مجلة الفنون المسرحية
هل يتجه المسرح المعاصر إلى السينمائية؟
يبقى التيار الرئيسي معتمداً على مزيج من الآداب والفنون
*رياض عصمت - الشرق الأوسط
لا شك أن زمننا الراهن هو زمن التعددية في الفنون الدرامية، ولا شك أن الدراما استفادت من بقية الفنون استفادة متزايدة، سواء كنا نتحدث عن المسرح أو الفن التشكيلي أو الموسيقى أو السينما. لذلك، لا بد أن يستسلم المتفرج المعاصر لفكرة ضرورة تنوع وتعددية المدارس والاتجاهات والتيارات في الفنون الدرامية، وإلا فإنه سيصبح خارج إطار الزمن. علينا أيضاً أن نتقبل فكرة أن لكل نمط من الفن الدرامي جمهوره، وأنه لا يحق لأحد فرض نمط واحد في الدراما، تراجيدياً كان أم كوميدياً، سياسياً كان أم ترفيهياً، تاريخياً كان أم واقعياً، تقليدياً كان أم حداثياً. ويا حبذا لو يتعلم السياسيون الديمقراطية من حكمة الآداب والفنون!
ولا شك أن صدارة العنصر الأدبي بدأت بالتناقص في دراما النصف الثاني من القرن العشرين والعقد الأول من الألفية الثالثة، ليبرز دور المشهدية البصرية. لكن الأمر ما لبث أن بلغ حداً متطرفاً حاول قتل الكلمة كلياً، والاستعاضة عنها بالإيماء والرقص والموسيقى والغناء والتشكيل والسينما والكومبيوتر. وهناك مقاربات كثيرة ألغت النص المؤلف مسبقاً، واستعاضت عنه بنص وليد للبروفات، يسهم في توليفه الممثلون تحت قيادة مخرج، وربما بمساعدة مصمم السينوغرافيا. الفكرة بحد ذاتها طليعية وذات فوائد، لكن الإسراف فيها يؤدي لتسميم لفن المسرح برمته، وإلغاء لماضيه العريق. الاتجاه الأصح هو ألا تستغني الدراما عن تيارها الأساسي في الكلام، إنما تعمل على إضفاء المزيد من الاستمتاع «السمع - بصري»، عبر مشهدية مسرحية تضيف إلى الحوار عنصري الجسد والتكنولوجيا. إن رفد التيار الرئيس بالتجريب أمر مشروع، بل مطلوب لتجديد دماء المسرح في العروق الهرمة، كما برهنت تجارب عدة فيما أطلق عليه اسم «المسرح التشكيلي»، في بولندا وفرنسا على وجه الخصوص، أو في التجارب الرائدة للفنان المسرحي الأميركي جورج كوتس؛ وجميعها اعتمد منهج الحداثة والتجريد الجمالي في التشكيل والإضاءة والصوت، واستغنى كلياً أو جزئياً عن نصوص الحوار. والحق يقال، إن هناك تفرعين لمسرح التفاعل والتقاطع ما بين الفنون: أحدهما جسدي محض، والثاني تقني محض في استخدامه المكثف لوسائل الاتصال المعاصرة. والاتجاهان وليدا ما أطلق عليه اسم «مسرح المخرج»، وهو تيار شاع منذ الثلث الأخير من القرن العشرين، مستلهماً بعض كبار المسرحيين العالميين الرواد، مثل غوردن كريغ، وأدولف آبيا، وماكس راينهارت ومايرهولد. ويعمد المخرج من هذا التيار إلى تفكيك النص، ثم إعادة بنائه من جديد على أساس بصري، ويتحرك الممثلون كدمى معبرة جسدياً عن جمالية ومعنى اللوحات الدرامية المرسومة بدقة من قبل مخرج ملهم. وقد استفاد مخرجون لامعون من هذه التجارب الرائدة، ومنهم يوري لوبيموف (روسيا)، وبيتر شتاين (ألمانيا)، وروجيه بلانشون (فرنسا)، وسواهم. كما نشأ عنها نظريات وممارسات بيتر بروك وجيرزي غروتوفسكي وجوزيف تشيكن ويوجينيو باربا في «المسرح الفقير»، وسط فراغ مسرحي متقشف، يملأه حضور طقسي جسدي للممثل، بعرض احتفالي تستخدم فيه الأقنعة والهياكل العملاقة أحياناً كثيرة. اليوم، نجد أسماء عدة لامعة، نذكر منها: جوليا تيمور، وسيمون ماكبارني، وكيتي ميتشل، وريماس توميناس، وديمتري كريموف.
ماذا كان موقفنا في أقطار العالم العربي من كل هذا؟ بالتأكيد، لم يكن ممكناً الانغلاق على الذات. توزع شرف الريادة بين المغربي الطيب الصديقي، والتونسي المنصف السويسي، واللبنانيين منير أبو الدبس وريمون جبارة ويعقوب الشدراوي، والمصريين سعد أردش وكرم مطاوع وأحمد زكي، والسوري فواز الساجر، والعراقيين إبراهيم جلال وسامي عبد الحميد ويوسف العاني وقاسم محمد. بعد ذلك بمرحلة زمانية، وجدت مساهمات لاحقة متباينة الاتجاهات التجريبية، من طليعية التوانسة الفاضل الجعايبي ومحمد إدريس وتوفيق الجبالي وعز الدين قنون والفاضل الجزيري، إلى حداثية العراقيين صلاح قصب وجواد الأسدي، إلى رؤى انتصار عبد الفتاح وحسن الجريتلي، وجميعها حاولت المزج بين الأصالة والحداثة.
تلك جميعاً نباتات انبثقت من أرض خصبة، تنتمي في أعماقها إلى ملكوت الشعر، وإن كانت تستخدم لغة النثر، أو حتى لغة الصمت.
اتجهت معظم التيارات المسرحية التجريبية إلى استلهام الفن التشكيلي والموسيقى، وكثيراً ما استخدمت مصطلحات مثل «المسرحية / المعرض»، و«المسرحية / الكونشرتو»، بل وصل الأمر إلى ما هو أبعد من التصوير الواقعي أو التعبيري، ليلامس السيريالية، وليبلغ أحياناً حد التجريد المسرحي. كذلك فعلت العروض المسرحية المتأثرة بالموسيقى والرقص، بحيث إن الحركة والتعبير الجسدي صارا طاغيين أحياناً كثيرة على دلالات المعنى.
يبقى التيار الرئيسي للمسرح معتمداً على مزيج من الآداب والفنون، يعمل في انسجام وتنسيق وتآلف داخل كل عملٍ حسب طبيعته وطرازه الدرامي. وتظل الحبكة والحوار دعامتين أساسيتين للدراما، كما أن الديكور والإضاءة والأزياء والموسيقى جميعها عناصر تسهم إسهاماً خلاقاً في تجسيد الدراما. الجميع يعرف أن السينما تأثرت في بداياتها بالمسرح في أوجه كثيرة، لكنني أود أن أضيف أن المسرح تأثر خفية بالسينما أيضاً، ليس من إدماج بعض العروض السينمائية في العرض المسرحي، وإنما من خلال استلهام البناء الدرامي السينمائي نفسه في المسرح، وسريان هذا من التأليف إلى الإخراج والسينوغرافيا، وصولاً إلى فن الأداء.
وفي عصرنا الراهن، إذن، أصبحت السينما الملهم الأكبر للمسرح. فمن ناحية، نجد مخرجي سينما عالميين تفوقوا مسرحياً، ومنهم إنغمار برغمان، وأندريه فايدا، وفرانكو زيفريللي، وباتريس شيرو. كما نجد بعض كبار مخرجي المسرح نحوا إلى إبداع أفلام قيمة، ومنهم أورسون وِلز، لورنس أوليفييه، بيتر بروك وكينيث براناه. ربما كان الأهم أن النص المسرحي في عصرنا بدأ ينحو نحو استلهام السيناريو السينمائي من حيث البناء والحبكة، متحدياً إمكانات المسرح المحدودة، التي أنجبت ما يسمى «لغة المسرح»، واعتمدت على التقشف في الديكور.
وفي السنوات الأربع الماضية، أتيحت لي في الولايات المتحدة الأميركية فرصة حضور كثير من نماذج ما أطلق عليه اسم «NT - Live»، وهو برنامج ينقل تلفزيونياً بقالب فني بعض أشهر المسرحيات البريطانية من إنتاج «المسرح القومي البريطاني» أو سواه من الفرق، ويعرضها على الشاشات السينمائية الكبيرة لجمهور يقتني البطاقات مسبقاً بإقبال لافت للنظر. أذكر من بين هذه العروض التي شاهدتها، وذلك على سبيل المثال، وليس الحصر: «هاملت» من بطولة بنيدكت كامبرباتش، و«كوريولانوس» من بطولة توم هيدلستون، و«سالومي»، و«حلم ليلة صيف»، و«منظر من الجسر»، وسواها.
ولا يتناقض اتجاه التأثر بالسينما كثيراً مع نظرية بروك في اعتبار أية مساحة فارغة مجالاً متاحاً للتمثيل، أو نظرية غروتوفسكي حول المسرح الطقسي المتقشف، ولا نظرية باربا حول «المقايضة» بين ثقافتين متباينتين. نحن لا نتحدث هنا عن إدماج العرض السينمائي بالمسرح، كما كان الأمر في تجارب بسكاتور وراينهارت، التي أثرت بعمق على نظرية وممارسة برشت، وإنما نتحدث عن مسرحٍ ذي بنية سينمائية الطابع. هناك مسرحيات كلاسيكية ومعاصرة يزداد توهجها في زماننا تقوم أساساً على استلهام السيناريو السينمائي، أو الاستفادة من الصور البصرية. نذكر منها على سبيل المثال، مسرحية وليم شكسبير «هاملت»، ومسرحية إدموند روستان «سيرانو دو برجراك»، ومسرحية برتولد برشت «غاليليو»، ومسرحية فرانك فيديكند «يقظة الربيع»، ومسرحية جورج بوشنر «دانتون»، ومسرحية آرثر شنيتسلر «الدائرة»، فضلاً عن كثير من أعمال الميوزيكال، مثل: «شبح الأوبرا»، و«المسيح نجم عالمي»، و«البؤساء»، و«أوليفر»، و«إيفيتا».
وهناك نماذج عربية تأثرت أو طمحت إلى مجاراة السينما، نذكر منها مسرحية ألفريد فرج «الزير سالم»، ومسرحية محمود دياب «باب الفتوح»، ومسرحية عبد الرحمن الشرقاوي «الحسين ثائراً وشهيداً»، ومسرحية الدكتور سلطان القاسمي «الواقع.. صورة طبق الأصل»، ومسرحية محفوظ عبد الرحمن «حفلة على الخازوق»، ومسرحية سعد الله ونوس «منمنمات تاريخية»، ومسرحية ممدوح عدوان «سفر برلك»، ومسرحية كاتب هذه السطور «عبلة وعنتر»، وقد قدمت جميع هذه النصوص المتفاوتة بين التراجيديا والكوميديا بنجاح على خشبات المسرح.
وتعود بدايات التأثر المسرحي بالسينما إلى كتابين رائدين للمخرج السينمائي العظيم سيرغي آيزنشتين، هما «الحس السينمائي» و«الشكل السينمائي»، وكلاهما يتحدث عن جماليات الدراما عموماً من قبل فنان ممارس، كان له شرف الريادة في استكشاف قدرات المونتاج على التأثير العاطفي في المشاهد. وتجرأ آيزنشتين، الذي اشتهر بأفلامه المصورة بالأسود والأبيض، على التحدث باستفاضة عن الأهمية التعبيرية للألوان في السينما. وبالتالي، ليس المونتاج وحده، ولا الفلاش - باك، هما ما يميزان «المسرح السينمائي»، بل استخدام مبهر للتكنولوجيا في السينما. والواقع، منذ زمن آيزنشتين، ظهرت تجارب مسرحية كثيرة في مختلف أرجاء العالم، واحتفي ببعضها في مهرجانات عالمية كبيرة، مثل: «أفينيون» و«إدنبره» و«برلين»، استلهمت روح السينما وتكوينها أفضل استلهام، وانتقل تأثير السينما إلى المسرح، بحيث إن السينوغرافيا كانت بطل عرض الميوزيكال البريطاني «المرأة ذات الرداء الأبيض»، عن رواية ويلكي كولينز الشهيرة، ومن إخراج تريفور نن. وفي عصرنا الراهن، تصدق مقولة «المسرح سينمائي الطابع»، كما كان هناك في عصر مضى «السينما مسرحية الطابع»؛ وهذا المزيج السحري هو ما سيكوِّن مسرح المستقبل.
* كاتب سوري مقيم في الولايات المتحدة
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق