مجلة الفنون المسرحية
ما الذي تبقى من سنوات السعادة الجزائرية؟! جيل ما بعد الحرب وتجربة «مسرح القنوط»
أحميدة عياشي - الأخبار
اختتم «مهرجان المسرح المحترف» في الجزائر في اليوم الأخير من العام المنصرم بعد تسعة أيام من العروض والنقاشات داخل «قاعة محمد بن قطاف» وعلى هامش «مسرح محيي الدين باشطارزي» في مقهى ساحة بور سعيد في الجزائر العاصمة. جاءت أيام المهرجان هذه السنة خالية من الضيوف العرب والأجانب بذريعة انعكاس الآثار السيئة للأزمة الاقتصادية على تنظيم اللقاء السنوي للمسرحيين الجزائريين الذي كان يعد في سابق الأيام من أهم المواعيد الحافلة بالأعمال المسرحية الجزائرية والعربية والأجنبية وبالمحاضرين والنقاد والإعلاميين العرب..
لم يكن وزير الثقافة الحالي عز الدين الميهوبي محظوظاً مثلما كان الشأن لزميلته خليدة تومي التي كانت مدللة الرئيس بوتفليقة شخصياً حيث عرفت وزارة الثقافة في ولايتها المتجددة (2002-2014) ميزانية لم يحظ بها أي وزير ثقافة منذ أكثر من خمسين سنة من عمر استقلال الجزائر.
وقال الميهوبي وهو يفتتح آخر تظاهرة ثقافية لعام 2017 أن الحكومة لم تخصص سوى ما يقارب 40 ألف دولار للدورة الثانية عشرة لـ «مهرجان المسرح المحترف» الذي شارك فيه أكثر من عشرة مسارح جهوية وعشرة فرق مسرحية خاصة. مع ذلك، قال بأنه جد متفائل بمستقبل المسرح في الجزائر، فهل من حقنا أن نكون متفائلين بغد المسرح في الجزائر!؟
يقول لي العزري وهو مدير سابق في «مسرح وهران» وعضو لجنة التحكيم في هذه الدورة «إنّ الجزائريين بددوا الكثير من الوقت والمال من أجل الرقي بالمسرح الجزائري من دون جدوى، والكثير من الكوادر قدموا اقتراحاتهم من أجل إحداث إصلاحات عميقة داخل المؤسسة المسرحية لكنها ظلت حبيسة الأدراج، وأن الحال المحزن الذي نعانيه اليوم هو ليس فقط نتيجة الأزمة الاقتصادية بقدر ما هو نتيجة سياسة الارتجال، وقصر النظر وغياب الحوار بين الفاعلين في الميدان بسبب تسلط البيروقراطية المركزية».
بينما يعتبر حسان عسوس وهو من رفقاء كاتب ياسين وأحد الوجوه المعروفة التي قدمت دعماً للجيل الجديد يوم كان على رأس «مسرح سيدي بلعباس» غرب الجزائر العاصمة (450 كلم) بأن «الأزمة الحالية التي يعانيها المسرح الجزائري تعكس الأزمة البنيوية التي اعترت القطاع الثقافي منذ التسعينيات التي اتسمت بالعنف الاسلاموي واغتيال العشرات من المثقفين والمبدعين والصحافيين، ومغادرة أكثر من مليون كادر جزائري إلى المنفى. ما ترتب عنها التغير الجذري في توجهات الجزائري الذي تحول من مواطن متوسطي الرؤية إلى شخص محافظ، منغلق ومرتاب».
ويعد مثل هذا الوضع المنغلق والمحافظ في نظر عسوس منطقياً كونه من إفرازات الحرب الأهلية (200 ألف قتيل وآلاف المهجرين والمصدومين نفسياً) التي عاشها الجزائريون بمختلف فئاتهم وانتماءاتهم وثقافاتهم حتى النخاع. من هنا فالحديث - يضيف عسوس- عن «التفاؤل حول مستقبل الثقافة والمسرح على وجه الخصوص لا يرتبط بالمال والوضعية الاقتصادية أساساً، بل هو مرتبط بحال الوعي النقدي الذي تعرض للتخريب من الداخل والمحاصرة من قبل المجتمع الذي تراجع كثيراً عن مكاسبه التقدمية مقارنة بسنوات الحرب نفسها». ويقول حسن عسوس: «نحن نعيش اليوم لحظة حاسمة، لحظة فارقة وخطيرة، تجعل الجزائر عند مفترق الطرق بين الانخراط مجدداً في الحداثة أو الانتكاس خلف زمن البربرية، حيث المستقبل يبقى أقل وضوحاً وأكثر اقتراباً من نقطة العدمية والعنف العدمي الذي بإمكانه أن يشعل حروباً تكون أسوأ من الحرب الأهلية التي اكتوى بنارها الجزائريون، وأبأس من الحروب الأهلية التي تولدت عن اخفاقات الموجة الأولى مما يسمى بالربيع العربي».
كل شيء استحال عبثاً
كل شيء تحول إلى عبث. الحلم بغد ديموقراطي، بعودة الجزائري إلى ذاته التي تعرضت إلى هزة عميقة خلال فترة الحرب وانهيار المشرع الديموقراطي غداة الانتقال إلى نظام التعددية، فشل المصالحة التي طالما انتظرها الجزائريون وهم يعانون من سعير الحرب الاهلية التي أطاحت بمعتقداتهم ويقينياتهم السابقة في فترة التسعينيات، ثم هذا الخواء الذي أزالت عنه الأزمة الاقتصادية الخانقة تلك الأقنعة الجميلة والخادعة التي ارتداها لوقت طويل
عبث شبيه بذات العبث الذي اصطدم به جيل ما بعد الحرب العالمية الثانية وعبّر عنه كتاب مسرحيون مثل بيكيت وكامو وايونسكو وارتور اداموف، إلا أنه في الوقت ذاته عبث ارتبط بمنظور الخوف المتولد من تجربة العنف العدمي الذي تحول الى ممارسة يومية واغتصاب بلاغي للتاريخ اليومي للأشخاص والجماعات، ولم تتمكن المصالحة من تجاوزه، ومداواته بالحقيقة والعدالة، بل حاولت تجنبه بإنتاج خطاب الصمت من حوله وإعادة كتابته ضمن منشور الصمت الرافض مواجهة الحقيقة والحديث عنها بصوت مسموع.
تقديس الاستسلام حاضر
في مسرحية «مابقات هدرة»
حقيقة ظل صداها يظهر في كل لحظة تأزم تكشف عن نفسها من خلال الاختلالات الاجتماعية والثقافية وتجليات المظاهر الصادمة في حياة الجزائريين اليومية، كظاهرة الانتحار في صفوف الذين حملوا السلاح في وجه جماعات الإسلام المسلح، وفي صفوف «التائبين» عن العمل الارهابي، وفي أوساط الفتيات المغتصبات إبان مرحلة التسعينيات، وعودة السلفية المغلقة الرافضة لراهن الحال، والاعتداءات على النساء في الفضاء العمومي وتعاظم ظاهرة الهجرة غير الشرعية (الحراڤة).
تحول هذا الشعور باللاجدوى، واللاأمل، والانتظار العقيم لانبثاق غد آخر وهذا الاحساس بالعبث لدى جيل ما بعد الحرب من الكتاب والمخرجين المسرحيين وزملائهم من الكوريغرافيين والسينوغرافيين والموسيقيين إلى تجربة بدأت ملامحها تنكشف منذ سنوات قليلة. لكنها اتضحت بشكل لافت خلال هذا المهرجان ويمكن وصفها بتجربة «مسرح القنوط». القنوط من التغيير، ومن الديموقراطية المنشودة ومن الفردوس الذي لم يتمكنوا من رؤيته والعيش في أحضانه. فمسرحية «مابقات هدرة- لم يعد هناك من كلام مجد» (إنتاج «مسرح سكيكدة»، نص واخراج محمد شرشال) تروي لنا حدوتة أناس يبحثون عن المطلق وهو السعادة المستحيلة في مجتمع مغلق يفتقد إلى المعنى لتتحول معاناتهم ونضالتهم إلى لحظتها القصوى حيث يفقدون القدرة على الكلام. أمام هذه اللاقدرة ووعيهم بحدودها، سيفضلون الاستسلام للسبات العميق. هذا السبات أو المقاومة من خلال خيار اللامقاومة للنظام، هو ما سيقودهم في النهاية إلى الهدف المنشود، السعادة. استعمل شرشال اسلوب الغروتيسك والباروك بالتهكم من النفس ومن الخطاب المألوف الثوري، ومن الذات التي تكتشف أنها ليس ذاتاً أو لن تكون ذلك إلا بالتنازل عن ذاتها لصالح الذات المبرى، الذات القوية، أو سيدة اللحظة القوية. وهذا التقديس للاستسلام أو للمقاومة السلبية، هو ما جعل المسرحية تفوز بجائزة أفضل عرض متكامل. مما جعل بعض النقاد يتشاءمون أكثر من الوجهة السياسية التي باتت تضم تحت سيطرتها وهيمنتها وجهة العمل الثقافي. وتزداد تجربة «مسرح القنوط» وضوحاً في عمل آخر استرعى انتباه الجمهور والنقاد على مستوى الخطاب والجمالية. إنّه العمل الذي قدمه «مسرح سيدي بلعباس» الذي قاده من قبل الروائي الشهير كاتب ياسين. عنوان المسرحية «الحارس»، مستوحاة من أحد أعمال الكاتب المسرحي البريطاني هارولد بنتر (1930-2008). حمل العمل توقيع المخرج عز الدين عبار وهو من بين أهم وجوه تجربة «مسرح القنوط» الذي باشره من المنتصف الأول من التسعينيات، وأخرج أعمالاً مثيرة للجدل مثل «كراتر»، «ثلاثة في واحد»، «هابيل وهابيل»، و«نون». تتعرض المسرحية إلى حالة اللاجدوى والخوف المتعدد الذي يتلاشى في النهاية في سواد اللحظة المفقودة. لحظة يصعب السيطرة عليها، تظهر أمامنا وتختفي، لكنها في آخر الأمر تقودنا إلى حقيقتنا التي طالما رفضنا النظر إليها وجهاً لوجه بقصد مواجهتها أو كتابتها بشكل مغاير لنبدل من وجهة سيرنا. وتلك الحال هي شبيهة بحال الجزائر اليوم، ذلك ما يقوله لنا عبار في مسرحية «الحارس» الذي يتحول الى آخر، لكنه يقبع في أعماقنا ويحرسنا من أنفسنا، ومن أن نحلم ونحن في قمة غربتنا الداخلية وعزلتنا القصوى. يزداد هذا القنوط جمالية مع مسرحية «انتحار الرفيقة الميتة» لفوزي بن ابراهيم، خريج معهد الفنون الدرامية. يعد ابراهيم من بين الوجوه الأكثر بروزاً خلال السنوات الاخيرة في بلورة التجربة الجزائرية في مسرح العبث وقيادتها إلى صفة تجربة ما اسميه بـ «مسرح القنوط» الذي يجرب ذلك المزج بين العربيتين، الجزائرية والعربية، والتقنية المعتمدة على بلاغة المسرح الفقير (ما بين بيكيت وغروتفسكي) والرؤية التي تريد أن تكون مشروع هجائية مبطنة لذلك الخطاب الذي تربى عليه الجزائريون، وهو خطاب التفاؤل الثوري وجمالية خطاب الثورة، لأنه في النهاية ما كان في حقيقته سوى أكذوبة دراماتيكية، كشفت عن اشباح قساة القلوب تمكّنوا من وضع المستقبل المنتظر رهينة بين أيديهم.
* روائي وكاتب جزائري
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق