تصنيفات مسرحية

الثلاثاء، 11 سبتمبر 2018

مونودراما " بقاية الأنثى المعنفة " تأليف فريدة عمارة

مجلة الفنون المسرحية




( تنطلق أحداث المسرحية في جو خيالي ظلام على الخشبة ما عدا دائرة الضوء 
           تنير كالشمعة على شخص ما يلتقط من الأرض شيء ويرفعه ليدخله في فمه، ثم 
          تزداد الإنارة شيئا فشيئا ليظهر لنا ذلك الشخص على إنه امرأة في مقتبل العمر  
          هيئتها تدل على التشرد والجو يوحي بالشارع وبعدها تزداد الإنارة فتترك كل ما 
        بيدها وتنهض وهي تمسح فمها بيديها ثم تمسح يديها بثوبها الرث الوسخ والممزق 
         وتحدق في الجمهور بنظرة الحاقد وتخاطبهم ).

هل سمعتم يوما ما بالأنثى المعنفة أنظروا ها أنا واقفة أمامكم أنا أدعى أنثى معنفة ومدمرّة 
( تطأطأ رأسها وتهز رجليها اليمنى كأنها تداعب حصى على الأرض ثم تنظر للجمهور مرة أخرى )
 أول شيء يأتي في أذهانكم هو العنف بصفة عامة أو العنف اللفظي والجسدي، هذا ما تلقيته في عائلتي وللأسف من طرف أخي الذي يصغرني سنا وبموافقة والدي مع والدتي، هكذا هو الحال عندنا في الأسر العربية السلطة للرجل، لا يحق لي الكلام أو الشكوى وهذا ما أعطاه حرية التمادي في أذيتي 
( تخفت صوتها ) 
للأسف إنها عادات وتقاليد متجذرة في تقافات الكثيرين ليس نحن فقط، إنها تشبه عادات الجاهلية التي تميز الذكر عن الأنثى 
( تصرخ بقـوة ) 
وعندما يأتي اليوم العالمي للعنف ضد المرأة يقولون بأنه آفة اجتماعية ولكن لا أحد يصغي إليهم 
( تجلس على الأرض من جديد وكأنها متعبة ) 
أذكر معاناتي مع عائلتي الكريمة التي لا تحب الفضائح، تحب أن تبدوا جيدة الصمعة أمام الناس والجيران، أذكر جيدا تلك المعاناة كأنها حصلت معي قبل قليل فقط، كنت أعيش معهم مثل العبدة لا تلبسي هكذا إنه يظهر أنوثتك، ولا تتكلمي بصوت مرتفع، أنقصي من صوت التلفاز لا تشاهدي الناس من النافذة ربما يراكي أحد المارة، لا تخرجي لا تذهبي للمدرسة ماذا تريدين من التعليم، المرأة مكانها البيت لا تضيعي وقتك بماذا ستنفعك الدراسة، 
( تأخذ نفس عميق وتغمض عينها برهة ثم تفتحها ) 
لم أستوعب حتى الآن لما كانوا يعاملوني هكذا، كلامهم يشبه الألغاز لا أفهم منه إلا القليل، لقد كنت فتاة قابعة في البيت يجتاحني السأم بين حين وآخر، ودموعــي تنزل بين فترة وأخرى حتى أني كنت أدمن لبس فستان أسود كلون الغربان لأني فقدت القدرة على تذوق الألوان، وعند سماع صوت أخي الذي يتكلم بلا حدود ومن دون فاصلة ولا نقطة القلق يسكن جسدي حتى أنه أصبح لسيقا بي كأنه عاهة مستديمة أو أفكار سيئة استوطنة  فكري وكنت أتخيل أنه يقتلني 
( ترفع رأسها إلى الأعلى كأنها تسائل نفسها في إحباط ويأس )
 لما لا يفعلها من سيمنعه لقد تعود على فرض نفسه في البيت، أتذكر جيدا عندما كنت أبكي ساعات طويلة على وسادتي دون أن يقاطعني أحدهم أو يسألني عن السبب، للأسف إنهم أناس يعانون من جفاف الثقافة والمشاعر وأيضا الأحاسيس وحتى الحنان، يتكلمون بألف موضوع ولكنهم لا يفتحون كتابا واحدا في العام، يقولون لي دائما يجب أن تفعلي هذا وليس ذاك وعندما أناقشهم يجيبوني 
( تضع يدا على جنبها واليد الأخرى توبخ بها كأنها تقلدهم ) 
ماذا لو كنت الآن سبية في سوريا أو العراق كل يوم يبيعك رجل ويشتريك رجل آخر أرخس منه بكثير، ماذا لو كنت لاجئة في بلد ما.
ماذا لو كنت تعيشين في إحدى الدول الإفريقية تعانين الجوع والمرض معا، احمدي الله على تواجدك معنا لا تتكلمي نفذي فقط ما نأمرك به، نحن أدرى  بمصلحتك 
( ترفع صوتها من جديد ) 
لقد أصبح العنف الأسري بلاء مستوطن في جميع أنحاء العالم والأغلبية الساحقة من النساء والفتيات وهذا يرجع لسوء التوعية، نعم لا يوجد  توعية للنساء من أجل التصدي  لهذا العنف، لا توجد ثقافة في مجتمعاتنا لهذا السبب كنت أعيش معهم في صمت عميق وعزلة أسمع عن الحرية لكني لا أراها ولا أحس بها، ومرات عندما يتعرضون لي لا أفكر في المقاومة أو أن أثور عليهم والغرابة في كل هذا الأمر هي أني محاطة ومقيدة بالعادات والتقاليد 
( تنفعل مرة أخرى ) 
الأخ الذي هو السند من لحمي ودمي كان يضربني بقسوة ويسمعني كلمات جارحة، أحيانا كنت أحس وكأني أعيش في السجن، لا لست سجينة لأن السجن في بلادنا يعطي امتيازات واحترام للنزيلات، ويطبقون القانون في حقهم حتى تنتهي مدة حكمهم 
( تضحك ) 
وعندما يراني والدي أبكي وأتألم لا يعجبه المنظر يصرخ في وجهي ويوبخني بقسوة ( تغير صوتها ) هيا أسكتي، ما خطبك أنا متعب لا تزيدي من همومي، ماذا تريدين أن أفعل له هل أقتله لترتاحي أنتِ  )ترجع صوتها لطبيعته ) وكأنه يفتخر بظلم ابنه لي أو يشجعـه على أذيتي، كان من الأجدر بي الهروب من ذلك البيت ولكن للأسف هذه الفكرة الجميلة لم تخطر ببالي حينها، كل ما يدور في بالي هو الخوف منهم وشعوري بأنهم يمقتون وجودي معهم ويكرهوني.

( تغير مكان الجلوس إلى زاوية أخرى ثم تخرج حقيبة قديمة فيها بعض الثياب القديمة والمختلفة الألوان تفرغها على الأرض وتبدأ في ترتيبها من جديد ) 
في إحدى الأيام جاء رجل لخطبتي، لطلب يدي للزواج بحجة أنه سأل عني وقالوا له إنها لا تختلط مع الناس السيئين وأني أعيش تحت جناح والديا، وصمعتي عائلتي جيدة وأجبروني على الزواج به رغما عني، فجاء هو وعائلته لرؤيتي فأعجبتهم ووافقوا عليا حتى جهازي لم أكن أنا من اخترته كل شيء حصل حسب رغبتهم لأنهم يتحكمون في كل شيء حتى الأتفه منها، ويقررون عني دائما، أما أنا فأقول نعم، حاضر فقط لا يحبون مناقشات، ويوم زفافي أتذكر أني جلست على ذلك الكرسي وكنت أرتدي فستان أبيض من اختيارهم طبعا فاجتمعوا بي الأقارب وأعطوني عدة محاضرات الأولى تقول لي 
( تقلد صوتها ) 
يجب عليك التظاهر بالفرح والابتسامة أمام عائلة زوجك هيا بسرعة غيري ملامح وجهك والثانية تقول يجب أن تسمعي كلام زوجك وتطبيقه لقد كثر النساء وقل الرجال في هذا الزمن احترسي أبذلي كل ما في وسعك للمحافظة عليه بأي طريقة كانت وإلا رفضك وأدخلك في مجمع المطلقات ولا أريد إخبارك أنت تعرفين مصير المطلقة هذه الأيام، هيا أرينا شطارتك والثالثة تهمس في أذني بصوت خافت وتقول لي اليوم هو يوم مصيري بالنسبة لك، إنه امتحان صعب يجب أن تنجحي فيه وإلا أصبحت وصمعة عار على العائلة والرابعة ترتب لي فستاني وشعري وتعلمني بعض الأدعية حتى تحفظني وتحصنني من العين هكذا كانت ليلة عرسي مليئة بالنصائح والتخويف وفي اليوم الثاني بدأت المعركة مع أهله، لقد أحسست في اليوم الذي سبق أني انتصرت وتحررت من عنف عائلتي  
 (تضحك بشدة وتنظر إلى الجمهور ) 
ولكن دون علما مني دخلت في دائرة عنف آخر وهو العنف الزوجي ضدي لقد مارسه معي لكي يبرهن أمام عائلته أنه رجل ويتحكم فيا، فبدأت أطيعه غصبا عني حتى لا أرجع لبيت أهلي لأني سئمت ذلك العنف القديم وقلت لنفسي دعكي  منهم وجربي عنف آخر ربما تستطيعين التغلب عليه والتأقلم معه هذه المرة  )تغظب وتثور وتنظر للأعلى ) لقد كان رجل قذر، وسخ لا يعرف النظافة ولا الوضوء ولا الصلاة ولا يملك حدودا لأي شيء يضربني بقسوة من أجل تنفيذ نزواته إنه رجل مجنون، لقد قضيت معه أسوأ أيام حياتي أيام مظلمة أذكر عندما كنت أدخل في فراشي أنا الأخيرة وفي ساعة متأخرة من الليل وفي الصباح أصحوا أنا الأولى من أجل الطبخ والغسل والتنظيف وهذا كله من أجل إرضائهم بشتى الطرق وهنا أصبحت مثل العبدة بينهم وأكثر من الخادمة هم يأمرون وأنا أنفذ 
( تحمل عصى ملقى على الأرض وتمثل به كأنها تكنس الأرض )
 أتذكر جيدا ذلك النهار الذي كنت أكنس الحوش في الصباح الباكر وعندما رفعت رأسي فجأت 
 رمقت وجها غريبا يراقبني من بعيد من فوق الحائط، إنه ابن الجيران عندما وقعت عينيا في عينيه ضحك معي وأشار لي برأســه لكي أقترب منه ولكني تظاهرت بعدم رؤيته ثم حمل حصى صغيرة ورماها باتجاهي وخاطبني بصوت خافت تعالي اقتربي مني أريد الحديث معك فقط لا تخافي فرميت تلك المكنسة وهربت ولسوء حظي التقيت مع والدة زوجي فدفعتها وكدت أوقعها على الأرض هي لم ترى ذلك الشاب ولكنها أحست بوجود شيء ما يحصل معي وفي اليوم الثاني أعاد نفس الفيلم الرومنسي معي لكنه هددني برمي نفسه إذا لم أقترب منه وأكلمه فقدت صوابي وصرخت بصوت مرتفع طالبة النجدة وياليتني لم أصرخ لقد سمعوني وخرجوا كلهم من غرفهم مسرعين وسألوني عما يحدث معي، لقد كنت منهارة وخائفة معا فأخبرتهم بالحقيقة دون إخفاء كلمة منها أخبرتهم أن ابن الجيران يتحرش بي ويراقبني يوميا ويا ليتني لم أتكلم لأني لفقت حبل الإعــدام على رقبتي وسمحت لهم بإعدامي لم يصدقوني بل زادوا في اتهامي بتطليخ شرفهم وكرامتهم وصرت أسمع أصوات مرتفعة وصراخ كلها تأنيب ولوم وصراخ حتى أني هربت إلى غرفتي وكان ذلك اليوم هو الأخير عندهم لقد جمعوا لي كل ملابسي وأعادوني عند أهلي مع إسماعي كلمة أنت طالق وأنت لا تصلحين أن تكون فردا من عائلتنا، وعندما فتحت عيوني من جديد وجدت كأني أعيش في الظلم القديم أبي يضع يديه على رأسه ويتحسر ويسمعني تحسرهُ، أما أخي فيكس الأواني تارة وتارة أخرى يجبر والديا على الاختيار على من يبقى في البيت أنا أم هو ثم خرج   من المنزل مزعوجا وأمي تضرب نفسها وتلطم وجهها خائفة من كلام الجيران والعائلة أذكر جيدا عندما قالت لأبي ماذا فعلت حتى تطلق ابنتي بهذا الشكل، وأنا كنت مثل الجمهور صامتة أشبه المتلقي في صالة العرض أنظر يمينا وشمالا أنصت لكل واحد منهم عندما يصرخ ويعبر عما بداخله في وجهي دون أن أحرك ساكنا وفي نفس الوقت كنت أتذكر وجه ذلك الشاب ابن الجيران الذي لعب بمصيري وألصق تهمة الخيانة فيا حتى فقدت صوابي ووعي وعندما استيقظت بعد عدة ساعات وجدت نفسي ملقاة على فراشي نصفي مغطى والنصف الأخر لا، والبيت يسوده الهدوء كأن شيء لم يحدث وهكذا استغليت الفرصة وخرجت للشارع نعم هربت لأعيش عنفا جديدا مغايرا للأول والثاني.

( تجلس على الأرض وتضع   يديها فوق رجليها وتطأطأ رأسها وتبدأ في البكاء ويصاحبه موسيقى حزينة وتنقص الإضاءة حتى تصبح شبه منعدمة يظهر وجهها الحزين فقط وبعد لحظات تزداد الإضاءة مرة أخرى لتعم كافة الركح المسرحي ).
        لقد أصبحت الآن في الشارع 
( تشير إلى المكان الذي تعيش فيه )
 أنظروا هذا هو البيت الجديد 
( تنظر يمينا وشمالا ) 
ما به الشارع أليس أحسن من ظلمي أخي وقهري زوجي لي وتعامله السيئ معي، على الأقل أنا لا أراهم الآن وإذا ظلمني أحدهم في الشارع أكتم ذلك الظلم بحجة أنه لا يقربني 
( تسكت وتفكر قليلا ) 
لقد نمت على الرصيف وتسولت من أجل الحصول على المال وأكلت من القمامة وبعدها أصبح المارة يتعودون على وجهي ووجودي معا في الشارع وبدأ ناقـوس الخطر يدق ثم يدق فأصبح الرجال يتهافتون ويتسابقون من أجل جسدي وكلما أودع عنفا في حياتي أحس أني حققت انتصارات رغم الهزيمة التي تكسوني من رأسي حتى قدميا، هزيمة توصلني إلى الباب الانتحار مرات عديدة، وأصبح وجودي في الشارع يشبه وجودي في سوق الجواري قديما والكل أصبح يتقن لغة جسدي، لقد أبدعوا وتفننوا في أذيتي وهنا شطبت من قائمة النساء ونسبت لقائمة الفاجرات والعاهرات أبيع جسدي بمبلغ رخيس وبخس من أجل شراء لقمة، ومرات عديدة أهديه للرجال بلا مقابل، حتى جاء اليوم الذي أحسست فيه بأني حامل   (تجلس على الأرض وتبدأ في أكل بعض الخبز اليابس وتكمل الحديث ) نعم حامل من الشارع دون معرفة من هو والده لأني أقمت علاقات كثيرة وتحصلت على طفل لقيط لا يعرف هو ولا أعرف أنا من هو أبوه 
( تضع يديها على بطنها ) 
لقد بدأت أحس به إنه يتحرك في داخلي ( تنظر للجمهور بنظرات غريبة وبصوت مرتفع ) ولكن كيف سأربيه وأعطيه اسم من كيف أحافظ عليه في ظلمات هذا الشارع الذي أعيش فيه فقررت رميه مثلما رمى الأخريات حملهم في الأكياس البلاستيكيــة أو داخل القمامات، لقد تكررت مرارا هذه العملية والناس يسرعون في التقاط صور ذلك الرضيع وإطلاقها في مختلف شبكات التواصل الاجتماعي مع بعض التعليقات واللوم اتجاه صاحبة الفعلة 
( تغير نبرة صوتها وتنظر إلى الأرض )
 لقد حاولت إجهاضه ولكن أحدهم لم يساعدني، للأسف لم أملك المال الكافي لتلك العملية والنقود التي أجمعها من التسول أسد بها جوعي، ثم فاتت شهور وشهور وبدأ بطني ينتفخ وحملي يظهر للعيان حتى جاء موعد ولادتي ( تحمل شيء ما من الأرض وتلقه في كيس بلاستيكي ) فأنجبته ووضعته في هذا الكيس ورميته في القمامة لعل أحدا يراه، ويسلمه للشرطة ليضعوه في قرية الأطفال بدلا من هذا الشارعّ، لقد فعلت ما وعدت به نفسي في الأول، لم يكن لديا حل آخر هذا ما ساعدني في مصيبتي، أنا الآن في وضع سيء وألوم زوجي وألوم الشارع أيضا لأنهم فعلوا بي الأكثر من المتوقع حتى دخلت دوامة الجنون، ومرات عندما أعيد التفكيـر في ماضيا أبدو كأني مجرمة يقذفني الناس بالشتائم والنظرات الظالمة، لقد أصبحت مذبوحة من الشريان إلى الشريان.
           دمروا إنسانيتي وأدميتي معا، فقدت ثقتي بنفسي وأصبحت لا أشعر بالأمان، تدهورت صحتي صرت لا أعرف طعم النوم وأشم رائحة الموت، أما أنوثتي اجتاحها أشباه الرجال وأصابني الاكتئاب والإحباط والعزلة معا، تغير سلوكي وأصبحت عنيفة جدا وشخصيتي مهزوزة ومقهورة من الداخل وأشك حتى في ظلي 
( تنظر إلى الخلف كأنها سمعة صوتا أو رأت شبحا ثم تصرخ وتتكلم بغضب ) 
يا من سرقتم حياتي  وسرقتم الفرحة التي كانت تسكن قلبي والأنوثة التي كانت تسكن جسدي لماذا فعلتم بي هذا، من سيعصمني من ظلم البشر حتى أني صرت أسمع أنين الحزن بداخلي، أنا الآن أبكي بسبب الأيام التي صدمتني، جسمي أصبح هيكل غريب كلهم داسـوا على شعوري وعلى أنوثتي بأرجلهم القذرة ألا تخافون من الله ألا تخافون من حسابه وعقابه، ( تهدأ قليلا ) ولكي أخفف عن نفسي من ذلك العذاب كنت أمزج الخيال مع الواقع حتى جاء يوم وأصبحت أعيش يومي كله خيال في خيال، لقد اتهمت كثيرا بماذا أجيب التهم كل يوم تلاحقني، هكذا في الأيام تمضي أيامي، والآن من ألوم يا ترى، ألوم الأقدار التي دفنت أنوثتي وسط الفحم أم البشر الذين استغلوا حالتي وضعفي، وبسبب كل ما حصل معي أصبحت أرى أشباح الموت وخطايا ثقيلة جدا كأني أجر سلاسل العبيد في رجليا ووجهي  أصفر ثم أسود من شدة القهر والغضب.
( تنام على الأرض وتغطي جسمها بقماش ممزق وتبدأ في البكاء والإضاءة مسلطة عليها فقط مع موسيقى حزينة وبعد لحظات تبدأ الإضاءة في التوسع مرة أخرى ثم تنهض وكأنها كانت نائمة )
 أتعرفون السجن، حتى السجن جربته بعدما تعرض لي شاب قذر في إحدى الليالي وقمت في طعنه ثم غيرت رأي ونحرته لأخرج فيه كامل الظلم الذي أصابني، آخر جريمة كنت أتوقعها هي أن أذبح  رجل ومن ثم يموت 
( تضحك بشدة )   
     أنا مجرمة  لا اصدق هذا  (تضحك مرة ثانية) أنا قاتلة أتعرفون إحساسي حينها لقد كان إحساس جميل انتابني في لحظة غضب وأحسست كأني انتصرت على الشارع الذي كنت أظلم فيه كل ليلة، بعدما كنت لا أقتل ولو ذبابة قتلت رجلا كاملا روحا كاملة، لقد استمتعت بتلك اللحظة التي كانت تخرج فيها روحه لقد عانا قليلا وتمتم  ببعض الكلمات الغير مفهومة ثم أغلق عينيه وذهب إلى العالم الآخر، لقد مات أمامي وبسكيني، فرحت ثم فرحت، فرحت كثيرا عندما أفرغت   تلك الشحنة السلبية التي كانت تستوطنني وتعذبني كل يوم، هذا هو جزائه نعم هذا جزاء كل من يتعرض لي ولكني للأسف دفعت ثمن فعلتي هذه وسكنت السجن وفي مقابل هذا ودعت ظلما وجربت ظلما آخر وهو السجن النساء، أذكر عندما أخذتني الشرطة لم تغيب الابتسامة عن وجهي وخاصة عند وقوفي أمام القاضي لم أكترث  لمدة حكمي لأني كنت مقتنعة بفعلتي لأنها ليست إلا دفاعا عن نفسي، لقد سئمت من الإهانات والمضايقات وكلامهم الجارح فقلت لنفسي لماذا لا أجرب أنا أذية الناس لماذا لا أدافع عن جسدي وكرامتي لماذا هم دائما ولست أنا 
( تبقى تدور على الخشبة كأنها تبحث عن شيء ما مع موسيقى تشبه دقات القلب ثم تجلب صندوق من وراء القمامة وتجلس عليه ) 
أذكر جيدا أول يوم لي في ذلك السجن إنه سجن النساء الممتلئ بمختلف الأشكال والأعمار مليء بالمجرمات والمظلومات التي ساقتهم الأقدار إليه، لقد دخلت عليهم فجأة فلمحوا سجينة جديدة انضمت إليهم والكل كان ينظر إليا بنظرة غريبة توحي بعدة تساؤلات كأنهم يريدون معرفة من أكون وكم عمري وما هي تهمتي وكم عام سوف أقضي معهم حتى اقتربت مني إحداهن تبدوا كأنها زعيمة عصابة خفت منها في الأول لأن شكلها لا يبشر بالخير فابتسمت معي ودعتني للجلوس معهم وقتها نزعت ذلك الخوف الذي انتابني وبدأت أحكي لهم قصتي الطويلة والشيقة، قصتي منذ صغري حتى مكوثي في ذلك الشارع سواءا مع أخي أو والديا أو زوجي وأهله ولكنهم لم يخافوا مني لقد أقنعتهم 
( تصرخ وتتكلم بصوت عالي مجددا ) 
لأني لم أكذب عليهم هذا ما حصل معي بالفعل، لم أجرب في حياتي لا الأمان ولا الصدق ولا حتى الحنان، أنا لم أذق طعمهم قط، فقط رأيت الظلم والقلق والأوامر القاسية، هذا كل شيء يقال عن حالتي التي كرهتها وكرهت كل شيء معها، إن حياة السجن ليست بحياة الفنادق ولكنها على الأقل تحتوي على بعض الأمان الذي فقدته في الشارع، 
( تبحث في حاجياتها الملقاة على الأرض خلفها ثم تخرج سيجارة وعود الثقاب وتشعلها وتكمل حديثها ) 
لقد تعرفت لعدة فتيات سجينات معي منهم متزوجات والأخريات عازبات والفرق الوحيد بيني وبينهم هو أنهم يملكون من يزورهم بين الحين والآخر ليســوا مثلي أنا لا أبناء ولا أهل ولا أصحاب ولا جيران، لقد تبرأ الكل مني هجرت كل من أعرفهم غصبا عني وصرت وحيدة 
( تنظر للأعلى وتبدأ في العتاب ) 
لماذا يا دنيا رميتني لماذا رميتي بي في الهاوية فيما أخطأت حتى أعاقب هكذا لماذا أغلب الناس قلوبهم قاسية يحبون مصلحتهم ولا يفكرون في مشاعر الآخرين   
(تهدأ )
 لقد ارتكبت السجينات الأخريات جرائم مختلفة منهم من قتلت زوجها في الليل عندما يرجع كل يوم في ساعة متأخرة   سكران ويضربها بشدة فكرهت من الوضع وقامت بضربة على رأسه حتى مات من دون قصدها والأخرى اكتشف زوجها خيانتها له فقام بالإبلاغ عنها وسلب منها حضانة أولاده والثالثة كانت تبيع المخدرات لأنه لا دخل لها سوى هذا الشيء اللعين والرابعة سرقت حقيبة إحدى الفتيات لأنها لم تجد غير ذلك الحل أمام مرض والدتها وهكذا هي قصص الأخريات لأن بلادنا لم تعطينا فرص للعمل بل ضيقت علينا جميع الطرق ولم يجدوا إلا طريق الانحراف المهم أنه قد مضت تلك السنين وجاء يوم خروجي، لم أكن لوحدي انذاك   كنا مجموعة، هكذا انتهت مدة حكمي وخرجت للشارع من جديد، أنا وبعض النزيلات كلهم وجدوا من ينتظرهم إلا أنا 
( تبكي بحرقة ) 
لا أحد يسأل عني، لقد نسوني وأصبحت ميتة بالنسبة لهم، وقفت أمام الباب لأشاهد ذلك المشهد الحزين أمامي التي يعانقها أولادها والتي اصطحبها والديها والتي أخذتها أختها أما أنا فلا أحد عندما غادروا جميعا ذهبت لأبحث عن شارع يأويني لأن السنوات التي قضيتها في السجن محت لي بعض الأماكن والذكريات الحزينة فبدأت في المشي   بشكل عشوائي حتى وصلت إلى هذا المكان الذي أقف عليه الآن وجربت مهنة التسول مجددا، ولكن هذه المرة كانت معنوياتي جيدة اكتسبت البعض من الثقة بالنفس من زميلاتي في السجن أصبحت أحس بالتحسن قليلا الذي دفعني لمعالجة مشاكلي معالجة صحيحة 
( تشعل سيجارة ثانية ) 
حتى أني أصبحت أحكي مع بعض المارة منهم فتاة كانت تمشي لو حدها وتبكي وأنا أراقبها من بعيد حتى وصلت عندي وكأنها مريضة فطلبت منها الجلوس بقربي والارتياح قليلا وقدمت لها البعض من الماء وبعد لحظات مسحت دموعها وهدأت قليلا فأصابني الفضول لمعرفة مشكلتها فتجرأت على سؤالها فردت بأنها حزينة فقلت لها لماذا ماذا أصابك قالت لي حديث العرافات، لم أفهمها في الأول فطلبت منها التفسير فأجابتني بأنها كانت عند العرافة من أجل كشف أسرار حبيبها، فنصحتها عن هذه العادة السيئة فأجابتني بأنه يتردد على قلبها هكذا أصبحت هي تتردد على العرافات لمعرفة أخباره ولكن للأسف كلما تغير العرافة تسمع كلام جديد ومغاير للأول الذي سمعته في المرة الماضية، هذا هو حال النساء كلما جرحهن رجل أو تعلقن به يقصدنا العرافات للتخفيف من معانتهن، لقد تكلمت معها مطولا واكتشفت أنها تعرفت  على شاب لمدة شهر  وعندما قررا اللقاء ذهبا مسرعين لبعضهما وبعد ذلك الموعد المشئوم تجاهلها وانقطعت أخباره من دون سبب، هذا ما أثار جنونها وهلوستها، لماذا اختفى وكأنه حلم وهي متعلقة به أشد التعلق، لا تريد ولا تستطيع نسيانه لقد جربت عدة مرات ولم تنجح تنساه نصف نهار فقط، وتتخيله وتحاوره كأنه أمامها، الدنيا غريبة جدا فيها الكثير من المفاجآت، وعندما سألتها عن سبب ذلك الحزن أجابتني بأنها ليست مرتاحة مع أهلها، هذا ما أوقعها في حبه، وهنا اكتشفت سرا خطيرا كانت تخفيه عني، إنها تتعرض للعنف الأسري الذي تعرضت أنا له الأسرة أحيانا تقسوا على الفتاة متجاهلة مشاعرها أو  طاقتها على التحمل، لا يهمها إن خرجت من المنزل أو أين ستعيش، كيف تدافع عن نفسها، لا أدري لما أغلب البشرية أصبحت عدوانية هكذا إنه شيء مؤسف ومحير، هناك من كان يتيما وتكفلت به عائلة ما وعاش مثل الأمير بينهم وهناك من تعيش مع أهلها عيشة العبدة في القرون القديمة، بحيث تعاني شتى أنواع التجاهل والمشاكل ونقص الحنان، ماذا نفعل إنهم أناس يعانون من نقص المشاعر ويحتقرون الأقرب إليهم وبعد رحيل تلك الفتاة التي كنت  أتذكرها بين الحين والآخر وأسأئل نفسي ترى كيف حالها هل رجع لها أم نساها، أم لا زالت تبحث عنه، إنها مشكلة حقا كبيرة وعويصة والأغرب فيها أنها متعلقة بما ليس ملكها ( تشعل سيجارة أخرى ) كل الفتيات على حسب معرفتي يقع لهن المشاكل هذه ليست بمشكلة، المشكلة الحقيقية والكبرى هي كيفية تخطيها ومعالجتها، لأنه هناك من تملك الثقة بالنفس والقدرة على التحمل والحيلة الكافية، وهناك من تنهار في بضع دقائق وتفقد صوابها، المهم أنا لا أسخر منها أو أعاتبها ولكني أشفقت عليها وأخاف أن أصادفها يوما ما في الشارع أو يحل بها ما أصابني يكفي أني جربت حياة الشارع ولا أتمناها لأحد لأن الفتاة عندما تعاني المشاكل تضنه  المخلص لها ناسية بأنه جهنم بعينها بحيث تصبح ملكا للناس وأنا أعني وأقصد جسدها بطبيعة الحال 
( تصمت وتفكر قليلا ثم تقوم وتبحث عن قارورة ماء وتشرب قليلا )
 أتذكر أيضا أني تعرفت على فتاة أخرى قبل هذه الفتاة ولكن قصتها مغايرة، تبادلنا أطراف الحديث فسألتها عن سبب عدم زواجها فأجابتني   
(تضحك وتقلد صوتها وحركاتها ) 
أنا صعبة جدا وحتى تفكيري، أنوثتي تريد رجل مجنون متمرد لا يعرف الحدود، أخاف الزواج كثيرا ما أدراني ربما لا يعجبني وأطلقه، لا لن أتسرع في هذه الخطوة أريد من يفهمني 
( تضحك عليها ثم تكمل ) 
عجبا للفتيات كل واحدة تحمل في داخلها كارثة عظمى ضانين بأنهم على حق، أما الفتاة التي إلتقيتها قبلها، فهي تشتغل خادمة في إحدى البيوت، أتذكر جيدا عندما كنت أفتش القمامة لأبحث عن شيء أكله خرجت هي من المنزل الذي تشتغل فيه تحمل كيسا في يدها تريد أن ترميه أنا لم أنتبه لوجودها حتى سمعت صوت من خلفي يطلب مني الابتعاد قليلا وعندما التفت خلفي وجدت أنثى حزينة ملامحها كلها حزن وفي فمها كلام تنتظر الشخص المناسب لتبوح به لأنه على حسب علمي كان يزعجها ويضايقها.

فطلبت منها بعض الطعام لأني كنت جائعة حقا فعرضت عليها الدخول لأن صاحب المنزل وزوجته في العمل، وهي لوحدها فوافقت ودخلت ويا ليتني لم أدخل، جلسنا في المطبخ وبدأت تحكي لي معاناتها مع لعنة الحب التي أصابتها منذ دخولها في ذلك المنزل، ومأساتها الكبرى أنها أصيبت بلعنة العشق مع صاحبه وهو متزوج ولديه أولاد ولا تستطيع نزعه لا من قلبها ولا من تفكيرها مهما حاولت وعندما كانت تحكي لي أحسست بأني طبيب نفسي يقابلها وهي تخرج الشحنات السلبية التي بداخلها لعلي أجد لها حل أو دواء أو مخرج سلمي وعندما طلبت منها توقيف عملها لدى هذه العائلة رفضت لأنه بالنسبة لها ليس بالأمر الهين، حتى أنها أدخلتني إلى غرفة نومه وأخبرتني أنها تلبس ملابس زوجته في غيابها وتتخيل نفسها سيدة المنزل، لقد خرجت من عندها منزعجة لأني لم أجد نصيحة أتبرع بها حتى أخفف عنها ولو القليل، وبعد حديث مطول معها اكتشفت أيضا أنها تعاني العنف اللفظي والجسدي من طرف زوجة والدها وتختبأ في هذا المنزل وتعيش معظم يومها بين الأوهام والأحلام حتى لا تتذكر ما يؤلمها وهنا عرفت  بأنه معظم الإيناث تتعرض للعنف والإجهاد النفسي ولكن هناك من تتحمل وتصبر وهناك من تهرب حتى لا تجن أو تموت 
(ترفع رأسها إلى الأعلى كأنها تسأل أحد )
 إلى متى يا ترى إلى متى نبقى نعاني من هذا الاحتقار من سيدافع عنا من يرحمنا ويعطينا حقوقنا حتى يتوقف الجميع عن أذيتنا إنها لعنة غجرية أصابت الايناث من قديم الزمان ولم يجدوا لها حلا ولا دواء  رغم محاولاتهم والتفكير فيها، أجل. لأن الايناث أرهف شيء موجود على هذا الكون، شئتم أم أبيتم هذه حقيقة وليست كذبة.                    

ستار

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق