مجلة الفنون المسرحية
رسالة اليوم العربي للمسرح 10 يناير 2019 للفنان الجزائري سيد أحمد أقومي المسرح الذي أريد ..
جئت إلى المسرح لأنه كان حلمي، المسرح هو فن الوهم الذي يؤازر الحقيقة و يقف في وجه الأكاذيب.
جئت إلى المسرح حين أدركت أن الخيال يستطيع أن يغير الواقع.
حين كان التاريخ دجلاً، أردت أن أعتلي الخشبة لأقول الحقيقة. لم يكن المسرح بالنسبة لي قناعة فكرية فقط، بل كان إيماناً يلامس الروح، كنت أحمل جمرة المسرح بغبطةِ و فرحِ من يحمل أغلى”كوهينور“(KOHINOOR) (ماسة) في العالم، المسرح عندي درب سري مدهش قادني إلى ماهيتي، إلى كينونتي الحقيقية؛ لم أكن أمثل، كلا أبداً، كنت أعيش، أعيش أسئلتي، عزلتي، حيرتي، دهشتي، تمردي، ثورتي، عذاباتي، فرحي، انسانيتي؛ كنت أنهمر على الخشبة بكل كياني و كان المسرح هو الخلاص.
جئت الى المسرح حين”كان الليل يخاف من النهار”.
دخلته في الزمن المناسب.
عشته مع فنانين استثنائيين..
دخلت تفاصيل حلمي الذي بدأ في سن السادسة، كان حلمي الوحيد أن أكون ممثلا مسرحيا لا غير.
كان المرحوم “محمد بوديا[1]“ينظر إلي باندهاش ويقول : كيف لشاب فنان ومثقف مثلك ألا يدخل معترك السياسة ؟ ! كنت اضحك وأجيبه:”لقد كذبت على أبي حين وعدته – من أجل أن يتركني في الحضرة المقدسة للمسرح – أن أكون سفيراً أومحامياً أوطبيباً لكنني أبداً لم أعده أن أكون سياسيا”.
وقد كنت على الخشبة سفيراً للحلم الإنساني و محامياً لكل القضايا العادلة وطبيباً يحاول أن يجد دواءً للحماقة البشرية.
سأعود إلى بدايات هذا الحلم، إلى بدايات المسرح في الجزائر…
بعد زيارات الفرق المسرحية العربية المتكررة للجزائر خلال فترة الاستعمار الفرنسي، اكتشفت النخبة الوطنية أن هذا الفن خطير وفعال، يمكنه أن يغير و يخلق لدى الجمهور وعياً سياسياً. لذا تأسست الفرق المسرحية والجمعيات، و كان هدف هذا التأسيس هو تكريس وعي وطني من أجل تحرير الجزائر؛ من هذه الفرق الفرقة الفنية لجبهة التحريرالوطني التى تأسست بتونس و التي كان يشرف عليها أستاذي المرحوم مصطفى كاتب.
ولقد استمر هذا النهج بعد الاستقلال وهو خدمة القضايا الوطنية و كل قضايا الشعوب التي تسعى الى التحرر من كل أنواع الهيمنة؛ في هذا السياق , أرى انه على الفنان المسرحي الحقيقي، كي لا يكون أداة دعائية , الاحتفاظ بشعلة الإبداع لديه و الابتعاد عن التسطيح .
إن المسرحي المسكون بالتمرد هو دائم الانخراط في القضايا الإنسانية. إنه اللامنتمي بامتياز، والمنتمي بامتياز أيضا للحق و الخير و الجمال؛ ذلك أن المسرح ليس بياناتٍ سياسيةً أو شعاراتٍ فارغةً أو خطبَ جوفاء.
إذا أصبح المسرحي في خدمة هذا النوع من المواضيع، فما عليه، إلا مغادرة بناية المسرح و حملَ الأبواق و الاتجاه إلى مقرات الأحزاب و التجمعات السياسية، و ليعلن موته هناك.
إننا نتقاسم مع السياسيين أحيانا نفس الفضاءات و نتوجه لنفس الجمهور، ومثلهم نطمح للتأثير على المتلقي، لكن الفرق شاسع بيننا.
قد يقول البعض إن شكسبير نفسه كان يهتم بالسياسة، هذا صحيح، لكنه لم يكن سياسيا، لقد كان فنانا مبدعا عملاقا، وتأتي إشاراته السياسية في ثنايا مسرحياته بذكاء ودهاء كبيرين، ولم تكن مسرحياته غارقة في السياسة والايدولوجيا.
يريد منا السياسيون أن نكون همزة وصل …
لقد قالها لنا ذات يوم الرئيس الراحل هواري بومدين”أريدكم ان تكونوا همزة وصل بين القمة والقاعدة”
عفوا أيها الحضور الكريم، المسرحي الحقيقي لا يمكن أبدا أن يكون جسراً أو بوقاً أو همزة وصل،
إنه صوت الحقيقة وضمير الأمة،عليه أن يحمل بأمانة الرسالة”ليكون رسولا و ليس عبدا مأجورا”الرسالة التي وجد من أجلها المسرح، ألا وهي خدمة قضايا الإنسان، وعليه أن يجعل أي فضاء يتحرك فيه حدثاً مسرحيا يشجع على التفكير والمساءلة و النقد.
يتحدث الكثير من المثقفين و الإعلاميين و السياسيين ضد العنف اللفظي والبدني الممارس على بعض الفئات و الأفراد، لكنهم يتناسون او يتجاهلون العنف الذي مورس و يمارس منذ زمن طويل على الفنان المسرحي، و الذي- للأسف الشديد – لم يصنف بعد كمبدع للقيم الجمالية، و إنما استُهجِنَ فنُّه بتصنيفه كمهرج – مضحك – عجاجبي.
هذا التصنيف ظل مكرساً في اللاوعي الجمعي إلى يومنا هذا، و لهذا ظل الفنان المسرحي في أدني المراتب الاجتماعية.
لقد تنازلت عن لقبي و اخترت اسما مستعاراً”سيد احمد أقومي”من أجل المسرح و المسرح فقط، فالمسرح كينونتي، وهويتى التى أعتز بها حيثما أكون. وحتى حين أكون في المنفى، فإن لي في كل بناية مسرحٍ وطناً، و في كل خشبة أقف عليها حبل سري يجمعني بأخي الإنسان.
وإذا كان المسرح الإغريقي قد بنى فلسفته على مبدأ الصراع بين البشر والآلهة، فعلينا نحن كمسرحيين عرب في هذا الزمن الشائك أن نوظف فننا السامي لخدمة مجتمعاتنا، وذلك بإرشاد المتلقي إلى منابع الفهم و الحكمة ومن أجل التغيير، التغيير الذي لا يكون بالوقوف ضد أشباه الآلهة فوق هذه الأرض فقط، ولكن من أجل ذلك التغيير الذي يصنع منا متمردين حتى النخاع، تمرد الفهم المقدس الذي يعرف الكثير عن الأعالي و الأعماق، وليس مجرد ثوريين سطحيين.
تلك هي رسالة المسرح..
وهذا هو المسرح الذي أريد..
شكراً للهيئة العربية للمسرح على هذا التكريم الذي أسعدني كثيراً، إنه تكريم للمسرح الجزائري العريق، وهو أيضاً تكريم للشهيدين الكبيرين علولة[2] و مجوبي[3].
شكراً لأنكم جعلتموني استحضر في هذه اللحظة أصدقائي وزملائي الذين رحلوا، وصنعوا من مسيرتهم مناراتٍ نهتدي بها كلما حاصرتنا الظلمات والعواصف.
شكراً لسمو الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي لدعمه المستمر للمسرح، ذلك لأنه يدرك أن المسرح يبني ما يعجز عنه السياسيون.
و”سيبقى المسرح ما بقيت الحياة[4]“
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق