مجلة الفنون المسرحية
مسرح قصر البيكاديللي... سيرة المجد الثقافي الغابر هل تستعاد أيامه الجميلة؟
ابراهيم بيرم - النهار
كان يا ما كان... كان في عصر الأنوار المشعشعة منذ أواخر عقد الستينات وحتى اندلاع نيران الحرب الأهلية في أواسط السبعينات مسرح باذخ أضاء سماء بيروت وجعلها تتوهج فناً ومسرحاً وثقافة وحيوية وحضارة... وسعادة فياضىة، اسمه مسرح قصر البيكاديللي.
خشبة عرض مسرحي وشاشة سينما وقاعة أقرب إلى القصور الأوروبية الباذخة منها الى المسرح المألوف في بساطته وتواضعه. مسرح كان يليق يوم انطلق، بعاصمة الفكر والريادة في كل مناحي الثقافة والرقي. كان يتناسب من حيث الفخامة مع ذلك العصر الجميل، مع الزمن الذهبي الذي تحن إليه الأنفس وتهفو الضمائر حيث كانت هذه المدينة قُبلة كل رواد الفن وعشاقه من أربع رياح الأرض.
اسم المسرح ارتبط ارتباطاً وثيقاً بشارع الحمراء المتوهج في عزه، شارع الليل الطويل والقناديل التي لا تنطفئ، حكاية ريادة وفخامة جسدها بامتياز ذاك المسرح الذي استحال قطعة فنية، وارتبط اسمه ايضاً بالسفيرة الى القمر وأجواز الفضاء السيدة فيروز وبالرحابنة وأعمالهم الخالدة واستطراداً بكبار المسرحيين العرب من عادل إمام الى دريد لحام وسواهما الذين أدركوا ان مسرحهم سيبقى ناقصاً ما لم يتعمد على خشبة البيكاديللي وما لم يباركه جمهورها بنظرات منه.
لكن مفخرة المسارح هذا احترق فجأة في مطلع العقد الماضي. انطفأت مرة واحدة والى الابد انواره وصفدت أبوابه الرئيسية بجنازير وكأنها أغلال مانعة لاي حراك فيه. واللافت أن الفنان المبدع زياد الرحباني كان آخر من قيض له الوقوف على خشبته بمسرحيات ثلاث قدمها تباعاً كان أولها "بخصوص الكرامة والشعب العنيد ". وربما كانت آخرها تجاربه المسرحية.
الحريق لم يكن متعمداً، وفق روايات ذلك الحين، لكن الأكيد أن المس الكهربائي الذي كان السبب أطاح ربما بآخر المعالم التي تذكر بالزمن الرائع الهارب كالماء من بين أصابعنا، والمتسلل من ثنايا ذاكرة الشاهدين على عصر الروائع الغارب والغابر. ومنذ عقد ونصف عقد بات مدخل المسرح كئيباً غارقاً في العتمة، وكأنه يبكي ويستبكي زمن العز عندما كان المدخل إياه يضج بحركة مئات المنتظرين امامه من عشاق الفن الراقي لحضور مسرحية أو حفلة غنائية او فرقة استعراضية محلية واجنبية.
منذ ذلك الوقت انطفأت سيرة المسرح كما انواره وأصبح مستقبله لغزاً يكتنفه الغموض لا سيما بعدما توفي مؤسساه البيروتيان واستردت الشركة المالكة للبناء الضخم ملكية المسرح وحق التصرف به. إلى أن تناهى الى علم المهتمين ما فحواه أن وزير الثقافة الحالي الدكتور غطاس خوري قرر استملاك الوزارة للمسرح تمهيداً لإعادة اضاءة انواره المطفأة واعادة بعث الروح فيه باعتباره معلماً من معالم الذاكرة الثقافية الغنية للعاصمة على حد قول الناقد الفني وصاحب كتاب عن سينمات بيروت التاريخية محمد سويد في اتصال مع "النهار".
وعليه صار الوسط الفني والثقافي يعيش على أمل الترجمة العملية لهذا القرار النوعي الذي من شأنه، وفق سويد، "ان يشكل فاتحة العودة لاستعادة زمن العاصمة المشرق والمضيء على لبنان وامتداداً كل المنطقة التي كانت تنظر الى عاصمتنا على انها الرائدة والمختبر".
يتحدث الكاتب والناقد طلال شتوي في كتابه "زمن زياد قديش كان في ناس" عن مرحلة انطلاق مسرح البيكاديللي وظروف نشأته فيقول: "صالة قصر البيكاديللي تحفة الأخوين البيروتيين خالد وهشام عيتاني والفلسطيني محمود ماميش. هؤلاء الثلاثة أسسوا طوال عقد الستينات معظم مسارح وصالات شارع الحمراء والاحياء الواقعة في الجزء الغربي من بيروت. عشية اندلاع الحرب الاهلية سينسحب ماميش ليستمر الاخوان عيتاني في إدارة هذه المسارح والصالات ثم في إغلاقها واحدة تلو أخرى.
منذ البدء كان الهدف ان يكون البيكاديللي الذي يتسع لـ 780 متفرجاً، قصراً للثقافة والفن، واقتبس اسمها من بيكاديللي سكويرفي لندن تأكيداً على تكيفها مع شتى فنون العرض. حرص المؤسسون على تصميم فخم قام به الفرنسي روجيه كاشار واللبناني وليم صيدناوي، واستلهم المهندسان الموهوبان في تصميمهما ملامح واضحة من قاعة شهيرة في البرتغال. وأتى افتتاح البيكاديللي عام 1976 بعروض لفرقة "اوبرا فيينواز" ليؤكد الفخامة والنوعية والى حد ما العالمية بمفهومها اللبناني. قبيل الافتتاح كان ماميش قد أجرى لقاءات مع عاصي ومنصور الرحباني لاجتذاب مسرحيات فيروز الى المسرح، وكان عاصي متحمساً. وافتتح قصر البيكاديللي في كانون الثاني عام 1967 بمسرحية "هالة والملك" برعاية رئيس الجمهورية آنذاك شارل الحلو. اشتهر البيكاديللي بالمخمل الأحمر الذي يغطي أدراجه ومماشيه، وبتلك الثريا الكريستالية المتدلية من سقفه، وقيل يومذاك انها مطابقة للثريا المتدلية من سقف الحرم النبوي في مكة. لكن شهرته الكبرى ارتبطت بفيروز وبالبورتريه الكبير الذي يعادل الحجم الطبيعي والذي يستقبل الهابطين على الادراج".
ويضيف: "صحيح أن البيكاديللي استضاف عروضاً قدمتها "اوبرا فيينواز" و"باليه البولشوي (الروسي) و "الكوميدي فرانسيز" و "رويال باليه" وداليدا وعادل إمام وشيريهان والعروض الأولى لأشهر انتاجات هوليوود والقاهرة، الا ان فيروز طغت على الجميع. وتركت هناك حكاية يرويها كثر عاشوها أو سمعوا بها ذلك حين انقطع التيار الكهربائي خلال أحد العروض فانفردت فيروز بالغناء دون ميكروفون ورافقها عاصي على البزق وكان ذلك على ضوء الشموع في ما يشبه الخرافة الساحرة".
وتروي الناقدة الفنية الزميلة الكبيرة في "النهار" مي منسى التي رافقت من كثب نهوض مسرح البيكاديللي ورحلة العروض المميزة على خشبته، بعض محطات مسيرته وسيرته، فتشير الى ان "المسرح كان محطة نوعية مميزة في رحلة المسرح اللبناني والمسرح الرحباني خصوصاً منذ انطلق في اواخر الستينات". وتضيف ان المسرح الرحباني "هو الذي اعطى لهذا المكان ألقه ومكانته الرفيعة في حين ان المسرح عينه ساهم في ترقية المسرح في لبنان وإعطائه هذا البعد التاريخي العظيم والرائد".
وتكمل الزميلة مي: "البيكاديللي قبل ان يستقبل اعمال الرحابنة عام 1976 كان عبارة عن سينما عادية تعرض الأفلام الاميركية، لكن ومنذ ان احتلها الاخوان الرحباني بمسرحيتهما الشهيرة "هالة والملك" تغير شكل المسرح وتحولت وظيفته ودوره وكأنه المسرح نفسه والرحابنة وفيروزهما قد وجدا ضالتهما المنشودة ببعضهما البعض وسارا معا في الرحلة الابداعية المميزة. وكرت السبحة، ففي عام 1968 قدموا أوبريت "الشخص"، وفي عام 1970 كان عملهم الشهير "يعيش يعيش" وبعده بعام أتى عرض مسرحية "صح النوم"، وفي 1972 كانت مسرحيتهم "ناس من ورق" وفي 1973 شهد المسرح عينه عرض مسرحية "المحطة". وفي العام التالي عرضت مسرحية " لولو" وفي عام اندلاع الحرب المشؤومة (1675) عرضت مسرحية "ميس الريم" وآخر حبات العنقود كانت في عام 1978 مسرحية "بترا".
وتختم منسى: "سقى الله ذلك العهد من الابداع اللبناني بمقاييس العالمية الذي استقبلته خشبة هذا المسرح وزهت به بيروت".
وبعد، هل تستعاد أيام المسرح الذي كان رمزاً لعزّ بيروت ومجدها الثقافي؟
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق