مجلة الفنون المسرحية
الاغتراب وعبثية الحياة في نصوص مسرحية للكاتبة المجرية آغوتا كريستوف
محمد عبد الرحيم ـ القدس العربي
تعد الكاتبة المجرية آغوتا كريستوف (1935 ــ 2011)، من أكثر الأصوات خفوتاً وعمقاً في الأدب الأوروبي، ورغم ترجمة العديد من أعمالها إلى العربية، إلا أنها لم تلق المتابعة الكافية أو الإنصات الكافي لها. ومن تجربة المنفى والحديث، بل والكتابة بلغة أخرى هي الفرنسية، صاغت حكايات وشخوصا قلقة ومضطربة، تعاني اغتراباً حاداً عن كل ما حولها، وتحاول قدر الإمكان، أو تتظاهر بمعنى أدق أنها تتعايش مع هذه الحياة العبثية.
فما بين أطفال يتعلمون الحياة والتظاهر بالدهشة من خلال تعلمهم اللغة، وكيفية إحالاتها إلى الأفكار والمعاني التي يجب تأصيلها والتأقلم معها، إلا أن هذه اللغة مهما كانت فهي مُضللة وزائفة، بقدر ما تبدي من يقين أو وجود. ورغم النصوص الروائية التي تنوعت موضوعاتها، إلا أن الفكرة الأساسية هي نفسها، حيث السلطة والاغتراب، والعبارات المتقطعة القصيرة، والخوف والعزلة كمصير حتمي في النهاية، هذه العزلة التي عاشتها الكاتبة بالفعل، بعد كتابة سيرتها الذاتية المعنونة بـ»الأميّة»، التي منذ نشرها في عام 2004 توقفت عن الكتابة حتى رحيلها عام 2011. ويبدو أن نصوصها المسرحية تأتي أكثر تكثيفاً ودلالة على هذه الأفكار أو رؤيتها للحياة، وقد صدرت مؤخراً ترجمة عربية لبعض هذه النصوص، تحت عنوان «الوحش ونصوص أخرى»، ضمن سلسلة المسرح العالمي، التي يصدرها المجلس الوطني الكويتي للثقافة والفنون والآداب.
الوحش
من خلال كل من نص «الوحش» و«الطريق» تبدو المفارقات العبثية لحياة الشخوص ووجهة نظرهم، ففي «الوحش» ورغم خوف الجميع منه، والبحث عن محاولات الخلاص من هذا العملاق الذي سقط عليهم سهوا، إلا أنه مع الوقت، ونتيجة بعض الأزهار التي نبتت فوق زهرة، فالجميع أدمن هذه الرائحة، وأصبح متعلقا بهذا الوحش ووجوده، المفارقة أنهم في البداية نصبوا له فخاً، لكنهم اعتادوه، وأصبحوا لا يريدون سوى عطره الساحر، ولا يتورعون عن الاقتراب منه، رغم أنه يلتهمهم الواحد تلو الآخر، حتى خلت المدينة إلا من شاب ورجل عجوز.
«الجميع يحبه، ما عداك. لأنك لم تستنشق أبداً عطر أزهاره العجيبة/لقد سمعت عنها. يُشاع أن المرء عندما يستنشق عطر تلك الأزهار ــ تلك الأزهار التي نبتت على ظهره البشع ــ يحس بسعادة غريبة وغبطة خفية/أجل ويختفي الخوف كله، كل المخاوف والأحزان. وحتى الآلام العضوية تختفي. والمسنون ينسون أنهم شاخوا. والمرضى ينسون أنهم مرضى. إنه يُشفي جميع الآلام».
الطريق
أما مسرحية «الطريق» التي ترى العالم الآن من خلال آلات تعمل وإنسان يعيش ضمن منظومتها كتابع وعبد، ما بين البدائية في مسرحية «الوحش» وجوها الأسطوري، تبدو الطريق وكأنها بدائية مستقبلية، الآلة الآن هي الوحش الحقيقي، والتابع الأبله، الذي يظن فيها سعادته وتفوقه، أصبح تائهاً وسط الطرقات الإسفلتية المُمتدة هنا وهناك، ولا يعرف أين يذهب، وما جدوى الذهاب، أو حتى البقاء؟ فالطبيعة التي انتفت من المشهد، نسيّ الإنسان أنه مجرّد جزء منها، وما الحداثة أو التحديث إلا ضياع تام له، وانمحاء لوجوده. «الأرض مكسوة تماماً بالإسفلت. لا مكان هنا سوى للطرقات. الناس الذين ولدوا على الطريق يعيشون عليها. وعلى الأقدام يمشون راجلين، على تلك الطرقات التي شُيّدت للسيارات. بينما السيارات لم تعد تعمل منذ زمن. لم تعد سوى هياكل مهجورة. هياكل يسمونها (ملاجئ) … إلى أين تؤدي الطرقات؟ هل لها نهاية؟ لماذا هناك إشارة إلى الاتجاهات؟ لماذا المشي؟ هل هناك منافذ؟ وهل هي منافذ حقيقية أم مزيفة؟».
كفّارة
وإذا كان كل من النصين السابقين يجعلان من الإنسان يحيا العبث ويُعاني اغتراباً بسبب غير مباشر، إلا أن في نص «كفارة» اغترابه وتشرده الحقيقيين يخلقهما بنفسه، بل ويصل به الأمر لاستعذاب نتائجهما. شخصيتان.. أعمى وأصم، يتسولان، ويتصادقان مُصادفة، وبعدما يتخلص الأعمى من زوجته، وقد أراحه الموت منها، يذهب للعيش مع الأصم في بيت امرأة يضم العديد من ذوي العاهات، يتقاسم كل منهما الفراش ــ السرير الوحيد ــ ويتناوبان النوم، الأعمى ليلاً والأصم نهاراً، وصاحبة المكان تأخذ نقودهما، وتؤمن لهما عدم مضايقة الشرطة. كل منهما راضٍ تماماً بهذا المصير، لتتكشف الحقائق في النهاية، رغم تمثل الظلم الذي حاق بهما طوال الأحداث. فها هو الأصم يحكي حكايته في لحظة أحل فيها السُكر عقدة روحه .. «أنا الذي كنت أفجر تلك القنابل اللعينة في البلاد اللعينة، آخر قنبلة كنت قد انفجرت معها… لكنني لم أمت، مات الآخرون. رأيتهم يتساقطون. رأيت الدماء والوجوه المشوّهة والأجسام التي تمزقت. ومَن لم يمت كان فمه مفتوحاً. كان يصرخ وأنا لا أسمع شيئاً. كنت أرى الناس تجري وتصرخ وتموت، لكنني لا أسمعها. طبلة أذني انفجرت، كان الأمر أشبه بكابوس». لكنه في الحقيقة ليس أبشع من صديقه الأعمى، الذي كان يعمل ضمن أحد أجهزة الأمن في بلاده، ولطالما قام بعمليات التعذيب.. «هناك ما هو أبشع من القتل.. التعذيب. إن ممارسته دنيئة ووحشية. أنا جلاد». إلا أن هذا الجلاد عندما يرى نفسه على الشاشة بعد تصويره، ويرى أفعاله بعينيه، يفر إلى الشاطئ، يقتلع جفونه، ويُعرّض عيناه إلى الشمس، حتى يفقد بصره. هنا لم يعد يتسوّل بعاهته، بل يتسوّل بأفعاله. فيقول لزوجته التي تبرر ما فعلاه ــ وقد شاركته جرائمه ــ «لا طاعة الأوامر ولا خدمة القضية باستطاعتهما تبرير ما يقترفه هؤلاء من جرائم. لا يمكن أن يقوم للنسيان أو العفو مقام … في أعماقنا لا يمكن لوصمة عار هؤلاء أن تُمحى، بموت أو كفّارة».
………….
آغوتا كريستوف (1935 ــ 2011) ولدت في بودابست، وغادرتها حتى استقرت في النمسا، كتبت أعمالها بالفرنسية التي عانت في تعلّمها. كتبت الشعر والمسرح والرواية، من أهم أعمالها الروائية.. «المذكرة، إثبات، الكذبة الثالثة». ودوّنت سيرتها الذاتية تحت عنوان «الأميّة»، نشرتها عام 2004، ثم توقفت عن الكتابة بعدها حتى رحيلها عام 2011. كما حصلت على العديد من الجوائز الأوروبية المرموقة، مثل، جائزة أوروبا الأدبية عن روايتها الأولی «المذكرة» عام 1986، جائزة ألبرتو مورافيا عام 1998، وفازت عام 2001 جائزة غوتفريد كيلر عام 2001، جائزة فريدريش شيللر عام 2005، جائزة الدولة النمساوية للأدب الأوروبي عام 2008، إضافة إلى جائزة كوسوث المجرية عام 2011.
الكتاب: «الوحش ونصوص أخرى» المؤلف: آغوتا كريستوف
ترجمة وتقديم: محمد ماشتي، الناشر: المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب ــ سلسلة المسرح العالمي ــ الكويت، سبتمبر/أيلول 2017.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق