مسرح الصورة.. صلاح القصب والتجربة العراقية الطليعية
عواد علي - الجديد
اتسمت تجربة “الأقنعة” بخصائص كثيرة من مسرح الصورة، فمشاهدها تتوزّع على عشرة أمكنة تشكّل جغرافية البيت، وتطغى على هذه المشاهد بنية صورية غرائبية لا يرتبط بعضها ببعض بحبكة درامية تقليدية، بل بنسق من العلاقات السيميائية والطقسية الشديدة الإيحاء، وتحمل وعياً متقدّماً، ورؤيةً إنسانيةً تستغور قضايا العصر الكبرى، وتستشرف الكوارث والمحن التي لحقت بالعراق خلال العقود الأربعة الماضية، إضافةً إلى أن بناءها الدرامي ذو منحى طليعي حديث يفلت عن التنميط لتداخل مستويات عديدة من الأشكال الفانتازية والسريالية والعبثية والرمزية في نسيجها الفني، وأن أجواءها تبدو خليطاً من الجدّ والسخرية والهجاء والمأساة بحيث تجعله أقرب إلى الكوميديا السوداء. لقد حمل نص “الأقنعة” في وقته ثلاث علامات أساسية تنبئ بميلاد مبدع مسرحي ذي موهبة حقيقية، أولها حسه التجريبي المسكون بهاجس التجديد والبحث والمغايرة، وثانيها ريادته في ممارسة شكل مسرحي ذي منحى صوري في المسرح العراقي، من دون أن يطلع على تجارب مسرح الصورة، أو منطلقاته النظرية في الغرب، كما هي الحال مع صلاح القصب، وثالثها تنبؤه بكوارث الحروب والدمار والقمع والجوع التي حلّت ببلده العراق، مستقرئاً واقعه السياسي على نحو صحيح.
مسرح الصورة
بدأت تجربة القصب في مسرح الصورة بالعراق، كما أشرتُ، بعرض “هاملت”، الذي قدّمه في كلية الفنون الجميلة ببغداد عام 1980. وكان قد اطلع على هذا الشكل المسرحي خلال دراسته العليا في رومانيا، وحين عاد إلى بغداد بدا متحمساً لتطبيقه، والتنظير له، فكتب بحثاً بعنوان “مسرح الصورة بين النظرية والتطبيق”، وهو البحث الذي وسّعه، في ما بعد، وصدر في كتاب بالعنوان نفسه عام 2003 عن المجلس الأعلى للثقافة والفنون في قطر.
تقوم بنية الخطاب المسرحي في مسرح الصورة، كما فصّلها القصب في ذلك البحث، على شبكة من التكوينات الجسدية، والأشكال الحركية والإيمائية والسينوغرافية المركبة، الغامضة، المصمّمة وفق علاقات إيحائية متغيرة، وتصاحبها إيقاعات صوتية بشرية مختلفة، كالتمتمات والصرخات والتأوهات والهمهمات.
وقد تستغني هذه البنية عن الحوار استغناءً تاماً، أو تكتفي بالقليل الجوهري منه لإعلاء الجانب البصري في العرض. أما خصوصية هذا الخطاب فإنها تتمظهر في:
1- إضفاء الجو الطقسي على العرض.
2- التوكيد على أنماط السلوك والأفعال التي يفرزها اللاشعور عند الشخصية.
3- عدم ترابط الأفعال، وتقاطع حلقاتها باستخدام أسلوب الهدم والبناء المتكرر للفعل، أو الحافز الواحد، بحيث لا تنمو الأفعال نموّاً طبيعياً، كما هي الحال في ما يسمى بـ”المسرح الواقعي”.
4- اختزال المشاعر وتقديمها في شمولية مركزة.
5- تحفيز طاقة المتلقّي على التخيّل والتأويل.
6- الصورة تبدأ من شكل فوضوي وقلق وملتبس لتنتهي إلى شكل منتظم ومستقر قابل للفهم والاستنطاق.
7- الصورة تنزع إلى أن تكون حلماً متدفقاً يثير الدهشة بغرائبيته، وكشفه عن المسكوت عنه، والمطمور في داخل الإنسان.
8- الزمن في العرض ينبني على فرضية الذاكرة، ويزاوج بين مفهومي الزمن التاريخي والزمن الأسطوري.
9- سيناريو النص لا يعدُو عن كونه نقطة انطلاق لصياغة عرض تشكّله مخيّلة المخرج والممثلين والتقنيين، وتجليات الارتجال المنظم.
10- الشخصيات غالباً ما تكون مفتّتة، شعورياً ووجودياً، وعلامات قابلة للتكرار، والموت والانبعاث.
11- يعتمد أداء الممثل على التفاعل الوثيق بين الفعل الداخلي (السيكولوجي)، والفعل العضلي الخارجي.
12- العرض يستبدل شاعرية الحوار اللغوي (الملفوظ) بشاعرية الفضاء التي تجمع بين لغة الإشارات والتشكيلات والألوان.
ولا يخفي القصب في بحثه، ومحاضراته، والحوارات الصحافية التي تُجرى معه، أنه أخذ هذه الأسس عن أستاذيه الرومانيين، المخرجة ساندا مانو والمخرج ليفيو جوليه، المتأثرين إلى أبعد الحدود، طبعاً، بمنظور آرتو للمسرح، وتجاربه، وأفكاره التي وضعها في كتابه “المسرح وقرينه”.
لكنّ مسرح الصورة عُرف في الولايات المتحدة في سياق المسرح ما بعد الدرامي، وللناقدة المسرحية الأميركية بوني مارانكا كتاب عنوانه “مسرح الصور” نُشر عام 1977، تقدّم فيه قراءات في بعض العروض المسرحية، مثل “إرضاء الجماهير” للمخرج ريتشارد فورمان، “رسالة إلى الملكة فيكتوريا” للمخرج روبرت ويلسون، و”صورة الحصان الأحمر المتحركة” للمخرج لي بريور؛ مؤكدةً أن العرض المسرحي لا بد أن يكون تمريناً في الإحساس البصري. ولروبرت ويلسون أيضاً كتاب يحمل العنوان نفسه صدر عام 1984.
تجارب القصب
قدّم القصب خلال عشرين عاماً اثني عشر عرضاً مسرحياً، في سياق مسرح الصورة، هي (هاملت، الخليقة البابلية، طائر البحر، الملك لير، أحزان مهرج السيرك، الحلم الضوئي، العاصفة، عزلة في الكرستال، الشقيقات الثلاث، الخال فانيا، حفلة الماس، وماكبث). وأنتخبتُ سبعةً من هذه العروض فقط لأنها تكفي، من وجهة نظري، لاستقراء أبرز عناصر الرؤية المسرحية الصورية في تجربة المخرج، وأبدأها بالعرض الأول “هاملت”.
هاملت
شكّل هذا العرض صدمةً للوسط المسرحي في العراق إبان عرضه قبل ما يزيد على ثلاثة عقود، لا بسبب طابعه التجريبي، فقد اعتاد ذلك الوسط على الرؤى الإخراجية التي تشتغل على تحديث النصوص الكلاسيكية، أو تقوم بتغييرات شكلية على فضاءاتها، وأجوائها، وطبائع شخصياتها، أو تختزل مشاهدها وحواراتها، وتحذف منها ما يتعارض وروح العصر، بل لانتهاكه النص الشكسبيري، وغرائبيته، وافتراضاته وصوره العجيبة، وتأويلاته السيكولوجية، وأجوائه الطقسية البدائية؛ فقد افترض المخرج عدم وجود جريمة حقيقية تقضّ مضجع هاملت، وهي جريمة قتل أبيه الملك، وإنما هي وهم محض صاغه مخياله المريض، كونه مصابا بـالانفصام (الشيزوفرينيا)، في الوقت ذاته الذي تعاني فيه مملكته من روح شريرة مدمرة. وعلى هذا الأساس جعل القصب هاملت يتحرّك في خطين: يسير الأول تحت سيطرة الروح الشريرة، ويسير الثاني بمعزل عنها، وهو يمثّل الأفق العقلاني في سلوكه ورؤيته، فحينما يكون تحت تأثير الروح الشريرة يظهر متلبساً شخصية أفريقي بدائي (مثّلها ممثل أسود البشرة)، وتبدو له شخصية أوفيليا بوجه أفريقي بدائي (مثلتها ممثلة سوداء أيضاً)، ترتدي زياً تمتزج فيه ألوان زيّ كل من أوفيليا والملكة الأم الحقيقيتين، وحينما يكون هاملت خارج تأثير تلك الروح يظهر في شكله الاعتيادي (مثّله ممثل أبيض)، ويرى في أوفيليا الحقيقية (مثّلتها ممثلة بيضاء ذات وجه طفولي) روح البراءة، ومثالاً للوضوح والحب والمستقبل. ولكي يعمّق القصب الجانب المريض في مخيّلة هاملت، وروحه القلقة، وانفصامه العقلي فقد وظّف في فضاء العرض أشكالاً ورسوماً وأشياء مختلفة مستوحاة من الفنون البدائية، كالأسماك الحجرية والأواني الفخارية والحيوانات الخرافية، وعمد إلى شطر الشخصيات، واستخدم في بعض المشاهد المؤثرات الضوئية الخاصة، كالأشعة فوق البنفسجية، لخلق أجواء طقسية، وصور ذات ملامح سحرية، تدعمها أبخرة ودخان وروائح منتشرة في فضاء العرض. وفي محاولة منه للإيحاء إلى المتلقين بأن أحداث المسرحية وشخصياتها هي أحداث وشخصيات شمولية (كونية) توجد في أي عصر وبيئة، لا في العصر الذي حدّده شكسبير في الدنمارك، فقد جرّدها من ملامحها البيئية، وإطارها التاريخي. ولكن ينبغي التوكيد على أن رؤية القصب لهاملت وأفيليا بوصف كل منهما شخصيتين متناقضتين، تفصح عن موقف كولونيالي يشبه مواقف آرتو وبروك وغروتوفسكي وشيشنر في تعاملهم مع التراث الملحمي والطقسي لشعوب الشرق تعاملاً جرّده من سياقه المعرفي والروحي، ووصمه بـ”البدائية”، أو نتاجاً للآخر “الشرقي” المختلف والساذج وغير العقلاني؛ فشخصية هاملت البيضاء هنا تتصف بالعقلانية، والوضوح، والتحرر من سطوة الميتافيزيقيا، في حين أن شخصيته السوداء، وهي تمثّل الآخر المختلف، تتصف بالبدائية واللاعقلانية والاستسلام لسطوة الروح الشريرة). وكثيراً ماعبّرت الكتابات الاستشراقية عن مواقف شبيهة تمثّل المركزية الغربية في رؤيتها للآخر.
الخليقة البابلية
في تجربته الثانية ابتعد القصب كلياً عن النص الدرامي التقليدي، كنقطة انطلاق، أو عجينة يصنع بها ما يشاء لتمرير رؤيته الإخراجية على وفق منهجه المسرحي، واختار نصّاً محليّاً صوريّاً بحتاً بعنوان “الخليقة البابلية”، أعدّه تلميذه ثامر عبدالكريم عن أساطير العراق القديم، لثلاثة دوافع: الأول للرد على من اتهمه بأنه استنسخ عرض “هاملت” من تجربة شاهدها في أوروبا، والثاني لصياغة عرض ذي بنية صورية بشكل مطلق، والثالث لمسرحَة جانب من الموروث الغني في حضارته العراقية العريقة.
يقوم عرض “الخليقة” على سبعة ألواح تصوّر نشوء الكون البابلي بدءاً بالسكون، حيث الكون عبارة عن كتلة هلامية (هيولى/ عماء) تسبح في الفضاء، يليه التشكيل، ثم الصراع بين عناصر الفوضى/ الشر المتمثلة بـ”تيامت”، إلهة المياه المالحة (الإلهة الأمّ للعالم الأول) من جهة، وقوى التنظيم/ الخير المتمثلة بـ”مردوخ” ربّ الأرباب (لاحظوا هنا النزعة الذكورية في الأسطورة) من جهة أخرى، وصولاً إلى انتصار العناصر الثانية على عناصر الأولى، ومن ثمّ خلق الإنسان، وبناء مدينة بابل المعروفة. وقد استخدم المخرج مادتين أساسيتين في سينوغرافيا العرض هما: أقمشة شفافة، وستارة زرقاء كبيرة شكلت علامةً ذات مدلولات مختلفة، منها إضفاء ضبابية على المشاهد الأولى لتجسيد صورة العماء، وأخرى البحر والسماء.
طائر البحر
مع “طائر البحر” لتشيخوف عاد القصب، من جديد، إلى النص العالمي، وتكرار فكرة انشطار الشخصية، فأخرج النص بأسلوب فانتازي/ صوري، مختزلاً الكثير من حواراته، ومفترضاً، أيضاً، أن تربليوف وأركادينا مصابان بالشيزوفرينيا، وغرس الفعل الدرامي في إطار سينوغرافي ذي طابع ذهني؛ مجرّداً إياه من ملامحه الواقعية التي حدّدها تشيخوف، فالبحيرة التي أوحى بوجودها في وسط المسرح وضع فيها أشياء لا ترتبط بعلاقات كنائية، بل اعتباطية، أو رمزية، مثل: لوحة الموناليزا، وآلة كمان، وحقيبة سفر،… إلخ. ويثير تجاورها في ذلك الفضاء، بل وجودها أصلاً هناك، استغراباً وتساؤلاً لا إجابة له إلاّ في السريالية، حيث يجوز للمتناقضات الحسية والذهنية أن تتجاور، وتتأنسن وتتحاور وتختلط اختلاط الليل بالنهار، كما يقول إيلوار. كما افترض أن تربليوف يموت بسبب فيضان هذه البحيرة، وليس انتحاراً بطلقة مسدس كما يحدث في النص الأصلي. ومرةً أخرى وظّف القصب في هذا العرض ستارةً بيضاء شفافةً، أسهمت الإضاءة والمؤثرات الصوتية، في جعلها توحي بماء البحيرة، وجرّد الشخصيات من انتمائها البيئي وملامحها المحلية من خلال الأقنعة والأزياء التي ارتدتها، والمكياج الذي مسخ وجوهها، للإيحاء بكونيتها.
الملك لير
أعقب القصب “طائر البحر” بـ”الملك لير” لشكسبير، مرةً أخرى، وجاء عرضه في مهرجان بغداد المسرحي الأول عام 1985 فرصةً ثمينةً بالنسبة له، فمن خلاله أتيح للمسرحيين والنقاد العرب أن يشاهدوا، أول مرة، عرضاً لمسرح الصورة في سياق منهجه الذي يتبنّاه ويطبّقه القصب في العراق. وكعادته فقد عمل مبضعه في النص، وحذف منه ما رآه غير جوهري، وغيّر الثيمة الأساسية التي يقوم عليها مفترضاً أن الأزمة التي أوقع الملك لير نفسه فيها ليست ناتجةً عن الخطأ الذي ارتكبه بتوزيع مملكته على بناته الثلاث، بل عن الخطأ الكوني الموجود، أصلاً، في بنية العلاقات الإنسانية. وقد عمد القصب في صياغته الإخراجية إلى إذابة الأصوات المحيطة بالملك كلها (بناته الثلاث، وصهريه…)، وحوّلها إلى ما يُشبه الأصداء التي تحيط بالصوت، أو إلى بقايا شخصيات تدور حول الشخصية الرئيسة، ولذلك بدا نصه الإخراجي وكأنه نص مونودرامي. كما اختزل الحوار إلى ما يُشبه الصمت أحياناً، وتصدرت البنية المشهدية الصورية تصدراً طاغياً، وباتت هي العمود الفقري للعرض. واشتغل القصب على الكوريغرافيا، فأصبحت أجساد الممثلين هي الأداة الرئيسة للتعبير بدلاً من الحوار، وقد شكّلها على المسرح تشكيلاً سينوغرافياً بنوع من الدينامية البلاستيكية. وكرّر استخدام القماشة البيضاء كعلامة تشير إلى الكفن/ الموت الذي يلفّ التراجيديا وشخوصها، كما استخدم في بناء السينوغرافيا أقفاصاً حديديةً، وتابوتاً يتصدّر الشكل، ووضع في يد البهلول بوقاً صامتاً (وهو علامة رمزية لانهيار المملكة)، إضافةً إلى العجلات التي يتنقل الشخوص بها (وهي أيضاً علامة رمزية تدل، إيحائياً، على عجزهم). وأسند دور الملك لير لممثلَين يوجد بينهما تباين صارخ في العمر والهيأة والصوت، أحدهما سامي عبدالحميد، الذي يقترب إلى الستين، ويتميز بامتلاء الجسد والطول النسبي ورخامة الصوت، والثاني كريم رشيد، دون الخامسة والعشرين، المعروف بقصر قامته الملفت ونعومة صوته.
أحزان مهرج السيرك
في عرض “أحزان مهرج السيرك”، الذي أعدّه عن سيناريو سينمائي قصير للكاتب والشاعر الروماني ميهاي زامفير، خطا القصب خطوةً أكثر إيغالاً في تجريد الصورة المسرحية من ملامحها الأيقونية، فقدّم تجربةً ذات أجواء غريبة تتداخل فيها مستويات عديدة من أشكال التعبير البصري السريالي والفانتازي والرمزي، في نسيج شديد الكثافة، تفتقر فيه اللقطات والمشاهد إلى الحد الأدنى من المعقولية، فلا وجود لأي حبكة، ولا استمرارية للفعل، ولا زمان وفضاء تاريخيين، بل ذاتيان ونفسيان، حيث تبدو معظم المرئيات والكائنات في فضاءات سحرية وحلمية، وهي تقطع من سياقها الطبيعي وتوضع في مواقع اعتباطية مدهشة، وتنتقل بحركات سائلة كما لو كانت كائنات أسطوريةً توحي بإحساس باطني بالقلق. تشبه الدلالة الأساسية للعرض تلك الدلالة التي يخرج بها قارئ رواية “الشيخ والبحر” لهمنغواي، ومفادها “أن الإنسان قد يُهزم، لكنه لا يقهر”، فالمهرّج، وهو بطل العرض، الذي جعل منه القصب فناناً موسيقياً موهوباً، لا مهرّجاً مضحكاً، يعيش في وسط اجتماعي غير إنساني، يحاصره باستمرار، ويعمل على مسخ موهبته بشتى أساليب العنف والاضطهاد، الأمر الذي يبعث في نفسه إحساساً دائمياً وعميقاً بالرعب يدفعه إلى الاستسلام للأحلام والكوابيس والتداعيات الحرة الغريبة، التي تتبدى فيها صور مفزعة وغامضة للمعاناة، وتتمظهر القوى التي تستلبه في شكل كائنات وحشية تلتهم الحياة وتقتل الحب وتسحق البراءة وتشوّه الجمال من خلال طقوس شديدة الإثارة يحكمها السحر واللامنطق. لكن على الرغم من ذلك كله لا يفقد المهرّج روح المقاومة إلاّ في حالات خاصة يكون فيها خصومه في أشدّ فورانهم الوحشي، فيضطر إلى الاستجابة لرغباتهم، ويشرع في التوقيع على صوره، وتوزيعها على المعجبين، متحملاً تحول صورته إلى كائن ضئيل في نظر زوجته. وفي الأخير يعيده المخرج إلى حلبة الصراع، ويخرجه منها وهو مصرّ على الاستمرار في إبداعه، ونمط الحياة التي يريد أن يحياها؛ وهذا ما توحي به اللوحة الختامية في العرض، حيث يظهر جالساً على الأرض رفقة زوجته، وبيده كتاب يقرأ فيه، في جوّ تأملي ساكن، وكأن ما حدث له اختبار لصلابته وعزيمته ليس إلاّ. وعلى النقيض من رؤيته الكونوليالية في عرض “هاملت” اتسمت رؤيته في هذا العرض بإنسانيتها العميقة، وقد أسند دور المهرّج (المتحضر/ المبدع/ الشفاف) للممثل الأسود نفسه الذي مثّل دور هاملت “البدائي”.
الحلم الضوئي
شارك القصب في إخراج مسرحية “الحلم الضوئي” المخرج شفيق المهدي، ويمكن إدراج هذا العرض، وهو في الأصل سيناريو من بضع صفحات كتبه المخرجان، في سياق ما يسمى بالـ”Meta- theatre”، أو “المسرح الانعكاسي” الذي يعرف بأنه تشكيل مسرحي يحيل المتلقي على نسق اللعبة المسرحية، وينبّهه إلى آلياتها بدلاً من أن يخفيها خلف قناع وهمي.
ينهض هذا العرض، أساساً، على شيفرات لا شعورية تتضمن تصوّرات ذهنيّةً ونفسيّةً تفتقد إلى المنطق، وتسودها الاعتباطية التي تبيح كل شيء خارق للعادة أو الاحتمال، وتهيمن عليه العلامات البصرية (المكانية) تبعاً لمعيار الالتقاط من جانب المتلقي، والعلامات الاصطناعية، تبعاً لمعيار المنشأ العلامي. وقد توصلت إلى تحديد ثلاث مجموعات من هذه العلامات:
1- علامات انعكاسية، وتضم: المؤدّي بوصفه ممثلاً، المؤدّي بوصفه منتجاً للعرض، المؤدي بوصفه متلقيّاً.
2- علامات رمزية تتألف من: شبكة التكوينات، العلاقات بين المؤدّين، السينوغرافيا بما فيها من ملحقات وإضاءة وأزياء.
3- علامات إشارية (أمارية): وتتمثّل ببعض الحركات والإيماءات.
إن عرض “الحلم الضوئي” عرض تجريبي صوري بشكل مطلق، يستغني عن النص، حتى كنقطة انطلاق، ويقوم على لغة الجسد، ويتسم بعدم ترابط أفعاله المسرحية، وتقاطعها من خلال صيغة البناء والهدم المتكرر للفعل، والتحوّل المستمر للشخصية، وعدم استقرارها على مواقف أو حالات محددة، أو واضحة. أما الفضاء الذي يجري فيه العرض فهو فضاء مفتوح (يشكّل اقتراحاً سيميائياً يُقّدم للمتلقي لكي يملأه بمخياله)، وتتألف العناصر الملقاة فيه من مجموعة أشياء ومرئيات غير متجانسة، تنتمي إلى أنساق متعارضة، بحيث يمكن تغيير تتابعها على وفق كيفيات مختلفة، من دون أن يحدث أي خلل في العلاقات الأفقية في ما بينها. وأخيراً، وبسبب تعليق العرض للمعنى، أو إرجائه (بالمعنى الذي اجترحه دريدا)، فإنه يصعب الإمساك بأي ثيمة، أو مدلول مركزي له، فدواله، في الأغلب، حرة عائمة يمكن أن يستحضر لها المتلقّي ما لا يحصى من الصور الذهنية من خلال فعاليته القرائية الاستعارية.
ماكبث
كما بدأت تجربة القصب مع تراجيديا “هاملت” لشكسبير، فقد انتهت، حتى الآن، مع تراجيديا “ماكبث” للكاتب نفسه، في عرضه الأخير الذي قدّمه عام 1998، قبل أن ترغمه تراجيديا بلده على الرحيل، والعمل في قطر. ولأنني غادرت العراق قبل تقديم هذا العرض، فإنني لم أحظ بمشاهدته للأسف، بل وصلتني أصداؤه عبر الصحافة والأصدقاء، ولذا أستعين هنا بتحليل باحث أكاديمي له، هو فراس جميل جاسم، الذي خصّص رسالته للصورة ودلالاتها في تجارب القصب. يقول صاحب التحليل إن المخرج بدا في عرض مسرحية “ماكبث” يشتغل على مفهوم جديد في بناء الصورة المسرحية وتشكيلها؛ واعتمد على فلسفة المكان المفتوح أولاً، واستخدم مجموعةً من الفنون المجاورة في معالجته الإخراجية للنص الشكسبيري المبنيّ على تجليات الجريمة، وعمق مأساة التضخم الإنساني المتولد نتيجةً لتصارع الطموحات غير المشروعة. ويضيف أنه وجد ثيمة هذه المسرحية تشتغل على فعل القتل، الذي أصبح تاريخاً لأسكتلندا، وتتقلص أحداثه إلى صورة واحدة وتقسيم واحد، القتلة والقتلى. ومن فعل القتل ينطلق صلاح القصب في رؤيته الإخراجية، ويعوّل عليه بمعالجاته للفضاء، وحركة الشخصيات والأدوات المسرحية، وفي رسم أجوائه عبر الصورة التي هيمنت على مجمل العرض المسرحي، وأن الصورة/ الحركة، التي وضعت لتعميق المأساة، كانت معدّةً سلفاً في سيناريو مصغر، يهدف إلى نقل مأساة شكسبير إلى واقع مغاير تتمازج فيه الفنون: الرسم، النحت، السينما، والمسرح، اعتماداً على آلية القصّ واللصق، وعلى مستويات الحوار، الذي تجسد فيه صوتا ماكبث والليدي مكبث الداخليين. وثمة محور آخر فرض نفسه على العرض تمثّل في تلك العزلة التي فرضتها الشخصيات على نفسها لإخفاء نواياها ومفاجآتها. ويشير صاحب التحليل إلى أن العرض قدم في ساحة كلية الفنون والكراج المجاور لها بمستوييه (الساحة شبه الدائرية) و(الخلفية المستطيلة – الطبيعية) توكيداً لفلسفة المكان المفتوح التي يستند إليها القصب. ويمضي الباحث قائلاً إن القصب ركّز فعل القراءة الجمالي على مفردة الصورة/ الحركة من خلال دمج أكبر قدر ممكن من التقنيات والخامات والفنون الأخرى بالتعاضد مع المستوى الدلالي للفضاء المسرحي بمستوياته المتعددة (السكلة، السيارة، الأرضية، الأشجار) ومع الجسد الإنساني. كما وظف تقنية السينما؛ مستفيداً من مفردات الصورة المتحركة فيها، وأبعادها المعروفة (لقطة قريبة، لقطة بعيدة، لقطة مزدوجة، لقطة عامة). وركّز في تلخيصه لنص شكسبير على الحوار المنفرد لكل من “ماكبث” وزوجته؛ مستبطناً دوافعهما الوحشيّة التي أنتجت القتل.
لقد كانت هذه العروض التي صاغها القصب، ووقفت على بعض ملامحها، إضافةً إلى تلك التي ذكرت عناوينها فقط، مغامرةً فنيةً خلخلت الذائقة الجمالية، والثوابت المعرفية، وأعراف التلقّي المألوفة في المسرح العراقي، واستفزت الأذهان الراكدة لعشرات المسرحيين والمثقفين، وصدمت آفاق توقعاتهم بجسارتها وتطاولها على المواضعات المسرحية والقيم الدرامية التقليدية، وتقاطعها مع واقع اجتماعي محاط بالأسلاك الأيديولوجية، ومعبّأ للحرب والقتال، ولذلك كان من الطبيعي أن يُنعت، خاصةً في السنوات الأولى من تجربته، بشتى النعوت، أقلها أنه شكلاني، مارق، غامض، غير عقلاني، جامد العواطف، ومُهلوِس.
إشعاع الصورة
يجدر أن أشير في الختام إلى أنّ تجربة القصب المتفردة في مسرح الصورة، بغضّ النظر عن تباين النقاد في استقبالها، وثرائها الإبداعي ونقاط ضعفها، قد تركت أثراً كبيراً على جيل من المخرجين الموهوبين في العراق، وبعض الدول العربية، وحفّزته وحرّضته على إنتاج خطاب مسرحي بصري يقوم على بنى مشهدية، في التشكيل الحركي، والأداء الجسدي، والسينوغرافيا، بيد أن هذا الجيل، كما أرى، لا ينسخ تلك التجربة، بل يعتمد على القراءة التأويلية الخلاقة للنصوص، وإبراز المسكوت عنه فيها، ومحاولة إيجاد علاقات سيميائية/ إيحائية، بعضها جريء، وبعضها حذر جداً، بين نصوص العروض المنتجة عن تلك القراءة والواقع السياسي والاجتماعي.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق