تصنيفات مسرحية

الخميس، 14 ديسمبر 2017

رقصة بابل الممزقة على خشبة المسرح التونسي

مجلة الفنون المسرحية


رقصة بابل الممزقة على خشبة المسرح التونسي

محمد ناصر المولهي - العرب 

ما تخفيه اللغة يقوله الجسد، ربما من هنا نفهم أهمية العمل الكوريغرافي الذي يحكي ما يحكيه فقط بالجسد يرافقه في ذلك مصباح الموسيقى، فالحركة الراقصة هي الشكل والمعنى في آن واحد كما تقول الدكتورة ليلى محمد. وما يشهده الواقع العربي اليوم من أهوال تطال بداية الجسد، قد تعجز عن قوله اللغة والأصوات، وربما جاء الوقت لنحكيه بأجسادنا، أجسادنا المغلولة والتي عاشت وتعيش الواقع الدامي. 

ضمن فعاليات الدورة الـ19 لأيام قرطاج المسرحية وفي إطار المسابقة الرسمية للمهرجان، عرض بقاعة الفن الرابع في العاصمة التونسية العمل الكوريغرافي العراقي “0 سالب” للمخرج العراقي علي دعيم.


الإنسان العراقي

العرض يبدأ بشخص واحد مغبرّ يتوسط الركح، يجسد حركة تبدأ من الأسفل منذ اتكاء الممثل وظهره للجمهور، لينهض مجسدا حركات الخارج من الطين، حركات الخلق كما نراها، إذ وكأننا أمام إنسان يفقس من التراب، كما يرد في أساطير الخلق الدينية التي تقول إن الإنسان خُلق من طين. لكن ما الذي فعله ما إن خلق؟

ما فعله حركات بدأت من الأرض لترتفع في قامتها وتنتصب على ساقين. إنسان يحاول وعي ذاته ووعي محيطه، يحاول التخلص من بقايا غبار الطين وتحرير أطرافه، ليلتحق به إنسان آخر، وهنا تتحرر الحركة أكثر، وتبدأ في ثنائيات، تتشابه وتتنافر وتختلف. إنه الاجتماع الأول للإنسان، الذي كما أقره أرسطو “كائن لا يمكنه العيش بمفرده”.

السينوغرافيا بسيطة، ستار من خيوط في آخر الركح فيه درج، خلفه يؤدي أحد الممثلين حركات شبيهة بالتوجيهات، وكأنه هو اليد الخفية التي تحرك كل ما يدور على الركح، وحبل غسيل وبرميل يحرك داخله أحد الممثلين عصاه.

العمل الكوريغرافي لا يقترح حلولا نهائية لحال الإنسان العراقي وتاريخه بقدر ما يحاول أن يشخص ما آل إليه الوضع
تتوقف الموسيقى، ليقدم المشهد الذي نراه محوريا ورابطا في العرض، يدخل أطباء على وقع أصوات قاعة العملية، ويفتحون كتابا ليجروا جراحة عليه، وما هذه الجراحة إلا تمزيق الأوراق التي يرون أنها تستحق التمزيق. هو مشهد يوحي إلى التزوير الذي يقع على التاريخ، وطمس حقائق منه وتغيير مجراه. وهو تماما ما نراه في العراق اليوم، حيث تدمير الآثار والكتب والمخطوطات، وطمس كل ما لا يتماشى مع النزوات الطائفية من تواريخ عريقة، لأقدم التجمعات الحضارية وأقدم المدن البشرية.

إنها بابل التي طمسها على مر العقود جراحون كثيرون، أنظمة مستبدة، استعماريون متطرفون، طائفيون، كلهم يدّعون الصلاح والعلاج فيما دمروا ما دمروه من آلاف السنوات من الحضارة.

يربط هذا المشهدُ المشهدَ الأول بما يليه، إذ يقدم أربعة ممثلين حركات لعمال مختلفين، فيهم الصياد والنادل وماسح الأحذية والبناء. هؤلاء يؤدون حركات إيحائية حول أعمالهم. حركات تكون فرادى ثم تتمازج في كل مرة ليؤدي أربعتهم الحركة نفسها التي يؤديها أحدهم، كأن يؤدوا حركة الصياد أو البناء أو النادل. وكلما اجتمعوا ينسحب أحدهم، ويتبعونه في حركة دائرية تخطها مشية روبوتية.

إنه عصر الإنسان الآلة. الإنسان المحكوم بحركات ونسق لا محيد عنهما، وهنا يمكننا حتى أن نقارن حركات الإنسان الأولى بحركة هؤلاء الميكانيكية الرتيبة والمتكررة والفاقدة للحرية والمعنى.

ما يؤكد حديثنا حول نقد الحركات المتطرفة التي هدّمت التاريخ العراقي، هو حضور أحد الممثلين ملثما في الخلفية، مؤديا لحركات تشبه الذبح ومعلقا على حبل الغسيل ملابس نسائية، يتفحصها ويبعدها، ليعلق ملاحف برتقالية في دلالة واضحة على ملابس الإعدام التي كان يلبسها متطرفو “داعش” لضحاياهم.

يجتمع الإنسانان الأولان بهؤلاء ويتغير كل شيء، تتحرر الحركة، تنزع القمصان، ويعاد فتح الكتاب ثم يلقى، كلها قراءات يقترحها المخرج للخروج ببلد دمرته الحرب وأفرغته من قرون ناصعة من التحضر لتدخله ظلام الجهل والتمزق والعنف والدمار.

لكن كل ذلك ينتهي ما إن يدخل أحدهم بربطة عنق وكمبيوتر، يفتحه ليختفي كل شيء. العمل لا يقترح حلولا نهائية لحال الإنسان العراقي وتضميد تاريخه المجروح، بقدر ما يحاول أن يخرج للسطح تشخيصات لما آل إليه الوضع، تاركا للجميع الحرية في التفكير في حلول خاصة وعامة.

الضغط العقدي والاجتماعي حاضر في غياب العنصر النسائي المحكوم بالعادات، وفي أجساد الممثلين التي لم توح بالشكل المطلوب

أجساد ناقصة

في كتابه “الأورغانون الصغير” يرى المسرحي الألماني برتولت بريشت عناصر الكوريغرافيا الأساسية في الارتجال الإيمائي والإيماءة الأنيقة والتجانس العام للحركة التي تؤدي إلى الأسلبة وتُساهم في خلق تأثير التغريب، وإن حضر التجانس في عرض “0 سالب” فإنه كان ناقصا، خاصة في التصور الركحي للمثلين الذين أخفقوا في خلق التجانس بين الحركة والتموقع في بعض الحركات التي فشلت في أن تكون إيماءات.

إن الموسيقى التي لم تنقطع عن العمل الكوريغرافي، ساهمت ربما في حجب الكثير من النقائص، لكننا نتساءل إن كان المخرج يريد بداية التفحص وإنشاء رؤياه من عمق البدايات التاريخية، لماذا لم يستعن بموسيقى الإنسان، وهو ما لامسه قليلا بتقديمه لمشهد محموم تحت ضجيج الصراخ، صراخ القتلى والخائفين والنساء والضحايا، لكنه عاد إلى موسيقى رتيبة أغلبها وقع طبول، نتفهم الحرب وطبولها، لكن كان يمكن التنويع أكثر، أو حتى الصمت تاركا فسحة للجسد وموسيقاه.

مسألة أخرى نراها غريبة جدا، هو غياب العنصر النسائي في طرح إشكالي يحاول أن يمتد عميقا في أقاصي التاريخ، فحتى قصة الخلق كان فيها آدم وحواء، والتاريخ أيضا كانت النساء محركا مهما فيه، ولا أدل من زنوبيا التي حكمت سابقا تدمر وغيرها. غياب الجسد النسائي مثل حلقة نقص فادحة في العرض، الذي لم تتحرر فيه الحركة بالشكل المطلوب.

نتفهم الحركات المنقبضة والتي تحاول الفكاك من القيود وتحرير الأيدي من خلف الظهر، كما تداعبنا حركات الانحناء وغيرها، لكننا نلاحظ أن الحركات منغلقة في أغلبها. يظهر الأمر عاديا في البداية، إذ التاريخ الإنساني دائما حركة فكاك ومحاولة خروج من القيود، لكن حتى حركة الدوران أو الارتفاع أو فتح الأيدي كلها كانت حركات منغلقة، فما معنى أن تفتح ذراعيك فيما قدماك شبه مضمومتين؟

هنا ربما نحيل إلى معطى اجتماعي، حيث كأننا بالضغط العقدي والاجتماعي حاضر في غياب العنصر النسائي المحكوم بالعادات، وفي أجساد الممثلين، التي لم توح بالشكل المطلوب وهي تحاول التحدث عن أكثر المفاهيم تعقيدا، مفهوم الإنسان، بين ماضيه وحاضره، ثيمة مثل هذه من الغريب ألا تحضر فيها حركة جنسية واحدة، إذ أن أجساد الممثلين فقدت في بعض الأحيان الحرية والليونة وهذا يفسر بحجم الضغط الاجتماعي الذي يتعرض له حتى الممثل العراقي، لكن يمكن تجاوز ذلك ويبقى أن نشيد بجهد الممثلين.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق