مجلة الفنون المسرحية
“سأموت في المنفى” .. استدعاء الفرجة المسرحية والنبش في تاريخ القضية الفلسطينية
عزة القصبجية - الوطن
شغل حب الفرجة والاستماع إلى القصص السردي هنية الشعوب العربية، وبدت حلقات الراوي أكثر حميمية وتآلفا وتفاعلا مما حفز الجمهور على المبادرة والمشاركة مع ما يقدم أمام ناظريهم. يتمتع “الراوي” في الأدب الشعبي بقدرات ومواهب متنوعة؛ اتقان فن الالقاء والتشخيص، وبلاغة القول، والقدرة على تلوين نبرات الصوت لجذب الجمهور إلى العرض المقدم بحيث يصبح أكثر جاذبية ومنطقية وتشويقا.
ويعدُّ المتفرجون أو النظارة من ركائز العمل الفرجوي، إذ يلعب حس المتفرج وذوقه ومعتقداته دورا في تأطير العملية الفرجوية. ويعتمد العمل الفرجوي الحلقي بشكل كبير على تجاوب الجمهور عندما يعبرون عن تفاعلهم بالتصفيق أو الصفير أو نثر الزهور أو كلمات الاستحسان أو الإنصات التام، أو أن يعبرون عن رفضهم وعدم تقديرهم لما يروه بالصياح أو السب أو يرمون الممثلين بالأجسام الصلبة أو قد يهجر بعضهم دار العرض. 1
وتقدم “الفرجة” أحداثا مستواة؛ أما تكون من القصص الشعبي المحاط بالخرافة والأسطورة أو من التاريخ المسكون بهاجس القومية. وتصاحب “الفرجة” مهارات الغـناء والعزف على الآلة الشعبية كالربابة أو الناي أو بالنقر على طبلة أو آلـة إيقاعية أو بتحريك الدمى.
ولقد ارتبط تعريف مفهوم “الفرجة” بمعنى “الانفراج” وهي كلمة مضادة للكبت والتأزم والشدة. كما اقترن هذا المفهوم بمعنى آخر وهو “المشاهدة”. تعمل “الفرجة في المسرح” على التخلص من عناصر الحبكة في البناء الدرامي التقليدي، والكشف عن الإحداث وصولا إلى الحل والتنوير حول أي حدث درامي سردي.
يشعر المتلقي في نهاية الفرجة بحالة من الارتياح بعد مرحلة من التأزم والتوتر والتشويق حول الاحداث المقدمة. وتساهم “الفرجة” في انتقال المتلقي/ المشاهد من حالة إلى حالة أخرى، ومن فصول الحكاية الواقعية للشخصية إلى أحلام والرؤى الافتراضية. ويؤدي المشهد الشعبي في ساحة أو في حلقة حيث يتحلق الجمهور حول العرض ما بين الوقوف والجلوس إذ ارتبط شكل “الفرجة” بمكان تواجد الجمهور.
تعالت أصوات كثيرة تطالب بمسرح فرجوي عربي يولد من رحم التراث والتأريخ الشعبي في ظل الزحف الحداثي للمسرح العالمي . بهدف التأكيد على هوية المسرح العربي واثبات شرعيته في ظل تنامي التيارات الفنية الغربية شرقا وغربا. وتعدد مسميات أشكال الفرجة لدى المفكرين المسرحيين العرب، فهناك من يطلق عليها: “الاحتفالية والشعبية والسامرية ومسرح القهوة ومسرح الساحة ومسرح الشارع والسهرة والحفلة”، يصاحبها تنظير أو بيان يفصح عن غرضها ووسائلها وضروراتها باستثناء الاحتفالية في المغرب العربي.
الفرجة الفلسطينية في ربوع عُمان
حل الفنان غنام الغنام ضيفا على سلطنة عمان، وهي أرض تمزج بين عراقة الماضي، ووهج الحاضر بكل تفاصيله المعاصرة، جاء ليقدم عرضه الفرجوي بعنوان “سأموت في المنفى” الذي يمزج مفردات الغربة والترحال والهجرة والمنفى…وغيرها من المفردات التي تسلح بها الفنان غنام/ الفلسطيني ليتمكن من الابحار إلى عالم “الفرجة المسرحية “، الذي لم يتردد في تقديمها في مقهى أو ساحة الشارع أو حلقة احتفالية.
ويعدُّ المتلقي/ الجمهور الطرف الفاعل للعرض الفرجوي، وفي حالة غيابه فإنه لا يتحقق شيء اسمه مسرح وهذا ما يؤكده المخرج تشارلز دولين Charles F. Dolan في قوله: ” إن المسرح – وكثيرا ما ننسى ذلك- وجد من أجل الجمهور، فمن الممكن أن نحذف الخشبة والديكور والأثاث، ولكننا لا يمكن أن نلغي الجمهور ” 2.
جاء هاجس الهجرة وتجرع ويلات الترحال لدى “غنام”، استجابة لنداء الوطنية والتنديد بواقعه الصعب، الذي انعكس على تقاسيم وجهه خلال تجسيد أدواره المركبة بينما عامة الناس، كانوا يتحلقون حوله.
وساعد ذلك على فتح باب “الفرجة المسرحية” على مصرعيه لتصبح القضية الفلسطينية محور اهتمام الحضور . تسيد الغنام “حلقة الفرجة” التي اختارها لتكون ميدانه الخاص؛ فنراه يروي ويؤدي ويغني ويتراقص، مستغلا قدراته الجسدية التي تعينه على التشخيص ومعايشة واقعه الافتراضي الذي سكنه منذ لحظة خروجه من رحم أمه في “كفر” – اريحا بفلسطين، وحتى لحظة تمسرحه بين الجمهور العماني.
استدعى “غنام الغنام” في عرضه ذاكرة التاريخ الفلسطيني ليقدم عرضه “سأموت بالمنفى” الذي تحدث عن تاريخ فلسطين المحتلة، بعد اختزاله في ذاكرة إنسان محتل، قمعته عروبة الدم، والأرض والجيران، ولم يتبق له سوى ذكريات وأحلام متفرقة.
حكايتي مع المحتل
استطرد “غنام الغنام” في سرد سيرته الذاتية ذات الأبعاد السياسية والسيسولوجية والقومية، المحفوفة بالحزن والأسى، غنام صابر الغنام/ لاجئ فلسطيني من مواليد قرية ” كفر عانا” عام 1955م هاجر غنام قسرا منذ طفولته، وظل في حالة ترحال وتنقل دائمة حتى بلوغه سن النضج وهو لا يعرف عنوانا لوطنه. افتقد المواطن الفسلطيني/غنام الشعور بالراحة والأمان، حتى عندما حاول البحث عن الاستقرار الأسري، فإن المحتل استغل ذلك الشعور الإنساني، فبدلا أن يوقع غنام عقد زواجه، جعله الآخر/ الغريب يتنازل عن أرضه ، كناية عن بعض الخونة الذين باعوا قضيتهم القومية للعدو.ورغم مرور ردح من الزمن، إلا أن “الشعب الفلسطيني” لم يستطع أن يحدد موقعه من الاعراب، فهو ضحية اقطاب كثيرة متنافرة ، فهناك الاحتلال الاسرائيلي، وبعض البلاد العربية المجاورة، واتفاقية وعد “بلفور”، الذين جميعهم تنازلوا عن فلسطين لتكون قربان للمحتل.
أرض الوفادة … منفى آخر
سرى الألم المصيري في “أسرة غنام” كونه تركة للشهيد صابر غنام صابر من كفر عانا، الذين انتزعت السلطات المحتلة أرضهم، فقد مات والد غنام محروقا كمدا وغيظا على ابنه المثقف والمناضل في الأردن أثر مؤامرة حيكت ضده من المقربين ! يستكمل غنام سرد المواقف المأساوية ليؤكد أن كرامة الإنسان لا تكون إلا في وطنه، فبرغم وجوده ضيفا في مخيمات اللاجئين، إلا أن أعين الخونة كانت تتربص به، وبدا مصيره التهجير باسم النزوح أو اللجوء.
التشخيص والتمسرح
شخص “غنام” حكاية الألم والفجيعة في وطنه الذي بات يأن تحت نير قوات العدو الآثم . وارتكز “الأداء التمثيلي” لديه على عنصرين مهمين: الأول: تأكيد فرجوية العرض عن طريق فصل المشاهد عما يقدم له، فكان ” التغريب البرشتي Dissociation “3، كونها وسيلة مُثلى تذرع بها مخرج وممثل هذه الفرجة، الذي كان يتقمص دوره ليعبر عن حالته وموقفه، ثم لا يلبث ان ينسلخ منها، حتى لا يترك للمشاهد فرصة لاستمرار الإيهام للموضوع المقدم. وساعد عنصر “التغريب” في وضوح مضامين ومحتوى كل ما يتعين عرضه على المشاهد، وهذا ألغى “الجدار الرابع” الذي يفصل الجمهور عن خشبة المسرح.
الثاني: قام غنام الغنام بتوظيف قدراته الجسدية التشخيصية لوصف رحلة تهجيره عن موطنه. كما وظف “لو” الستانسلافيسكية بشكل كبير أثناء تشخيصه للأدوار التمثيلية، التي كانت له عونا للارتقاء بحس الممثل نحو آفاق الخيال الرحبة، وساهم ذلك في تكثيف الفعل المتمسرح لدى الممثل .
وفي السياق ذاته، قام غنام/ الممثل منذ المشهد الاستهلالي بكشف أسرار اللعبة المسرحية لتقليل “الإيهام” لدى الجمهور. فمنذ البدء رفض غنام اندماج الجمهور مع الفرجة، وسعى جاهدا لإيضاح منهجه الذي سيتعبه في عرضه الفرجوي، وساهم ذلك في استفاقة المتلقي، وجعله يدرك أصول التمسرح/ الميتا-مسرح (4) ويشعر بتجربة الفنان ومعاناته. عزف الفنان غنام الغنام على أوتار الشعب المنكوب منذ سنة 1948م ، مستغلا قدراته السردية والحوارية ما جعله يقترب إلى دور ” المشخصاتي” ، الذي كان يتمسرح حسب الحالة الدرامية، وفق أسلوب ملحمي تسجيلي” ساهم في أسر لب الحضور، والتفاعل مع الفرجة المسرحية.
لقد جعلنا غنام الغنام نعيش فصول قصته ذات الستين خريفا، بأحداثها الداكنة منذ لحظه مغادرته لوطنه الأم قسرا على أيديي سلطات الاحتلال ، إذ كان عمره لا يتجاوز اثنى عشر عاما، كانت صحيفته ناصعة البياض، تخلو من مواقف الصدامية مع العدو الغاشم. ولكن عندما بدأ ذلك الشاب/ غنام يعانق الضباب، ويحاول فك أحجية ما يدور حوله من أحداث تراجيدية، قام “اللاوعي الجمعي” لديه باسترجاع ذاكرة شعب أرهقته أساليب العنف والعذاب والتنكيل. حاول غنام الفلسطيني استرجاع المفردات التي التقطتها ذاكرته، بعد أن أدرك من خلال اطلاعه على بعض الكتب الممنوعة. وكان ذلك إيذانا لتلقي العقاب من المحتل، وسببا في تعذيبه وتشريده وضياع مستقبله، بالطبع بعد تلفيق التهم حوله لتكون بمثابة الشماعة لتعذيبه وسجنه. وفي خمسة حزيران 1967م ، شاهد غنام بأم عينيه أهالي بلدة “كفر” ، وهم يهجرون قسرا من أراضيهم، ويتعرضون للذل والهوان، وأطلق عليهم لقب “لاجئين” حتى قبل مغادرتهم لأرضهم ( فلسطين)!
ملحمية الفرجة لدى غنام
حرص غنام على أن يكون بطلا ملحميا عبر حلقته الفرجوية المفتوحة الأحداث، المتناهية الأبعاد. فقد بذل مجهودا كبيرا ، إذ كان عليه أن يؤدي دوره منفردا “مونودراما”، وأن يتمسرح ويتغير من حال إلى حال، وحيدا دون أن يسانده أحد؛ فنراه يؤدي دور”الراوي” ليعبر ويحكي عن جرحه الغائر، واغتيال أحلام طفولته وضياع وطنه منذ زمن بعيد .
كان غنام في كل مرحلة يتقمص دورا تمثيليا، يشعرنا بآهات وويلات وشجون الشعب الفلسطيني منذ سنوات، وهو ذلك الراوي الذي يغير نبرة صوته حسب الدور الذي يؤديه.
فتح العرض على مصراعيه ليصنع حلقة تفاعلية هدفها مشاركة الجمهور الذي كان يحاصر الحلقة. ورغم صعوبة “العرض المونودراما/ عرض الممثل الواحد” . الأمر الذي قد يترتب عليه رتابة وممل كبيرين ، خاصة في ظل غياب المؤثرات الموسيقية والصوتية والإضاءة والديكور وحتى خشبة المسرح.
وأصر غنام الغنام على تقديم عرضه الفرجوي في ساحة خواء، لا يوجد بها سوى كرسي منفرد، بينما كان النظارة يتفرجون على ملحمة نضال الشعب الفلسطيني، بين مؤيد ومعارض، ومتعاطف ومتفاعل.
عودة غنام للوطن
اليوم، أصبح عمر “غنام صابر الغنام” ستين عاما، وهو لا يزال غريبا، لا يعرف عنوانا لمطار بلاده يمكن أن يحط الرحال فيه، ولكن حنينه لوطنه الأول دفعه لزيارته مره أخرى إليه. إذ قرر “غنام”، الراوي / اللاجئ / المهجر لزيارة منزل الطفولة في اريحا، حيث شجرة الزيتون ما تزال يانعة الخضار رغم أن عمرها يزيد عن خمسمائة ألف عام، و التي كان يمتلكها “العم بدوي” هناك، للتأكيد على شرعية “الشعب الفلسطيني” الذي يزيد تاريخه عن عمر شجرة الزيتون.
أصر غنام على التمرد على أرضه المغتصبة، ومحاولة استرجاع أيام طفولته الثكلى التي ارتسمت تفاصيلها في مخيلته الفلسطينية البكر، ليصبح “بدل فاقد” بعد أن أضحى يتجرع غصة التجوال في المطارات وجحيم المنفى، في انتظار استرجاع النسخة الأصلية لهويته الضائعة منذ زمن!
انتزع المحتل حقيبته وأخذوا منها “آلة التصوير” التي خزنت آلاف الصور في ذاكرتها صورا لفلسطين القديمة ، وقام حراس الحدود بإتلافها. ولم يتبق للمواطن الفلسطيني/غنام سوى حفنة تراب وحجر. وبضياع تلك “الحقيبة” ضاعت ملامح هويته وطمست أحلامه ووطنه. لقد توالى مسلسل التنكيل الذي عاصره غنام عبر ذاكرته المثقوبة، التي اقترنت بسرقة “آلة التصوي ” منه، التي تحوي لقطات لبلدته “اريحا” ولشجرة الزيتون الفلسطينية، التي يزيد عمرها عن وجود الاحتلال عندما كانت فلسطين أرض في أوج حضارتها.
ولم تغفل ذاكرة غنام مسرحية “عايدة” التي كان قد شاهدها في مطلع شبابه باريحا. لقد صدح المؤدي في هذه المسرحية بكلمات الشاعر الفلسطيني محمود درويش، وتغنى بكلمات ووديع الصافي، في محاولة منه لتصالح مع واقعه الذي قارب على الزوال. حاليا : يحمل “غنام” جوازا عربيا لدولة مجاورة، لكنه في المنزل يستمع والدته- وهي ترتدي الثوب الفلسطيني المطرز- وهي تخبره أن أخيه توفى شهيدا، بعد معاناته وسهره من الجرح الغائر في كتفه الأيمن… يسترسل “غنام” البوح والتعبير عن حزنه الدفين، الذي ألفه منذ زمن في حياته ، جسده ، ذاكرته. قدم عرضه “سأموت في المنفى” بأسلوب ملحمي وثائقي، لتظل “اريحا” تلك المدينة الفلسطينية التي سجلت قصص الفداء والبطولات والخيانة والمنفى والبحث عن فاقد . كانت تلك لمحات عابرة ومؤثرة لفنان فلسطيني عرفه الوطن العربي، بأعماله وعطاءه المسكون بهاجس نضاله لوطنه. وفي عرضه الفرجوي “سأموت في المنفى” حاول غنام تأويل واقعه في ضوء ماضيه بأسلوب ملحمي ، واختار قالب الفرجة المسرحية ليذكر العالم والرأي العام بقضيته التي لا تزال مستمرة، من خلال فرجة مسرحية أخرى.
————————-
الحواشي:
1- أبو العلا، عصام الدين، المسرحية العربية: الحقيقة التاريخية والزيف الفني، الهيئة المصرية للكتاب: القاهرة، 2007م، ص69
2- مهدي يوسف، عقيل، أقنعة الحداثة : دراسة تحليلية في تاريخ الفن المعاصر، عمّان: دار دجلة، الطبعة الأولى، 2010م ، ص 65.
3- بريخت، برتولد، ترجمة (جميل نصيف)، نظرية المسرح الملحمي، سلسلة الكتب المترجمة العدد (16)، بغداد، منشورات وزارة الاعلام، 1973، ص165
4- يرتبط هذا المصطلح بعدد من المفاهيم : المسرحية داخل المسرحية، الاحتفال داخل المسرحية، الإحالة إلى الذات…لمزيد من التفاصيل ينظر في مقالة “مرتجلة محمد الكغاط بين الاحتفاء بالجسد المسرحي وتفكيكه، خالد أمين، من كتاب”المرتجلة في المسرح”، ص56
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق