مجلة الفنون المسرحية
بين ثقافة متلقي العرض وثقافة النص..العرض المسرحي ومتاهة العلامات الثقافية
أحمد شرجي - المدى
تقوم السيميولوجيا على توسيع فكرة اعتباطية الدال، بمعنى اتفاقيته واستناده إلى العُّرف. وإذا كانت اعتباطية المدلول سهلت المأخذ والفهم، فإن الصعوبة تكمن في كيفية تخلص الفرد من الشعور بأن هناك شيئاً ما طبيعياً في هذه المدلولات التي تبدو كأنها أشياء طبيعية. ولهذا انفتحت السيميولوجيا على حقول معرفية أخرى، من قبيل: اللسانيات التي اعتبرها دوسوسير جزءاً من علم أشمل وأكثـر اتساعاً وهو السيميولوجيا.
يعتبر المنهج السيميولوجي منهجاً للتحليل، بيد أنه يضع العلامة أمام عوائق عديدة في سبيل وصولها إلى مقصدها الدلالي، إذ تقوم إجراءات الممارسة السيميولوجية على أساس تراتبي. فالعملية التحليلية ذات مراحل ثلاث، حسب التصور البورسي، وهي:
• المرحلة الأولى: تحليل الممثل الأول.
• المرحلة الثانية: تحليل الموضوع.
• المرحلة الثالثة: تحليل المؤول.
لا تخضع هذه التراتبية لأي تراتبية عقلية ولا يمكن التسليم بحياديتها، لأنها ترفض أي تقاطع مع الواقع. وبناءً على ذلك، فإن عدم الاعتراف بوجود هذا المثلث العلائقي الذي ترتبط به أجزاء العلامة (الممثل، الموضوع، والمؤول)، معناه أنه لا وجود للعلامة، مادامت لا توجد إلا من خلال تلك العلاقة التراتبية الترابطية. فإذا سلمنا بأن الممثل هو: (أ)، والموضوع هو: (ب)، والمؤول هو: (ج)، فمن غير المعقول أن يتم تجاوز (ب)، للربط بين (أ و ج) بعلاقة يكون مصدرها (ب)، إذ عندها ستكون العلامة مبهمة وتفتقد إلى القصدية الدلالية. وبالتالي فإن (أ و ج) يوصلان إلى (ب) لضرورة إعلامية أو جبرية. ومن هنا، فإن سيميولوجيا التحليل وفق المقولات البورسية، كما أوضحها جيراردو لودال، كالآتي:
• حل التشفير (الموجود بالقوة).
• التواصل الفعلي (علاقة تشفير ¬ حلّ تشفير).
• التشفير (القواعد).
ومن المسلم به أنه لا يوجد تشفير جديد من دون حل التشفير السابق، ولكنه في كلتا الحالتين تشفير مقصود، لأن التشفير الجديد قائم حتماً في الذهن، فـ"لا وجود لأي تواصل عن طريق العلامات من دون وجود قصدية وراء فعل التواصل، ومن دون وجود إبداع أو على الأقل من دون توليف للعلامات"( جيراردو لودال، السيميائيات أو نظرية العلامات، ص:126.). ومن هنا نتساءل: لماذا نرفض سيميولوجيا المؤول، ونصّر على استبدالها بعلامة المؤول والتي لا تؤول في النهاية إلا عن طريق الإنسان؟
لا يمكن التسليم بأن دلالة التعيين Denotation يقرأها المتلقي بذات القصدية الثقافية داخل العرض المسرحي، إذ يتوقف ذلك على عدة عوامل، منها: ثقافة متلقي العرض، وثقافة الممثلين، وثقافة النص، وثقافة العرض. فقد لا ينتمي النص إلى ثقافة الممثلين وثقافة المتلقين، والأمر نفسه ينطبق على العرض المسرحي. بمعنى آخر: يتأسس العرض، بوصفه منظومة أنساق علامية، على ثقافته الأصلية التي كُتِب في ضوئها المعجم الدلالي للعرض، غير أننا نجد أنفسنا في الغالب أمام نص غادر زمن كتابته الأولى وهاجر سياقه الثقافي الأصلي. فالعرض المسرحي يتضمن دلالات متعارف عليها، لكن رغم ذلك، يشوب العلامة المسرحية شيء من الالتباس بسبب الدلالة الحقيقية، إذ "تكتسب العلامة المسرحية حتماً معاني ثانية لدى الجمهور الذي يردها بدوره إلى القيم الاجتماعية والأخلاقية والإيديولوجية المعمول بها داخل الجماعة التي ينتمي إليها المؤدون والمشاهدون"( كير إيلام، سيمياء المسرح والدراما، ص:18 ).
وهذا ما انتبه إليه بيتر بوغاتريف Petr.Bogatyrev، حين لاحظ قدرة حامل العلامة على الإشارة إلى ما وراء الدلالة الحقيقية، فضلاً عن الدلالة القصدية بشقيها الثقافي والمسرحي. ولهذا تساءل: "ما هو الزي المسرحي على وجه الدقة، أو ما هو الديكور الذي يمثل بيتاً في المسرح؟ عندما يستخدم هذا أو ذاك في المسرح يكون قد جرى اعتبار أي منهما علامة تشير إلى وحدة من خصائص علامات الزي أو البيت في المسرحية. ففي الواقع يكون اي منهما علامة لعلامة أخرى ولا يكون علامة لشيء مادي"( بوغاتريف في: كير إيلام، سيمياء المسرح والدراما، ص:19). نستشف مما سبق، بأن بوغاتريف يتحدث عن ثقافتين، هما:
• مرجعية ثقافة النص المسرحي.
• مرجعية ثقافة العرض المسرحي.
فالمرجعية الأولى ذات ارتباط زمني بعلامات الزي والديكور، ونقصد زمن النص المسرحي الأدبي. وتفسَّر العلامات ¬هنا¬ وفق العلاقة الزمنية المشار إليها، أي وفق الانتماء والظرف الزمنيين. أما المرجعية فتربط العرض وعلاماته الثقافية بالمتلقي، لأنه المؤوِّل النهائي للعرض المسرحي. وحتى لو كانت العلامات المسرحية ترتبط مع بعضها البعض حسب ما ذهب إليه بوغاتريف، فأنها لا تشير ¬لحظة العرض المسرحي¬ إلى العلامة ذاتها التي طرحها النص الأدبي، بل تتحدد علاقتها المباشرة بالمؤول وموروثه الثقافي، من خلال إرجاع العلامات لا إرادياً إلى ثقافته وبيئته الاجتماعية. ولهذا استبدل بوغاتريف الدلالة الحقيقية بمصطلح آخر أطلق عليه: (الدلالة بالتضمن)، وتتمثل في كل عناصر العرض المسرحي. وتحكم العلاقة الجدلية بين الدلالة الحقيقية والدلالة بالتضمن كل مظهر من مظاهر العرض المسرحي، لأن "الديكور وجسد الممثل وحركاته وكلامه يحدد ويتحدد على الدوام عبر تغيّر شبكة من المعاني الأولية والثانوية"( كير إيلام، سيمياء المسرح والدراما، ص:19).
وارتباطاً بتعددية الدلالة بالتضمن، تنتج العلامة المسرحية سلسلة من الوحدات الثقافية في العرض المسـرحي، وتكمـن قدرتها التوليدية في اتسـاع الدال بالتضمن، لأنه "مهما بلغت درجة تحديد مؤشرات الدال بالتضمن، فإنها تعتمد على قوة الاتفاقات الدلالية المعمول لها"( نفسه، ص:20). لكن هناك استثناءات، ففي المسرح الإغريقي ومسرح النو والكابوكي تكون الأنساق العلامية والوحدات الدلالية ثابتة، بحيث يصعب التمييز بين الدلالة الحقيقية والدلالة بالتضمن، بل تختفي دلالة التضمن نهائياً، لأن العرض لا يحيد عن أنساقه العلاماتية المحددة مسبقاً والتي يدركها المتلقي جيداً.
يحدد صناع العرض المسرحي الوحدات الدلالية، بناء على الاتفاقية التي اعتمدت أثناء التداريب، لكن تتغير قصديتها أثناء العرض من متلق إلى آخر، لأن "قابلية المشاهد الحقيقية لإدراك ترتيب ¬ثانوي للمعاني في عملية فك كودات العرض، تعتمد على القيم خارج¬ المسرح والقيم الثقافية العامة التي تحملها بعض المواضيع وضروب الخطاب أو أشكال السلوك"( نفسه، ص:21). وفقاً لذلك، فإن العرض المسرحي "آلة سبرنطيقية" كما يقول رولان بارت، ويضاف إلى قدرة علاماته التوليدية قابلية العلامات على التأويل المستمر. فالعرض المسرحي بوصفه دلالة، بمقدوره توليد العديد من الدلالات التي تعمل بدينامية داخل العرض المسرحي، وتتحول إلى دلالات بالتضمن لكونها تخضع لثقافة المؤول من جهة، وتذعن لمجموعة سلوكات وعقائد دينية واجتماعية وأخلاقية، لأن "عالم التوليد السيميائي هو عالم متحرك. وأن نفترض أن له بنيات لا يعني أبداً أننا نفترض أنه ثابت: إن الأمر يتعلق، على العكس من ذلك، بالتعرف على آليات تغير بنيته"( إيكو ، أمبرتو، العلامة تحليل المفهوم وتاريخه، ص:179).
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق