مجلة الفنون المسرحية
أسئلة المسرح والحرب .. قراءة لثلاثة عروض مسرحية سورية بعد سنوات الحرب السبعة
عادل عبد الوهاب - madamasr
هل بإمكان الحرب السورية؛ التي اندلعت في أعقاب الثورة السورية في 2011؛ إنتاج جماليات فنية جديدة؟ هل من الجائز أن ينشغل ذهن الفنان السوري الذي يساند الثورة، بإنتاج مثل هذه الجماليات، أم يجب عليه الالتزام بما يشبه مانفيستو سياسي وأخلاقي؟ هل يمكن أن ينتج الوضع السوري الآن بكل تعقيداته خطًا أو تيارًا فنيًا، يمكن تذوّقه بمعزل عن القضية السورية، وفي إطار إنساني أكبر؟.
هذه التساؤلات لم تطرأ بالطبع الآن مع القضية السورية حصرًا. ولكنها تطرأ مع كل انفجار سياسي واجتماعي كبير، يجد الفنان نفسه في القلب منه، كالقضية الفلسطينية، والثورة المصرية في 2011، حين نكون أمام إنتاج فني، يمكن تسميته بالفن السياسي المعاصر، والذي يأتي في أشكال متعددة ويختلف من وسيط فني لآخر.
هذه الأسئلة هي أكثر ما حكم تجربتي في تلقي العروض السورية المسرحية الثلاثة التي أتكلّم عنها في هذا المقال، والتي شاهدتها على فترات زمنية متباعدة، والتي رغم انشغالها بثيمات الحرب والثورة، تختلف جذريًا في بنائها الفني.
العرض الأول هو «نزوح» للراقص والمصمم مثقال الصغير، وينتمي لعروض الرقص المعاصر. والثاني هو «حلب. بورتريه الغياب» للكاتب والمخرج المسرحي محمد العطار، وينتمي إلى فئة عروض المتفرج الواحد (one on one )، والثالث هو «هنّ»، وهو عرض مسرح تقليدي ذو طابع حداثي في البناء والشكل، ومن إنتاج جهة حكومية سورية.
نزوح / Displacement
تصميم ورقص: مثقال الصغير
عرض في مهرجان Theater Spektakel في زيورخ بسويسرا في أغسطس 2017
بدأ هذا المشروع بعرض رقص منفرد Solo للراقص والمصمم السوري مثقال الصغير، قبل أن يطوره لعرض جديد ينقسم لجزئين. الأول هو الرقصة المنفردة، بإضاءة تسمح له برؤية وجوه الجمهور. أما الثاني فمع راقصين آخرين، ولكن تحافظ الإضاءة هذه المرة على الفرضية الأساسية لفن المسرح القائمة على الحائط الرابع الوهمي بين المؤدين الثلاثة وبين الجمهور، بحيث لا يرى المؤدون (الثلاثة راقصون ذكور) الجمهور لأن منطقتهم مظلمة.
يبدأ العرض بخشبة مسرح سوداء فارغة إلا من بيادة عسكرية برقبة طويلة في مقدمة اليسار، وإضاءة بيضاء عادية تضيء المسرح كله، بما فيه مقاعد المتفرجين. كما ذكرتُ قبل ذلك، نحن نرى المساحة المسرحية والمساحة المسرحية ترانا.
يستهل العرض بموسيقى غير مفهومة، ولكنها تبدو غناءً فلكلوريًا لمنطقة عربية ما، بها قدر من المعاناة والصلف، كأنها نعيق أو نداء في الخلاء. يدخل مثقال إلى المسرح بجسده الهزيل جدًا، يرتدي قميصًا أبيض، ويحمل بيده لفافة بيضاء، وبإيقاع بطيء، وكأنه يحمل كفنه، يضع اللفافة على الأرض، في منتصف الخشبة، بحيث يكون هو مقابل للبيادة (الحذاء العسكري).
يدور بإيقاع بطيء وينظر للجمهور، قبل أن يذهب ويلبس البيادة، وهنا يختلف شكله تمامًا عنه قبل الرقص، وكأن جسده يتغير وهذا ليس مجازًا، فلا يمكن تجاهل تأثير البيادة ذات الرقبة الطويلة على جسده كمؤدٍ، وربما أعطاها إيقاعه البطيء زخمًا وكأنها تلبسته، وحوَّلها من مجرد حذاء إلى رمز للحرب والقمع الديكتاتوري المستند على شرعية وجودها. كل هذا حدث بإيقاع هادئ وبدون مبالغة كبيرة في ترميز البيادة، وكأن جسده والبيادة وُجدا في هذا الفراغ المسرحي لكي يتحدا.
بعد ذلك، يبدأ رقصة ذات إيقاع بطيء، وكأنه شخص يتمايل فقط، قبل أن يتضح أن الرقصة دبكة، ومع أنها تبدو كرقصة أفراح، إلا أنها مع جسد له إيقاع ثقيل، رغم هزاله وضعفه، بعينين شاخصتين للجمهور، تشع أسى وحزن لا يمكن تجاهله، خاصة أنها بلا موسيقى.
وحده مثقال على المسرح، يرقص دبكة تقليدية، كالتي نراها في ثقافات الشرق الأوسط، وجنوب أوروبا، ولكنها هنا ممزوجة بحركات راقصة غير تقليدية، تعبر عن الاستسلام، والتعرّض للتعذيب، واختبار التعب من المشي لأيام طويلة، وغيرها من الانفعالات المرتبطة بالحرب والهزيمة، وأيضًا بالحياة اليومية. ورغم اختلافها عن الدبكة، إلا أنها تظل دبكة، تم تفكيكها وإعادة بنائها، ويمكن أن نسميها: «دبكة الألم».
مثلًا في العرض، نشاهد الخطوة العسكرية أو ما يعرف في مصر بـ«الخطوة المعتادة» بتكرار يتماشى مع إيقاع الرقصة، قبل أن يتحول جسد الراقص ليكون تمثيلًا عن المعتقل أو الأسير، بذراعيه خلف ظهره. لا تستطيع أن تميز هل هو مدني أم نظامي؟. هو مجرد جسد خرج من الصور المتداولة يوميًا في الشرق الأوسط، استحضر مثقال، من خلاله، لحظات الوهن والتعب والذل وأطلقها خلال رقصته.
عرض «نزوح» لمثقال هو تهجير أو إعادة توطين قسري للجسد في حالة شعورية جديدة. ليس فقط الجسد السوري وإنما الجسد العربي أو الشرق الأوسطي. المواطن الذي يعيش في المنطقة العربية في السنوات الأخيرة أُجبر على إعادة توطين جسده من خلال المظاهرات: الركض عبر الحدود، والهروب من أصوات الرصاص، الزحف نتيجة تلقيه الرصاص وقنابل الدخان.
هناك مواطنون اختبروا هذا التهجير وهذه الإزاحة بشكل حي ومادي، وآخرون تشبعت ذاكرتهم البصرية بـ«أوضاع جسدية» جديدة، رأوا أبطالها، الذين يشبهونهم في مقاطع الفيديو التي تبث يوميًا، من سوريا مصر، ليبيا، اليمن، العراق، في أوضاع جسدية يمكن وصفها بكلمات كـ:إنهيار، استسلام، ذل، تعب، خوف. ولكن بصريًا، تمتلك تلك الصور المساحة لتوليد معانٍ أخرى تنقلب بها الأدوار؛ أجساد قاهرة تغدو أجساد مقهورة وممزقة بين لحظة وأخرى. فليس فقط الجسد المدني هو المقهور، أيضا الجسد العسكري ففي واقع النزوح والحرب السورية، التي نراها في الفيديوهات القصيرة والطويلة، أصبحت الأجساد تتبادل المواقع، فمرة قاهرة ومرة مقهورة.
هذا العرض يمكن اختزال الحديث عنه بوصفه «مسرحية تراجيديا» عن الثورة السورية، ثم مرثية عن الحرب الدولية الدائرة هناك، غرضها فقط أن تشعرنا بـ«التطهر التراجيدي» الذي يثير بداخلنا مشاعر الشفقة والخوف فقط، فيلقي عن أكتافنا شعورنا بالذنب، بمجرد تصفيقنا له عند نهايته.
ولكن المسرح السياسي الواقعي، مثل هذا العرض يحول دون ذلك، فمع إنتصارات النظام السوري الأخيرة، واستعادته لتوازنه ومع التغيرات السياسية الدولية الغربية الرامية لإعادة اللاجئين إلى سوريا مرة أخرى، يطرح العرض سؤالًا حول إعادة تهجير هذا الجسد إلى موطن شعوري جديد، موطن جديد يستطيع فيه الجسد أن يمحو ذاكرته المحشوة بالألم والوجع والمهانة، ويفقد القدرة قسرًا على استعادة هذا التهجير ويتثنى ويرقص ليتلائم مع تهجير جديد في موطنه القديم.
في الحوار الذي تلا العرض، في زيورخ، أجاب مثقال الصغير وفريق عمله عن عدة أسئلة تتعلق بنوع الرقص التراثي الذي بنى عليه مثقال كريوجرافيا عرضه «نزوح»، وعن مصادر إلهامه، وما إلى ذلك، ولكن ربما كان أهم ما طبع المزاج العام لهذا اللقاء هو كلمات سيدة أوروبية مسنة تعبر عن تعاطفها مع السوريين في محنتهم. ربما إحداث هذا الأثر لم يكن أهم ما يشغل بال مثقال أثناء عمله الإبداعي، وربما كان في مرحلة ما أساسيًا وتراجع في مرحلة أخرى. لكن على الناحية الأخرى، يرتبط دومًا تلقي الفنون الأدائية بالسياق والمكان، وفي حال ارتباطه ارتبط بقضية آنية؛ يختلف التلقي وفق موقع المتلقي من القضية السياسية والاجتماعية. ولكن دومًا في المهرجانات الغربية الأوروبية؛ يحضر هذا السؤال: «ماذا يمكننا أن نفعل؟» وهو سؤال نابع من موقع المتفرج المتميز الذي يمتلك القدرة على التدخل وعدم التورط؛ إحساس تطهري بالمقام الأول نابع من هوة السياق الاجتماعي بين الغرب الأول بين والشرق والجنوب الثاني والثالث.
«حلب. بورتريه الغياب»/ Aleppo. A Portrait of Absence
تصميم وإخراج: محمد العطار
عُرض «بورتريه الغياب» في«بيت ثقافات العالم HKW» ببرلين، في سبتمبر 2017.
عرض مسرحي معاصر وثائقي ( encounter) أي ( مؤدي واحد- لـ – متفرج واحد ) (one on one performance ). هذا النوع من العروض ينتمي للمسرح الـ«ما بعد درامي»، والذي لا يعتمد على نص مسرحي يؤدي على الخشبة لجمهور يقبع في ظلام الصالة، وإنما هو تجربة تلقِّي مختلفة. ممثل واحد في مواجهة متفرج واحد.
يبدأ محمد العطار الكاتب والمخرج المسرحي السوري، والذي قام بتوليف هذا العمل، عرضه بتجميع المتفرجين/ الجمهور العشرة أمام سبورة، عليها خريطة لـ«حلب»، ويطلب منا أن نختار بطاقة من عشر بطاقات، مثبتة بدبابيس على الخريطة، وكأننا أمام تطبيق (خريطة جوجل google maps ).
حين يختار الجمهور بطاقاتهم، يكون هذا بمثابة تصاريح مرور لتسليمهم أجهزة تسجيل (كاسيت) بشرائط، كالتي كنا نستخدمها قبل رقمنة كل شيء. هكذا، يبدأ العرض بجماعة تتفرّق إلى فرادى، كل إلى مكانه، حيث يكون بانتظاره شخص على منضدة. عن نفسي، وجدتُ بطاقتي مكتوبًا عليها «جامع الإسماعيلية».
لم أزر حلب ولا سوريا في حياتي، ولم أنتظر أو أتوقع قصة مبهرة عن المكان الذي اخترته. ذهبتُ للمنضدة، لأجد في انتظاري ممثلًا ألمانيًا أبيضًا بعيون زرقاء، أدار لي الكاسيت، فسمعتُ لدقائق صوت شاب يتحدث العربية بلهجة سورية، كالتي أعتدت سماعها يوميًا في الإسكندرية حيث أعيش، أو في برلين حيث تعددت سفرياتي هناك. أقول اعتدتُ سماعها، نظرًا لموجة اللجوء التي تلت الثورة والحرب.
كنت أستمع للصوت القادم من سوريا، وأفكر هل الممثل الألماني الذي حدثني بالإنجليزية يفهم لماذا أبتسم أحيانًا، أو يتساءل عن وقع هذا الصوت عليّ، أو لماذا تلمع عيناي. كنتُ أسمع قصة شاب إنضم لفرقة إنشاد صوفي من أتباع الطريقة القادرية في حلب. لا أعرف الكثير عن الصوفية، أعرف أكثر عن الإسلام الراديكالي المتطرف، والمذاهب الأكثر انغلاقًا، ولكني أعرف شيئًا عن معنى أن تكون صوفيًا .
خلال الدقائق القليلة كنت أعد نفسي للحظة توقف (الكاسيت)، وللاستماع لحكاية عن «جامع الإسماعيلية» بالإنجليزية، وعن شاب سوري في مثل عمري ربما، يحكي عنه الممثل الأوروبي الذي ساقه حظه العثر، لآخر عرض لهذه الليلة ليواجه وجهًا مربكًا نوعًا ما. وجهي أنا الطافح بـ«الملامح العربية الشرق أوسطية»الخطيرة. ربما لم يكترث على الإطلاق، فموقعه كممثل يمنحه هذه الميزة الخارقة: أن لا يكترث.
ممثلنا حكى قصة الشاب السوري بضمير المتكلم وكأنه يحكي لي قصته. وبالطبع كنت أسمع باهتمام، وعقلى يحاول أن يفتح مساحة أخرى لتخيل الشخص المحكي عنه، الذي ربما يكون عالقًا في حلب، أو معتقلًا أو ميتًا الآن.
هذا ليس مجازًا، فالمسرح الوثائقي يستخدم قصصًا حقيقية. وعندما تكون هذه القصص آنية ولحظية، كفن المسرح نفسه، ترتبك المشاعر، ويحدِث هذا في النفس وجعًا تراجيديًا، ولكن ليس مصاحبًا بحالة تطهير، كما يحدث إثر مشاهدة المآسي الإغريقية (التراجيديات)، أو المآسي الشكسبيرية . خلص أرسطو إلى أن هدف التراجيديا هو التطهير (catharsis )، لكن في أواخر القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، بدأ التمرد على هذا المسرح وتمثلاته، من نظريات أداء ومعمار مسرحي وما إلى ذلك. رغم ذلك، استمر هذا النوع المسرحي، واستمرت المناهج والنظريات المناوئة، كالمسرح الملحمي (اللا أرسطي )، والمسرح الوثائقي السياسي، ومسرح العبث.
في بحثنا عن الجماليات الجديدة والخطاب المختلف الذي أنتجته حالة سوريا بعد2011، يمكننا أن نتلمس هذا الخط الجمالي الجديد المختلف عن المسرح السوري السائد، الذي كان يعد قبل 2011 من أهم مسارح المنطقة العربية، بدليل انتشار المسلسلات السورية في البلاد العربية، ومزاحمتها نوعًا ما المسلسلات المصرية. بالطبع كان أغلب المسرحي السوري قبل الثورة تقليديًا أرسطيًا، أو منتميًا إلى المسرح الملحمي البريختي، أو غيره من المدارس الشهيرة، واتسم بتطور التقنيات التمثيلية، وكان مدعومًا بشكل كبير من النظام، كأحد أوجه الحياة الثقافية في سوريا قبل 2011.
«حلب بورتريه الغياب» ليس الأوحد في تبنيه خطًا جماليًا جديدًا قائمًا على التوثيق، ولا في كسره التلقي التقليدي، أو حتى في كونه (one on one ). ولكن تنبع أهميته من حساسية محمد العطار، الذي رغم كونه كاتب مسرحي تقليدي، إلا أن رغبته في توليد شئ أكثر خصوصية من هذا النوع المسرح الجاف نسبيًا، وطرحه بوصفه فنان ومواطن سوري لا يشبه أي مواطن سوري آخر، ويشبه كل مواطن سوري في نفس الوقت، جعلت هذا العرض مختلفًا.
يسعى العطار لجعل «الوثيقة» (كالوثيقة المسجلة بصوت الشاب السوري بحلب) تستفيد من حالة التطهر العالمية تجاه القضية السورية. وفي الوقت نفسه، وباستخدام «الوثائق الواقعية» يهاجم إحساس التعاطف التراجيدي، النابع من آنية وعالمية القضية، والذي يولّد فقط الخوف وعدم التأمل.
هن .. مرثية نسوية
(واحد إليّ والثاني للوطن )
تأليف وإخراج: آنا عكاش
عرض في الدورة العاشرة لمهرجان «المسرح العربي» بتونس، في يناير 2018
شاهدت هذا العرض في مهرجان «المسرح العربي» الدورة العاشرة، بتونس. ونظرًا لأن جهة إنتاجه حكومية سورية، فربما بالكتابة عنه في هذه المقال، فكأننا نضعه في مقارنة مع العرضين السابقين، خاصة لظروف إنتاجهما خارج سوريا (في المهجر)، وخطابهما الجمالي المنحاز للثورة، وأثر الحرب التي يشنها النظام على باقي المدن السورية، ضمن ما آلت إليه الأوضاع هناك، وفي رأيي لا فكاك من مقارنة الخطاب والتوجه والانحياز السياسي. ولكن بسبب تعقيدات ومآلات القضية السورية، من تبدل الأدوار يوميًا ما بين الأطراف المتحاربة، فقد أصبح الإنحياز السياسي جدليًا، إذا حاولنا أن نكون موضوعيين، لأن معظم الأطراف السياسية تورطت فعليًا في جرائم إنسانية وعدوان على أبرياء وفساد، بتفاوت بالطبع.
هذا العرض في طرحه الجمالي والفكري، يركز على الانحياز لخطاب إنساني فقط. هو عرض مؤنث نسائي عن «هن»؛ نساء دمشق، والحرب. عن فقد الرجال، وغيابهم كأحبة وأبناء.
خمس نساء يلبسن السواد، نراهم فوق خشبة مسرح خاوية إلا من خمس إطارات مغطاة بقماش أبيض يشبه الكفن، يُعرض عليه المواد المصورة فيديو وفوتوغرافيا. ثم نشاهد النساء يقرأن الفاتحة في طقس حداد واضح.
هنّ خمس نساء يحكين حكايات، تبدو غير مرتبة منطقيًا، فكل حياة تنقطع عند نقطة وتتصل عند نقطة أخرى، ولكن كلها تكمٍل بعضها، فهي إما عن الحبيب أو الابن أو الحرب. على خمسة كراسي خشبية سوداء بخمسة دفوف، تبدأ رحلة حدادهن بلا ترتيب زمني. تدور كلها حول الرجل كحبيب أو كابن. وجبل «قاسيون» مركزي في قصصهن، فهو يمثل الذكَر المحارِب.
تحكي الخمس ممثلات قصة «قابيل وهابيل» كأول جريمة موثقة في التاريخ. ويذكرن أنها، تبعًا لما ذكر ابن عساكر والعهد القديم والقرآن، وقعت على هذه الأرض؛ أرض الشام، على سفح جبل قاسيون تحديدًا، ومن يومها حرَّم الله أن تشرب الأرض دماء، وستظل عطشى للدماء وكأنها لعنة تراجيدية ترافق سكان هذه الأرض؛ أرض سوريا .
العرض مقسم إلى فصول. في الفصل المسمّى: ذاكرة الحكايات، نتابع قصصًا عن شباب أو رجال غائبين، ليس لهم علاقة بالحرب، ولكن تورطوا فيها. دفعوا إلى حمل السلاح، أو الهرب في البحر.
تأتي القصص من منظور السيدات، وما يشغلهن في هذه العلاقات، كيف ترى إحداهن علاقاتها مع الرجال، وتوقعها ماذا يريدون منها. كيف ترى أم علاقتها مع ابنها، وماذا ترى فيها، وكيف تصفه، وأخرى عن ذكرى الحبيب.
هناك فصل آخر عن دمشق، يحكين فيه حياتهن اليومية، ويعدن إلى قصص الغياب والفقد ولكن هنا يمزجنها بالحياة اليومية في دمشق بعد الحرب، ولماذا مازلن يقمن في هذه المدينة ويعدن إليها مرة أخرى، يرثين الذكَر الغائب.
هن لم يتناولن العنف الجسدي ضد النساء، ولم يقتربن من التعذيب الجسدي والخطف والاغتصاب والقتل تجاه السوريات، وبالطبع هذا اختيار فني، من حق الكاتبة اختيار كيف تبني سرديتها، لكن وكأن هناك رقابة ما على تناول الجسد الأنثوي السوري، وما يتعرّض له من انتهاك مستمر منذ شرارة الثورة الأولى، مرورا بالحرب السورية من كل أطراف الصراع، بشكل ممنهج وغير ممنهج. ربما هذا ما كنا نتوقعه من عرض نسوي مباشر. مشتبك مع حالة سوريا الآن. لكن في هذا العرض لا.
إن المسرح السياسي في القرن العشرين في أوروبا والعالم الغربي أصبح في مركزية الإنتاج الثقافي والحوار المجتمعي، لأنه تحرر من الرقابة ومن التوجيه الحكومي.
في أوروبا، أثناء مرورها بكل الصراعات والحروب والثورات والصراعات الأيديولوجية في القرن العشرين ترسخ المسرح السياسي في الوعي المجتمعي كساحة تتفاعل وتعكس جوانب عدة من تحولات المجتمع، ومازال للآن أساسيًا في البنية المسرحية الغربية، وحتى مع إحتوائه إنتاجًيا في منظومة الرأسمالية الغربية مازال قادرًا على التمرد من حين لآخر.
لكن قلما نستطيع أن نجد في المنطقة العربية، ومع البنى المسرحية المعتادة؛ تجربة مسرح سياسي قادرة على التأثير والتراكم في وعي الممارسين المسرحيين، لكن وكما رأينا في العروض الثلاث السابقة، وحتى مع تفاوتها واختلافها، ربما يسمح الوضع السياسي الحالي لسوريا ما بين الشام، وبين الشتات الأوروبي، بمشاريع مسرح سياسي حرة وناضجة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق