مجلة الفنون المسرحية
«البولشوي».. مسرح يسكنه التاريخ
نسرين درزي (موسكو) - دوت امارات
قد لا يكون مسرح البولشوي المعلم السياحي الأعرق في موسكو اليوم، إلا أنه همزة الوصل الأكثر إثارة بين تاريخ المدينة منذ زمن القياصرة وحاضرها المتشح بهالة سوفيتية تأبى أن تزول. وكما هو النقيض بين جدرانه الرمادية من الخارج وصخب ألوانه الأرستقراطية من الداخل، يشع من مدرجاته ثراء مترف يلغي كل مظاهر التصدعات التي أنهكته عبر السنين. والصرح الثقافي الذي يعد رمزاً وطنياً يجمّل ورقة المئة روبل، أعيد ترميمه بالكامل عام 2011، وتصدح أروقته وممراته بروايات تتجدد مع كل ملحمة أوبرالية، وتتلون مع كل مشهدية باليه تستحضر المعنى الحقيقي للثورة الفنية.
طبقة مخملية
حال الإبهار الذي يشعر به زائر «البولشوي» انتابنا منذ لحظة توجهنا إلى بوابة المسرح العملاقة سيراً على الأقدام من الساحة المجاورة، والتي تجوبها وفود فارهة الأناقة تتباهى بتذاكر الدخول بيدها وكأنها تحمل مفتاح الكنز. رجال ببزات سوداء وربطة عنق الفراشة، ونساء يكسوهن الفرو وقبعات رأس مرصعة تجمعهم طريقة مشي واحدة. رأس مرفوع وجبين شامخ وملامح جادة ترسم صورة واضحة عن طبقة مخملية مغايرة لا يمكن مصادفتها إلا في هذه البقعة من أوروبا الشرقية. طبقة مخضرمة بأمجاد التاريخ وعظمة أبطال وتصفيق مسارح وأضواء شهرة وحبر فلاسفة وأدباء، كلها تتوارث موسكو الثقافة المثقلة بأساطير أقرب إلى الواقع آتية من وحي عصور أرستقراطية رحلت وتعود. وهنا تتراءى أهمية مسرح البولشوي التي لا تقتصر على جمالياته المعمارية؛ إذ شيد عام 1825 ويمتاز بأفخم ستائر وأسقف وثريات ومقاعد، وإنما تطال في المقام الأول روايات دفينة يخبئها بين جدرانه ومن خلفها عروض عالمية يتفرد بتقديمها جاذباً إليه أكثر من 3 آلاف مشاهد في اليوم. حتى أن الفوز بحضور أمسية بولشوية يعني حجز تذكرة قبل أشهر من موعد العرض وغالباً يكون ذلك قبل حجز تذكرة السفر للمهتمين بالفنون الكلاسيكية من أنحاء العالم.
قواعد ضابطة
نصل مع الواصلين إلى حفل توزيع جوائز «برافو» للموسيقا الكلاسيكية بنسخته الأولى لعام 2018، والذي جاء يوم 11 مارس برعاية حكومة أبوظبي، وكان ضيف الشرف فيه عملاق الأوبرا التينور خوسيه كريراس. نصعد السلالم المذهبة ونهبط بمصعد نحاسي، نجتاز ممرات ونتوه مراراً بين أروقة متشابهة يغلب عليها طلاء ملكي وسجاد أحمر على امتداد 180 درجة، ونصل إلى باب مقصورة المشاهدة خاصتنا. تستوقفنا عند الباب موظفة أمن وتمنعنا من الدخول بانتظار انتهاء الوصلة، فللمسرح أنظمة لا بد من مراعاتها. أولها مشي الهوينا وثانيها الحديث همساً وثالثها عدم دخول القاعة أو الخروج منها إلا في الوقت الضائع.
نلنا أخيراً شرف الجلوس عند «بلكون» الطبقة الأولى من مسرح البولشوي المؤلف من أربع طبقات سفلية وعشر علوية، والذي اجتزنا نحوه المسافات وبحجمها انطباعات عن عظمته كتحفة متفردة خرجت يوماً من رحم التاريخ. وفضلاً عن مفردات الإبهار النظري والحسي بكل ما ينبض به المكان من عراقة التصميم وروعة العروض، كان اللافت منظومة الاندماج الكلي بالمشهدية المسرحية التي تتمايل معها عيون الحضور وأوجههم بالاتجاه نفسه كما الموج. هنا تتضح الصورة وتكتمل الأسباب التي جعلت من «البولشوي» يتربع على قمة المسارح الروسية، ويمتاز بتاريخ عريق وحافل إذا ما قورن بجيله من المسارح الأوروبية. وأحدث قصصه ليلة إعادة افتتاحه الباهرة التي شهدت يوم 28 أكتوبر 2011 حفلاً أسطورياً حضره رؤساء دول عظمى وشخصيات سياسية واجتماعية نافذة توزعت عند مدرجاته آتية من بقاع الأرض. كان ذلك بعد 6 سنوات من أعمال التجديد وتكلفة ناهزت 798 مليون دولار أشعلت استياء الشارع الروسي لأشهر طويلة؛ إذ اعتبر وقتها أن المبلغ مبالغ فيه. ومما لا يعرفه كثر أنه فيما كان حدث إعادة إحياء «البولشوي» يبث عبر شبكات التلفزة والمواقع الإلكترونية حول العالم، كانت رائحة الطلاء تفوح من ممراته. وكان العمال من قرغيزستان وأوزبكستان لا يزالون ينزعون الغراء عن درجه.
آلة كمان
رفاهية المشهد وترف الوجوه وجميل اللباس تأخذنا إلى مشاهير جلسوا في مقصورات هذا الصرح العظيم، كان أكثرهم تأثيراً الأميرة ديانا، التي سرقت الأضواء من العرض يوم حضورها، والقائد الثوري الكوبي فيدال كاسترو والرئيس الأميركي الأسبق ريتشارد نيكسون الذي تجوّل في حناياه في أحلك أيام الحرب الباردة.
نغوص أكثر في تفاصيل «البولشوي» الذي يعني بالروسية المسرح الكبير، وقد أمرت بتشييده كاثرين العظيمة عام 1776 إلى أن اتخذ المبنى القائم عليه المسرح حالياً بتصميم غاية في الروعة نفذه عام 1825 المهندس المعماري جوزيف بوفيه. ويعد المبنى منذ ذلك الوقت وحتى الآن مضرب المثل للعمارة الكلاسيكية الروسية، ويضم المسرح رواقاً غاية في الإتقان فيه تمثال أبولو ومركبته وأربع شرفات مصممة بطريقة كلاسيكية باهرة. وبعد حرائق عدة اندلعت فيه آخرها عام 1853، كان ضرورياً عام 1856 تأمين مسرح يتوّج فيه القيصر ألكسندر الثاني فأعيد بناء «البولشوي» على يد المهندس الروسي الإيطالي ألبرتو كافوس الذي صمم المسرح والمنطقة المخصصة للحضور على شكل آلة كمان ضخمة.
و«البولشوي» بعظمته كان الموقع الأحب إلى قلب الأرستقراطيين للتجمع فيه قبل تحويله إلى مقر اجتماعات الحزب الشيوعي. وبحسب حكايات يرويها مطلعون على أمور «البولشوي» ألا أحد في موسكو كان يرغب في ترميم هذا الصرح وتعريته من جراح ألمت به على مر السنين. فقد عانى قبل الترميم أضراراً بالغة، إلا أن أثاثه نجا بمعظمه.
عشق ستالين
حقائق مثيرة تعيش داخل «البولشوي» أحد أهم رموز الثقافة والفن في مدينة موسكو وثاني أكبر مسارح أوروبا. ومن الأسرار التي كشفت من خلاله لاحقاً عشق ستالين للأوبرا الروسية، حيث كان يدخل إلى المسرح عبر ممر سري تحت الأرض ليجلس في مقصورته إلى يمين المسرح. وليس ببعيد عن ذلك المشهد تحول «البولشوي» إلى مسرح القوة الشيوعية العظمى الرسمي، حيث احتلت المطرقة والمنجل مكانة بارزة على ستارته الحمراء في مدينة لم تنسَ ماضيها. ومع أعمال الترميم الأخيرة أسدلت ستارة جديدة تحمل شعار النسرين رمز روسيا الفدرالية. وفي «البولشوي» تقام عروض أعظم مسرحيات الأوبرا والباليه وأشهرها على الإطلاق. وتتواجد أقدم فرقة باليه في العالم تتكون من 200 عضو تختصر حلم كل راقص وراقصة باليه على طريق الشهرة. وجديد «البولشوي» بتاريخه العريق السير باتجاه العصرية عبر إنتاج وبث عروض مباشرة إلى 1200 صالة عرض سينما في العالم ليتم نقل حفلاته إلى ملايين المشاهدين. وقرار الانفتاح على العالم نجاح مذهل لـ«البولشوي»، الذي تبعه في ذلك عدد من مسارح أوبرا لندن وباريس.
معالم في الجوار
تقع على مقربة من مسرح البولشوي مجموعة من المعالم الجاذبة منها: تمثال كارلوس ماركس، متحف الدولة التاريخي، برج نيكولسكايا، مقبرة الجندي المجهول، ساحة ماليزنايا، قلعة الكرملين، مجلس الشيوخ الروسي، متحف الفنون التطبيقية، الميدان الأحمر، وفيه ضريح لينين، منصة لوبنوي ميستو ومسرح مالي، الذي يعتبر منافساً قوياً لـ «البولشوي».
5 نجوم
تحوط بـ «البولشوي» التاريخي فنادق الـ 5 نجوم، مثل ريتز كارلتون وفوررسيزون، وبارك حياة وسواها من المنشآت السياحية التي تمكن من الوصل إلى المسرح سيراً على الأقدام وفي أقل من 5 دقائق. غالباً يقيم فيها كبار النجوم والشخصيات البارزة التي تدعى لحضور العروض المسرحية أو المشاركة فيها.
تذاكر
تتراوح أسعار تذاكر حجز عروض «البولشوي» بين 70 دولاراً و500 دولار، بحسب أهمية الحدث والفرق المشاركة، وعدد العروض في الجلسة الواحدة.
وكانت بيعت بعض تذاكر حفل إعادة افتتاح المسرح عام 2011 بمبالغ طائلة وصلت إلى 10 آلاف دولار للتذكرة الواحدة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق