مجلة الفنون المسرحية
محمد سيف - باريس
يغرقنا هنريك ابسن في هذه المسرحية، منذ الوهلة الأولى، في عالم عائلتين يربطهما ماض قديم مضطرب، حيث لا شيء بسيط كما يبدو. إن هذه الدراما الأبسنية الصعبة جدا، قد وجدت لها صدى معاصرا في إخراج ستيفان براونشفايغ، على الرغم من توجه السينوغرافيا والاعداد نحو النغمات النفسية.
اقترح المخرج براونشفايغ لهذا النص المسرحي رؤية فرويدية، كانت واضحة منذ البداية، وذلك عندما قرر أن لا يستحضر شخصية الأب "هاكون فرنيه" على خشية المسرح، وعندما اختصر وجوده، بصورة عملاقة من خلال شريط الفيديو، وهي تخاطب ‘جرجيرز′ الابن الجالس على الخشبة، بحيث بدا هذا الأخير، صغيرا جدا أمام قامة أبيه الساحقة. انطلاقا من صورة الأب العملاقة بإمكاننا قراءة أحداث المسرحية كلها. الأب على رأس شركة غابات كبيرة في النرويج، وقد اشتبه به فيما مضى، بعملية اختلاس استطاع أن يفلت منها بقدرة قادر، على عكس العجوز " اكدال"، الذي يعيش مع أبنه "هيلمر" وزوجته "جينا" وابنتهما "هدفيج". تربط " اكدال" العجوز علاقة غريبة مع صاحب عمله السابق ‘هاكون فرنيه’، الذي استمر بدفع بعض الاموال القليلة له. فهل يشعر هذا الاخير بدين قديم اتجاه "اكدال" العجوز ؟!. إن هذا السؤال يصبح مدعاة للقلق أكثر، عندما يكتشف المقربون منه ، بأن الأب "هاكون فرنيه"، يلتزم أيضا بدفع منحة سخية إلى "هدفيج" حفيدة العجوز "اكدال" مدى الحياة. هذا بالإضافة، إلى مساعدته " لهيلمر" في بناء استديو التصوير الذي تساعده فيه زوجته "جينا"، في عمل الرتوش.
إن الخطوط الرئيسية للدوافع النفسية، ستكشف لنا بشكل تدريجي،خاصة عندما نعلم، أن الدعم المالي، في بعض الأحيان، هو تسديد لبعض الأخطاء الفاحشة التي نرتكبها في الماضي، لاسيما أن المشاعر تكلف المرء الكثير، وان بعض الحب يترك وراءه، في الكثير من الاحيان، بعض الديون والالتزامات، وان الشخص المانح غالبا ما يحاول شراء بعض الذنوب. خلف جميع هذه الترتيبات، تأخذ شخصية "هدفيج" المراهقة، مكانة درامية كبيرة، لأنه، وبكل بساطة، هناك شك، في هوية والدها الأصلي. ولكن، حتى لو كانت جميع هذه المميزات واضحة، فهي ليست كافية اليوم لطرح تحد للحياة المسرحية على المدى الطويل.
ولد الكاتب النرويجي ابسن في عام 1818 وتوفي في عام 1900، وقد طرح في هذه المسرحية ثلاث رؤى: رؤية مثالية تجسدت في شخصية ابنه "جريجرز"، الذي يريد ان يكشف الغطاء عن الحقيقة الكاملة، حتى لو اضطره ذلك الى تقديم تضحيات على خلفية دينية، حيث يواجه هذا الأخير، صاحبه "هيلمر" بالحقيقة المرة، التي تقول بأن أباه "هاكون فرينه" كان على علاقة سابقة مع امرأته "جينا" عندما كانت تشتغل عنده، وهذا هو السبب من وراء مساعدته له في بناء استديو التصوير؛ ورؤية واقعية تتمثل في "هيلمر" الزوج الذي يريد أن يحمي اسرته وحياته الزوجية، ولكن بافتضاح أمر العلاقة، يكتشف، بأن "هدفيج"، ليست ابنته وإنما هي ابنة "هاكون فرينه"، وذلك من خلال خطاب يقع بيده؛ ورؤية رمزية، تتجسد من خلال الفتاة البريئة "هدفيج"، التي ترمز في هذا الصراع المحتدم إلى البطة البرية، العليلة التي يمكن التضحية بها لتصفية حسابات الكبار وأفعالهم، على الرغم من حاجتها الدائمة إلى الحماية. إن أباها "هيلمر"، وبعد ان يكتشف بأنها ليست من صلبه، يرفضها ويمتنع حتى عن رؤيتها أو سماع صوتها، وهنا يطلب منها "جريجرز"، أن تقتل البطة البرية،
لتبرهن لأبيها غير البيولوجي على مدى استعدادها للتضحية من أجله، ولكن "هدفيج" بدلا من أن تقتل البطة البرية، تطلق على نفسها الرصاص من المسدس المعلق على احد جدران البيت، وكأننا امام منطق تشيخوف الذي يقول، عندما نرى بندقية معلقة على الحائط، في المشهد الأول علينا أن نسمع صوت اطلاق رصاصها في اخره، ففي المسرح كل شيء له وظيفة ودلالة، ولا وجود لكل ما هو زائد. عندما تموت الفتاة المراهقة"هدفيج"، التي رمز لها ابسن بالبطة البرية، كل شيء يتزعزع ويتغير، ويدفع الجميع إلى اعادة النظر في مفهوم الوفاء، والمثالية والأخلاق.لقد تمثل الطرح الأخلاقي الذي ينتمي إلى البروتستانتية الجامدة، في شخصية "جريجرز"، المتضرر والعصبي المزاج، التي قام بأدائها الممثل الفرنسي’كلود ديبروفت’، وطور هاجسه الشفاف والنقي من خلال لعبه المتجهم الوجه ومشيته المعقودة. وكانت إلى جانبه الممثلة ‘كلو، والممثل "رودلف"، اللذان لعبا دور الزوج والزوجة "جينا وهيلمر"، بالطريقة التي ارادها لهما الإخراج، الذي صورهما وهما يميلان مرة نحو الميلودراما التي عفا عليها الزمان، والتي لا نعرف فيما اذا كان علينا أن نضحك منها حقا أم لا، ومرة يميلان نحو الرتابة البرجوازية المملة التي تترك المتفرج في حيرة من أمره، أثناء المشاهدة. وهذا هو الجو الغامض الذي استخدم في الاخراج، الذي يجعل البعض يقدره ويحترمه لانضباطه وصرامته، ويجعل البعض الآخر، يتنفس الصعداء عند بعض الاختراقات الهزلية. هذا بالإضافة إلى أن تصميم الديكور، الذي حمل في شكله ومضمونه، دلالات،وصورا مزدوجة. بحيث نرى البيت الذي يسكن فيه الجميع، على هيئة مربع خشبي ضخم وضع على المسرح، ليحبس ويقيد الخلية الاسرية بشكل محكم، وفي نفس الوقت، يدعو إلى الحرية، في بعض الأحيان، من خلال جداره الخلفي الذي يطل على منظر غابة شاسعة. بين قسوة المذهب الطبيعي ، والغابة التي تدعو إلى الحرية والخلاص، كان هناك عالم يعاني من القيود المتأصلة في المسرحية نفسها، الذي يضع عليه وفيه "ابسن" تردده بين العالم المحافظ والعالم الحديث. وهذا في الحقيقة، ما عرضه للنقد دائما. إن أنصار " ابسن" قد وجدوا حتما ضالتهم، في هذه السينوغرافيا الأنيقة، والصارمة في آن واحد، وجعلتهم يستوعبونها بعمق.
في هذا النص، الذي يحمل الكثير من الأفكار، هناك ارتفاع وذهاب نحو الحقيقة، حيث يدخلنا " ابسن" في عالم يكاد أن يكون هامشيا، عارضا فيه بين المثالية وخداع الذات،من خلال عكسه لشرطنا الانساني من خلال السخرية القاطنة في وقتنا الحاضر، بحيث ظهرت البطة البرية، في هذا العرض، مثل انعكاس للذنوب والتضحيات التي لا لزوم لها. فـ"جريجرز"، يعاني من عقدة الشعور بالذنب بسبب افعال ابيه، ويريد بأي شكل من الأشكال، أن يخفف من وطأتها على ضميره الشخصي، واستعادة الحقيقة، والشفافية لعائلة العجوز "أكدال". وهكذا، يضغط على الزر الذي يفجر الدراما، فيحرك الماضي القديم الراكد في اعماق الكثير من شخصياته، وهذا بحد ذاته، فعل تخريبي، ولكنه صادق، ومع ذلك يكون هو المسؤول على الفوضى والتضحية، في نهاية المطاف.
إذن، لا بد من تخريب كل شيء من أجل اعادة بنائه من جديد ولكن بإخلاص. وهذه هي الحقيقة المثالية التي عالجها ابسن، بنوع من السخرية، من خلال الاعترافات السرية التي تكون لها عواقب وخيمة على الشخصية البريئة الوحيدة في المسرحية. ففي هذا الاندفاع والتفجر المفاجئ، يسجل ابسن نفسه في واقعنا، ويساءل الحدود الفاصلة الموجودة بين البحث الداخلي، والمطابقة والاحترام والمظاهر. ومن أجل أن تهرب الشخصيات من الوضوح والرتابة، تهرع إلى غرفها الخاصة، مكان كل الأوهام، الذي رسمه المخرج براونشفايغ، في قلب الغابة، لكي تحلم بحياة أفضل، يحيط بها جوهر الطبيعة. لقد رسم المخرج ستيفان براونشفايغ لشخصيات مسرحيته، غابة من الصنوبر، لتكون فضاءً خياليا، جعلهم يلجأون إليه، لكي يعودوا من جديد إلى مبدأ الحياة نفسه، وإلى الطبيعة الخالية من الأكاذيب. إن الاختيار السينوغرافي للواجهتين، الداخلية والخارجية، يوضح تماما، ذلك الانقطاع ما بين الواقع والحلم. إن هذه الرؤية، التي بقدر ما كانت قوية ومثيرة للإعجاب، كانت تتقاطع مع التقسيم الجاف للهيكل الخشبي، الخالي من السحر، الذي وضع على خشبة المسرح، لكي يمثل صالون بيت اسرة أكدال العجوز.وإن أشجار الصنوبر التي امتلأت بها خلفية المسرح، تحت سماء تتلون بشكل تدريجي، تكشف عن وجود كون بلا نهاية، كون يشير إلى الاعتقاد، بأن هناك عالما جديدا يمكن بناؤه. فالمربع الخشبي الكبير يتغير كديكور، بمجرد ما يتسرب السم إلى العائلة، بحيث تستجيب الخشبة لتقلبات الأزمة، فتصعد بشكل عمودي، وتميل بقاطنيها نحو هاوية منزلقة، يصعب عليهم حتى المشي على سطحها، ولكن، بعد أن تتوضح الامور وينكشف الغطاء عن كل ما كان غامضا ومخفيا، تعود الخشبة إلى وضعها الطبيعي.
وبين المواجهة ما بين جرجيرز المثالي، الذي يريد استعادة الحقيقة لهذا العالم، وهيلمر، الذي اختار راحة التسوية، والكذب المهلك، نعثر على التناقضات العزيزة على قلب أبسن، التي تشتعل هنا، بوحشية قاتلة، وفاحشة، لتتحمل وطأتها، في نهاية المطاف، المراهقة الشابة ‘هدفيج’. إن المسرحية بالنسبة للمخرج ستيفان براونشفايغ، تكشف عن هشاشة الاسس التي يبنى عليها الوجود الطبيعي. وربما إن هذا الضعف، أو الهشاشة، هي التي تجعلنا على مقربة من شخصيات ابسن، وذلك من خلال الجهود التي يبذلونها للدفاع عن هشاشة بنائهم، في الحياة والحلم أو الفكر، الذي لا يستطيع حمايتهم من تقلبات الحقيقة وهزاتها.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق