تصنيفات مسرحية

السبت، 27 يناير 2018

المسرح اليوناني الكلاسيكي بأصوات اللاجئات السوريات

مجلة الفنون المسرحية

المسرح اليوناني الكلاسيكي بأصوات اللاجئات السوريات

أوستن ديفيس - الفنار للإعلام 

برلين – تقدّمت آلاء ناصر، 27 عاماً، بتردّد إلى وسط المسرح وجلست في كرسي أمام كاميرا الفيديو. ووقفت امرأة أخرى، مديرة اختيار طاقم الممثلين، في مقدّمة المسرح وظهرها يواجه الجمهور.

ظهر وجه ناصر المتجهّم والذي تظهر عليه علامات قلة الثقة بالنفس على شاشة عرض معلقة على خشبة مسرح فولكسبون الشهير في برلين، في أداء في وقت سابق من هذا الشهر. بينما لست ثماني ممثلات مستقبليات في صف واحد في مؤخرة المسرح، والأمل يملأهن.

بعدما جلست ناصر، بدأت مديرة اختيار طاقم الممثلين في طرح الأسئلة عليها الأسئلة باللغة العربية وهي لا تزال لا تواجه الجمهور “هل تعتبرين موت إيفيجينيا تضحية أم انتحار؟”

ظهرت ترجمة الحوار إلى الانكليزية والألمانية على شاشات وُضعت إلى جانبي الشاشة الأساسية.

أجابت آلاء “حتى لو اعتبرت فعل إيفيجينيا تضحية، أشعر أنها تضحية أنانية.”

استمرّت المقابلة فيما حاولت تسع نساء سوريات يعشن كلاجئات في ألمانيا تأدية الدور الرئيسي في نسخة حديثة للتراجيديا اليونانية ” إيفيجينا في أوليس ” التي كتبها يوريبيدس في سنة 406 قبل الميلاد.

في النسخة الحديثة لعمل يوريبيدس الكلاسيكي، انطلق الكاتب المسرحي محمد العطار من حبكة يوريبيدس التراجيدية من أجل توثيق التجارب التي عاشتها هذه النساء في الحرب والواجبات العائلية والحب والشغف والتضحية، عبر إنتاج يتألف تقريباً بكامله من إعادة تمثيل لتجارب الأداء للمسرحية. يجمع هذا الإنتاج مختلف الأهداف، فهو تجربة مؤثرة للجمهور وتجربة شافية للممثلات اللواتي اشتركن فيه.

تفصّل مسرحية يوريبيدس الأصلية محنة أجاممنون، قائد تحالف القوات اليونانية خلال حرب طروادة، وهو يتخبط في اتخاذ قرار حول إذا ما سيضحي بابنته إيفيجينيا للإلهة آرتيميس لكي تجلب له جيوشه إلى طروادة، أم لا. فإذا تجاهل طلب آرتيميس بالتضحية، تهدده بافتعال تمرّد في صفوف جنوده.

عندما علمت عائلة أجاممنون بالقرار الصعب، سرعان ما انغمسوا في توقعات الحرب والواجب المدني والولاء الأسري. ولم ترد الشابة إيفيجينيا أن تخذل بلدها أو أبيها، فاستسلمت أخيراً للمصير، معلنة أنها تفضل أن تموت بإرادتها على أن تُقتاد إلى المشنقة.

تأتي المسرحية كتوثيق لحياة النساء الشابات لتفتح  أمام الجمهور نافذة إلى صراعات مجموعة يعتقد الكاتب المسرحي أنه دفع الثمن الأعلى في الحرب الأهلية السورية.

قال في إحدى المقابلات “لقد لعبن دوراً حاسماً في مواجهة العملية السياسية في مطلع الثورة”، مضيفاً إن عدداً كبيراً من النساء السوريات كنّ يعملن على تغيير مجتمعهن قبل الحرب “إننا نتجاهل أحياناً أو ننسى أنهن كنّ أيضاً يقاتلن على جبهات أخرى. كنّ يحاربن السلطات الأبوية وهذه العادات الاجتماعية المتشددة.”

تعيش هبة الله عبدو، 18 عاماً، في برلين اليوم مع أسرتها وتسعى للحصول على شهادة الثانوية العامة.
افتتحت مسرحية إيفيجينيا في أيلول/سبتمبر في موقع مختلف تماماً: عنبر في مطار تمبلهوف المهجور في برلين، والذي استُخدم كأكبر مخيم للاجئين في المدينة في أوج أزمة اللاجئين في العام 2015.

تُعرض إيفيجينيا اليوم في فولكسبون، وهي الجزء الثالث والأخير من ثلاثية المسرحيات اليونانية التي أعاد العطار تخيلها لكي يحكي حالة نساء سوريا النازحات. (اقرأ القصة ذات الصلة: لاجئات سوريات يعيدن إحياء الدراما اليونانية).

سجل العطار بالتعاون مع المخرج السوري عمر أبو سعدة أحداث رحلة السوريات الجغرافية والنفسية في “نساء طروادة” في الأردن في العام 2013، “أنتيجون شاتيلا” في بيروت في العام 2014، والآن “إيفيجينيا” في برلين.

يمثل في المسرحيات الثلاث لاجئات سوريات لم يملك معظمهن أي خبرة في التمثيل.

قال “لم يكن المعيار أن تكون الممثلة بارعة أو أن تملك قصة معينة، بل على العكس. فكّرنا أحياناً إنّنا نودّ أن تكون الممثلات نساء لم يخطر حتى ببالهن قط الوقوف على خشبة المسرح. فكان من المهم أن نرى الحافز المخبأ داخلهن.”

كانت النتيجة تسجيل عميق للأحداث، يكاد يكون صحفياً، للتجارب المختلفة للنساء السوريات اللواتي يعملن اليوم في ألمانيا واللواتي يتصارعن مع صدمات ماضيهن وهن يحاولن بناء حياة من الصفر في مكان جديد لا يعرفن عنه الكثير.

قال العطار “وكأنّها صور مركبة: لقد ابتكرناها سوياً. فجاءت كل قصة من كل مشاركة كوحدة بحدّ ذاتها. ولكن مساهمتنا كمنتجين مسرحيين محترفين هي في كيفية وضع هذه الوحدات الواحدة تلو الأخرى وكيفية جمعها كلها في إطار التراجيديا اليونانية – إنه فعلاً عمل جماعي أنتجناه سوياً.”

تقول آلاء، وهي تجلس في مسرح فولكسبون الفارغ بعدما أنهت وضع مساحيق التجميل، إن قصة إيفيجينيا التي ضحّت بنفسها من أجل عائلتها هي ما جذبها أولاً لتجربة الأداء.

بعدما حازت آلاء، وهي من السلمية، مدينة صغيرة شمالي حمص، على شهادتها في الهندسة المعمارية في دمشق، صمّمت الذهاب إلى برلين. جعلت الحياة الفنية وتنوّع السكان من برلين المدينة الفضلى لبداية جديدة لها بعد سنين من الدراسة في دمشق، فقد كان احتمال عثورها على عمل في سوريا المشرذمة بالحرب شبه معدوم.

ولكن فيما جذبتها أوروبا لأسباب شخصية واقتصادية، كان قرار ترك سوريا منذ سنتين والقيام بالرحلة الطويلة التي تؤدي إلى برلين من أجل عائلتها، كما كان الحال لإيفيجينيا.

قالت بالإنكليزية “تعيش إيفيجينيا في الحرب كما كانت حالنا، وعليها أن تتصرف لكي تجعل عائلتها سعيدة وفي سلام – لو بقيت في سوريا، لرأيتُ أمي تبكي كل يوم وهي تطلب مني ألا أخرج من المنزل، لأنّها خائفة وتخشى على سلامتي. تركت عائلتي وبيتي لأنقذ عائلتي وأمنحهم راحة البال.”

لكن حين وصلت آلاء إلى برلين منذ سنتين، وجدت أنها غير مستعدة للقيام بهذا الانتقال. إذ وجدت نفسها ضائعة في حالتها الجديدة وعزلت نفسها فيما تحطّمت توقعاتها بالحصول على بداية جديدة. فتقوقعت على نفسها ونادراً ما غادرت شقتها.

قالت “كنت ضعيفة جداً. قضيت سنة ونصف السنة في المنزل من دون أي أصدقاء، ومن دون الحديث مع الآخرين.”

في النسخة الحديثة لعمل يوريبيدس الكلاسيكي، انطلق كاتب العمل امن حبكة يوريبيدس التراجيدية لتوثيق التجارب التي عاشتها النساء السوريات في الحرب.
لم يسعفها عدم إتقانها اللغة الألمانية. “أواجه مشكلة مع اللغة ومع نفسي. هناك أمور لا أتقبلها في نفسي، ولكنني لم أكن قادرة حتى على التعبير للآخرين عمّن أكون حقاً.”

ساعد التمثيل في إيفيجينيا وإنشاء العلاقات من خلال التمرينات إلى خروجها من عزلتها وإيجاد صوتها.

قالت عن أيامها الأولى في المسرح “حين جئت إلى هنا، كنت خجولة وكان صوتي خافتاً. ولكن بعد بضع أسابيع، تمكنت من التكلم مع الآخرين. لم يعد لدي أي سبب لأكون ضعيفة بعد الآن حين أتكلّم معك. يمكنني أن أكون قوية على المسرح.”

أفادت إنغريد لوتز، مديرة البحث والتدريب في معهد العلاج بالمسرح في برلين إنّ تجربة آلاء دليل على قدرة المسرح على إعادة ثقة النازحات بأنفسهن بعد فترة طويلة من الصدمة والعزلة.

انطلق العلاج بالمسرح في ألمانيا في 1995 بمساعدة لوتز وغيرها، فتعاونوا في وضع برامج تعليمية والقيام بدراسات تجريبية تظهر فعاليتها كأسلوب علاجي. ويطبّق هذا الأسلوب منذ سنين في الولايات المتحدة والمملكة المتحدة وهولندا كعلاج شاف لضحايا الصدمة.

وقالت لوتز إن المشكلة الأساسية بالنسبة للاجئات اللواتي يشعرن أحياناً بالحاجة لتجاهل صدمتهن من أجل الآخرين، تكمن في إعادة ثقتهن بأنفسهن. وغالباً ما يكون إعادة تمثيل التجارب التي عشنها عبر مسرحيات كلاسيكية وسيلة آمنة وسهلة للتوصل إلى ذلك.

وأضافت “المسرح هو وسيط حيث يمكن لما يتعذر تفسيره أن يظهر. فهناك أمور عديدة لا يمكننا أن نعبر عنها أو أن نشرحها، ولكن يمكننا أن نظهرها بأجسادنا.”

حرص العطار على الإشارة إلى أن هدف إنتاجه الأساسي ليس معالجة الممثلات، إلا أنه يدرك كيف أن طبيعة المشروع نفسه وتسليطه الضوء على كفاحات النساء الشخصية سيكون له من دون أي شك هذا التأثير.

قال “إننا نعطي هذه النساء مساحة للتعامل مع الجوانب النفسية الحسّاسة ومعالجتها.”

تعتلي النساء التسع المسرح ويفصلن تجاربهن كلاجئات في ألمانيا، تجارب حب غير متبادل، عزلة، وفقدان شغفهن بسبب عائلاتهن أو حتى التفكير بالانتحار.

قالت آلاء إنه حتى مع هذا الموضوع الجدي، فإن المغزى الأساسي من هذه المسرحية هو رسالة قوة وسط المحن، “حين تترك عائلتك أو منزلك، تشعر أنك ميت في داخلك. ولكن هناك حياة بعد هذا الموت. أعتقد أن الجميع يتمتع بالقوة ولكن عليه أن ينتظر أن تتسنى له الفرصة ليظهرها. الآن صار بإمكاني أن أظهر قوتي.”

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق