتقال فضيع لمجموعة من الأزمنة، عليه نحن نبتكر عدما آخر غير الأبدية السالبة، عدم يرتبط بتاريخنا الحاضر. بقدر ما يدينه يظلّ محفوفا بالالتباس والتعقيد كما لو أنّه محاولة سلبيّة في اختراع معنى لحياة بلا معنى، أمّا إذا أردنا تأصيله بالنسبة إلينا نحن المسرحيون، فهو حتما يتنزّل في تلك السرديات المتعلقة بمسرح العبث واشتغاله مع العديد من المسرحيين، ربّما بيكيت أحد كبارهم.
في المقابل، يبدو أنّ مسرح اللامعقول (العبث) لم ينج هو الآخر من سياسيات عولمته، بعد أن صار العالم برمّته متحرّكا على صفائح من اضطراب، ما يحيل أنّنا جميعا (شعوبا وذواتا ودولا) أسرى تاريخه، وعليه فقد صار ممكنا أن نتمثّل وقوعنا في الزّمن باختلاف أمكنتنا على سطح هذه القارّة، ومن ثمّة ينقلب الكوجيطو النيتشوي “لنا الفنّ كي لا تقتلنا الحقيقة” إلى كوجيطو مضادّ: “لنا الفنّ كي نترجم عدمية الحقيقة”، ولكن يبدو أنّ الزمن في هذه اللحظة زمن دائريّ، يدفعنا إلى إعادة تخصيب اضطرابنا التاريخي نظرا لأنّ العدم ذاته لم يعد يسمح لنا باستنطاق المستقبل. وعلى الأرجح إنّ سقوطنا في الزمن بهذا الشكل هو عبارة عن إقامة في محيط تاريخ أمواجه حركتنا المتكرّرة مدّا وجزرا.
جذاذة العرض
ماذا أين: صمويل بيكيت.
اخراج: عاصم بالتوهامي.
تمثيل: خالد لملومي، أحمد رامي عاشور، حمزة بن عون، جهاد اليحياوي، أحمد مكرازي.
انتاج: حوش الفنّ.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق