مجلة الفنون المسرحية
مسرحية ذات فصل واحد
الشخصيات
1- الدفان
2- سقراط
المشهد
الأول
المنظر:
كهف يغلب عليه الظلام
.. ضوء مصدره أشعة الشمس أو نار متوهجة تتغلغل من خلال فتحة في الجهة الأخرى للكهف,
ما بين مصدر الضوء والجدار المقابل له يمر
أشخاص على هيئات مختلفة وبعض الدواب لترتسم
على جدران الكهف ظل لتلك الأشياء .أصوات تتزامن مع حركة الظل المحدث على الجدران
. سجناء قد قيدت أرجلهم وأعناقهم بأغلال إذ
تعوقهم تلك الأغلال عن الحركة بحيث تكون أعينهم شاخصة نحو جدران الكهف الذي تنعكس
ظلال الأشياء بسبب الضوء المسلط من الجهة الأخرى .
سقراط أحد السجناء
الذي تخفى ملامح وجهه كثافة شعر رأسه ولحيته وهو مقيد بسلاسل تعيقه الحركة بسهولة
, يحدق سقراط إلى الظل مبتسما فيحاول أن يرقص مع حركة الظل وكأنه يمارس بعض الطقوس
والعادات معه..عندها ينقطع الضوء فيختفي الظل المحدث على الجدران مما يزيد السجناء
و سقراط ذعرا والجميع يبحث عن الظل .
سقراط : أين
ذهبت ؟ لماذا تتركني بين الحين والأخر و تذهب ؟لماذا تجعل الشك يدب إلى عقلي وعندها
توسوس لي أشياء كثيرة بأنك أضعف من هذا الجدران ولا تملك القوة والإرادة بالبقاء,أما
ذلك الضوء فهو من يخلق فيك الوجود.
(يجلس بحالة من الضعف بزاوية من
الكوخ وهو يترقب ذلك الظل)
سقراط :
نحن
معلقون ما بين الحياة والموت نتشبث بهذه الأشياء حتى يكون هناك سلم يصلنا إلى تلك النقطة
المخيفة. (
يحاول سقراط يزحف باتجاه مصدر الضوء عندها تنبعث حزمة شديدة من الضوء فيصرخ سقراط لعدم
قدرته النظر إلى شدة الضوء فيتراجع خائفا إلى الزاوية التي كان جالس فيها )
سقراط:
كلما أقترب نحو تلك النقطة أشعر أن جسدي يصبح
قطعة متفحمة ولا قدرة لي على النظر إليها حيث أشعر أن خلفها عالم كبير يحترق . (يهدأ
سقراط قليلا ويحدق إلى حجرين و يمسك بهما ويضرب حجر بحجر فيحدث صوت أولي ومن ثم يحدث صدى
مدوي بالكوخ)
سقراط :
(يرتد الصوت) : تبا لما أنا فيه فأنا أقف بين
نقيضين حقيقة ألمسها وظل وصدا أجهله شيئان أحداهما ينسلخ من الأخر .أهذا الحجر هو
الحقيقة أم ذاك الصوت المدوي ؟؟ أأنا الحقيقة أم ذاك الظل المرتسم على جدران الكهف
؟؟
(يهدأ سقراط ) :هل تشعر تلك الجدران بالتعاسة وهي ترسم عليها مجرد صور؟؟ أم
ذلك الصوت سيخرس لأن قيمته من تلك الحجرين .
سقراط:
أيتها الريح أطفئي النار المنبعثة من تلك النقطة والتي تعكس من خلالها
صور صامتة لشخوص وأشكال تكمن وراءها حقيقة نجهلها .تلك النقطة هي المنفذ الوحيد
الذي أطل من خلاله إلى الحقيقة .
(أنارة)
المشهد
الثاني
المنظر : قبور مبعثرة يتوسطها قبر يرجع إلى تأريخ قديم لم
يبقى من الكتابة التعريفية للقبر سوى تأريخ يرجع إلى ألف سنة..يخرج سقراط من
الحفرة بصورة تتدريجية وهو يحدق بصعوبة إلى الضوء يتفحص المكان يلتفت نحو الجدران
ويحاول أن يبحث عن الظل فلا يجده يذهب نحو الحفرة ويصرخ بداخلها فلا يرتد صوته
ويعاود ذلك عدة مرات .
سقراط : أكان كل شيء في الكهف مجرد وهم ؟؟ (يذهب
للجدران) :أين أنت؟ وأي حقيقة كنت تخفيها ؟ فلقد ذبحنا لك القرابين وبذخنا في العطاء والنذور
كدنا أن نعبدك وأنت مجرد ظل لحقيقة حسنة أو قبيحة . (يجلس بالحفرة ويترقب ما يحدث
حوله)
(يدخل ميت يرتدي كفن
مهرولاً خائف يحاول أن يلوذ بالقبور بعدها يخرج مـــــــن الجهــــــــة الأخرى..
يدخل رجل في الخمسين من عمره وهو يحمل معول يفتش عــــــن الرجل الـــــــــذي
يرتدي الكفن)
الدفان :
الشيء الوحيد المتبقي
لك في هذا العالم أنا .أهلك قد ذهبوا..أحبتك في عالـــــم جديد غير عالمـك انشغلوا..ما
كنزت من ذهب وماس عليه اختلفوا..تعالـــى بيـــن أحضاني طفل مدللاً أداعبـــــه
. :لا أثر له هل تسابقت معي
الأرض وابتلعته ؟ أين
أنت أيها الشقي ؟
سأتبعك من هذه الناحية وسأجدك ترتجف
من شدة البرد عنــــدها ستتوسل بي وتقبــــــل يــــــدي وقدمي ..لكني سأرفض
ذلك..فأنا لا أحب أحداً يقف أمام ذليلاً ..خائفاً..منكسـراً (يخرج الدفان .. يحاول سقراط أن
ينهض بحذر شديد وهو يحدق إلــى أثــر الدفــــان لكن سرعان ما يسمع صوت يقتــــرب
نحــــوه فيرجع مسرعا فيتفاجئ بالميت فيحدق كل منهما إلى الأخر ويصرخا فيحتمي كل
منهما إلى قبر.. يدخل بعد ذلك الدفان وهو يلهث من شدة التعب ..يجلــــس على القبـــر
الذي يحتمي به سقراط فيســــترد أنفاسه وبعدها ينظر للميت مبسماً حيث يكظم غيظه
..الميت يشير إلى الدفان بما يحتمي خلف القبر)
الدفان :
لا تقلق أعلم جيدا بأن لك منزلة رفيعة في
قومك..لا..لا تخشى شيء فأني قد تحدثت معهما فأن لي عندهما مكانه رفيعة كما أنت في
قومك فحتى ضغطة القبر فقد تعهدوا لي أنك ستعفى منها (يحاول الميت أن يوصل إلى
الدفان ما يختبئ خلف القبر)
الدفان :
لقد جهزت لك حفرت واسعة تتحرك فيها كيفما تشاء..تتوسد
فيها يميناً وشمالاً كيفما يحلــوا لك ..ضع ساقاً على ساق..سأجعلها تتســـــــع لشخص
أخر يتسامر معك ويأنس وحشتك ..أنه شيئــاً جميل أن يكون لك صديق فــي عالمك
الأخروي..
(مصر الميت على أخبار الدفان ما يخفى خلف القبر) : لا يوجد شيء مخيف
هنا فهذه المقبرة بيتي الذي ألوذ إليه..أطمئن.. سأجعل لك نافذة تطل فيها على مناظر
خلابة..أشعر أنه قد استجاب إلى هذا العرض المذهـــــل. ها ماذا قلت؟
(ينهض الدفان وهو
يحدق إلى الميت مبتسماً..فينهض الميت وهو يحدق إلى الدفـان خائفاً.بعدها يجلس
الدفان فيجلس الميت)
الدفان :
سأتعامل مع جسدك
بغاية اللطف والرقة..سأنزلك بهدوء ولا أهيل عليك التراب حتى يطمئــــــن قلبك.
ها
ماذا قلت ؟ لا تخف ..هات يدك وسأكون لك صديق حميم.
(يقترب الدفان من
الميت فيتراجع الأخر إلى الخلف ..يهرب الميت فيتبعه الدفـــان)
سقراط:
أنه تلميذي أفلاطون
وأنها حقيقة الدولة الفاضلة التي يبحث عنها ,أي عالم جميل هذا ...أي قلب طيب يحمله
هذا الرجل...أنه يتعامل مع الميت
وكأنــــــــــه طفل مدلل..يحفر له حفرة بمقاسه وينزله بهدوء .. أذن هذه هي
الحقيقة وليس الظل هي الحقيقة وليس الصدى هذا الرجل هو الحقيقة .لا يوجد بعد الآن
ظل فلقد تلاشت كل الصور ولا مكان هنا ألا للحقيقة
(يسمع سقراط صوت يدنو
نحوه فيرجع للقبر يحتمي فيه..يدخل الدفان وهو لم يحمل معوله يبحث عن الميت الذي
يرتدي كفن)
الدفان :
أين أنت
يا..يا..يا.......بأي صفة أناديه ؟
لو نادية بالرجل
الميت لخرجت لي جميع الأموات من قبورها.
أعلم أنه لا يجتاز في
حركته سور المقبرة ..ربما أنه يتخفى خلف قبر ما وأنــــــــــه يسمعنـــــي ويصغي
إلي . :ستدور وتدور وفي نهاية المطاف تقــــع بين يـــــــديً
عندهــــــــا س..س..سأضمــــك نحـــــو صدري.
(يخرج
الدفان ..يدخل الميت الذي يرتدي الكفن وهو يحمل المعــــــول ويحــــــدق يميناً
وشمالاً بحذر وهو يفتش بين القبور )
سقراط :
كنت أتعامل مع الظل بأنه القوي العزيز ولا توجد
أرادة أقوى من نقطة الضوء لكن شعرت وأنا أحدق إلى هـــــــذا الرجــــــــل الطيب
بشيء من الطمأنينة (يقف
كل من الميت وسقراط مقابل الأخر ويصرخا فيهرب الميت بعد أن رمى المعول ..سقراط
يحدق إلى المعول.
سقراط :
الحقيقة تكمن في هذا المعول .(يذهب سقراط خلف
الحفرة وهو يترقب ما يدور حوله)
(..يدخـــل الدفان
وهو ممسك الميت ذو الكفن من رقبته ويسحبه بقوة ويحدق إلى المعول بابتسامة عريضة)
الدفان : معولي الجميل الذي أعول عليه في شدتي فهو الوحيد الذي يخفي
الحقيقة التي يفر منها المرء من أهله وصحبه ويحاول التنصل منهم .)
الدفان :
وأخير وقعت بقبضتي
التي لا ترحـم..قــــد وعدتــــك بحفرة واسعــــة فرفضت ذلك ..وجعلـــت الحفرة تطل على مناظر خلابة فآبية ذلك وهربت ..ألا
تعلم بأني الشخص الوحيد الذي ســينزلك هذه الحفرة ..حدق في عيني جيداً حتى تزداد
رعباً..سأشدك من رجليك وأنزلك على قمـــــــــــة رأسك...أجلس هنا لكـــي أحفر لك
حفرة ليس كما وعدتك بل ستكون ضيقة لا تتسع لفأر صغيـر (يبد الدفان في الحفر) :
يوجد متسع لشخص أخر كما وعدتك سابقاً.بل الأفضل أن تكون لوحدك في الحفرة فأي شخص
خل كان أو خليلة زوجة تضاجعها أو حبيبة حتما سيكون لك مصـــــــدر إزعاج ويعكــــــــــر خلوتك...سأهيل عليك تراب ثقيلاً
كالجبــــل وبعدها أضع فوق الكم الهائل من التراب حجـــــر أسود سميك .. حتـــــــــى
لا يوسوس لك الشيطان بأن تستيقظ مرة أخرى وتبحث عن التفاحـــة التي جلبت لك كل هذه
المساوئ .
(يحدث ظل إلى الدفان وهو يقوم
بعملية الحفر..يحدق سقراط تارة إلى الظل وتارة آخرى إلى الدفان)
سقراط : أين تختبئ الحقيقية ؟؟ (يجلس سقراط خائفا )
الدفان:
لا تحدق إلى هكذا
أعلم أنها ضيقة لا تستطيع أن تتحرك فيها يميناً ولا شمــــالاً ولا تستطيع أن تمد
ساقيك ...لا تحزن أنا سأعالج ذلك ..
:هيا (يحاول الميت أن
يحدق إلى الحفرة بخوف)
: لا ..لا أنا الذي سيشدك من قدميك كما وعدتك .. هيا (يمانع
الميت الدفان وبعدها يمسكه ويبدأ بالسحب..أما سقراط فيزداد رعبا حيث يذهب باتجاه الظل تارة وتارة أخرى يحدق إلى
الدفان وهو يسحب بالميت)
الدفان: أشعر
بالسعادة عندما أسمعك تستغيث ..أصرخ بأعلى صوتــــــــك لا يسمعــــــــك حتى كلاب
المقبرة ...هيا (يحاول الميت أن يضع قدميه)..لا..لا رأسك أولاً.
(يدخله القبر..ويبدأ
الدفان بالضرب) :هذه الضربة ستجعلك في غيبوبة أبدية (يضربه
ضربة أخرى):وهذه الضربة عقاب لما اقترفـته بحقي من جهد بذلتـــه وأنا أتوســــــــل
بك..لا تخجل من شيء أطلب ما تريد قبل أن أهيل عليك التراب ..آه ..قدماك .. أعلم أنهمـــــــا طويلتان ..(يضربهما
بالمعول..أما سقراط يهرب من الظل ويحتمي بالحفرة)
:ها...أشعر أن ذلك
أفضل..أترغب بشيء أخر ؟؟..هذا جيد المهم أن لا تتحــــــــرك .
(يهيل الدفان التراب
على القبر.. يتعب ويلهث من الجهد الذي
بذله..فيجــــلس كــي يستريــــــح على قبر القديم ..يخرج سجل يؤشر فيه)
الدفان :
فلنترقب
الأتي القريب لكي ندون بياناته ومن ثم نهيأ له حفرة تليق به..لقد بذلت هــذا اليوم
جهــد كبير( ينام الدفان بقرب الحفرة التي يختبئ فيها سقراط ..يحاول سقراط أن
يتحدث مع الدفان بحذر ..يمد سقراط يده بهدوء حيث يمسك الدفان الذي يتهيأ له أنه في
كابـــــــــوس)
الدفان : لا..لا..أرجوك أن لا تجرني نحوك .لا أني أختنق أرجوك أن تعطينـــــي
فرصة واحدة .صحيح أني كنت معكم قاسي القلب..فأن ما فعلتــــــــه كان لأجلكم..أخشى
عليكم قسوة العالم الدنيـــــوي :وضعت هذا الكم الهائل من التـراب والحجر الثقيل
لكي لا تخرجوا مرة أخرى فالحــــــــــروب ستلتهمكم ..الجــــوع ســــينخر عظامكم
..أردت لكم أن تخلدوا في باطن الأرض وأنتم في أمـان وسلام..
سقراط:
أستيقظ يا رجل
الدفان :
لا..أرجوك أن تصفح
عني أتوسل أليك بمن كنت تعتقد وتتعبد به أله كان أم حجــــر
سقراط :
ماذا دهاك يا رجل ؟؟
الدفان :
كنت أعلم أن للأموات ثورة أنهم سيحطمون الحجارة الجاثمة فوق صدورهم
ويحملون فؤوس مصنوعة من الحجارة ويقومون بتهشيم رأسي وأضلعي . أجل أنهم
سيقتصون مني.سيقتصون مني ..سيقتصون مني .
سقراط:
أستيقظ..(يستيقظ الدفان وهو يحدق لسقراط بنظرات يشوبها الخوف).
سقراط :
هدأ
من روعك يا رجل فلا توجد ثورة للأموات
الدفان :
أنا..أنا..أنا كنت أخشى عليهم ضغطـــــة القبر فأضربهــــــم بالمعول
لكي يكونوا في غيبوبة حتى لا يشعرون بقسوتها
سقراط:
هذا جيد .
الدفان : وأهيل
عليهم التراب لكي لا تتسلل أليهم الديدان .
سقراط :
نعم شاهدة ذلك .
الدفان
: شاهدة ذلك؟! أنه يترقبني وأنا..لا
حاجته لكي أنكر ما قمت به قبل قليل ..خذ (يعطيه المعول) سقراط :
وماذا أفعل به ؟
الدفان :
أكيد بثورتكم تريدون
القصاص مني أفعلوا بي ما شئتم جردوني من ملابسي أضربوني بالحجارة فلقد ارتكبت معاص
وذنوب كثيرة بحياتي .
سقراط:
أكيد أنه أصاب بمس من الجن..يا رجل عليك أن تهدأ
الدفان :
ستسحبوني من أطرافي
وتنزلوني على رأسي في حفرة ضيقــــــــة وبعدها تكسرون بالمعـــــول ساقي وتهشمون
رأسي.
سقراط :
هذا ما اقترفته يداك
الدفان :
وكيف الخلاص من ما أنا فيه ؟؟
سقراط:
عليك في هذه الساعة
أن تتوسد مع ميت وتستجير به
الدفان :
مستحيل أن أفعل
هذا..فليس لي جرأة أن أحدق لميت وهو في باطن الأرض .
سقراط:
أذن يوجد حل أخر
سيقيك ثورتهم
الدفان :
أرجوك أن
تساعدني للخروج من هذا المأزق
سقراط:
الخروج من هذا المأزق يكمن هنا ( يشير إلى أحد القبور)
الدفان :
تحت هذا الحجر ؟؟
سقراط:
تختبئ تحته بقايا إنسان
قد تحول بمرور الدهر إلى تراب
الدفان :
وماذا تريدني أن أفعل
؟؟
سقراط: أن
تتجرد من أنانيتك وتزيح عن هذا القبر الحجر الثقيل والتراب المتراكـــــــــــــــــــــم.
الدفان :
أ.أنبش القبر؟!
سقراط:
عندها تحدق إلى أعماقه
مبسماً وتمد يدك بشجاعة نحو ميت
الدفان :
ماذا ؟! أزيح الحجر
الثقيل والتراب المتراكم بكل جرأة وشجاعة؟! وأمـــــــــد يدي نحــو ميت ؟ وماذا سأصنع بها؟؟
سقراط:
تمسكه بقوة وتشده نحو
صدرك وتنفض عنه غبار السنين
الدفان :
وماذا بعد ذلك ؟
الميت :
تخاطب الذي كان راقد منذ أمد بعيد..أنهض من
سباتك الطويل ولنجعلهـــــــا بينــي وبينــــــــك مناوبة
الدفان :
آه....أن كنت تعيش في
هذه المقبرة عليك أن تحيى قصة الموت
سقراط :
منذ أزمنة بعيدة وأنا أفتش عن المدينة الفاضلة..فوجدتها هنا لا تتعدى
ســور المقبرة ..عند هــذا القبر وذاك عند القبور المشيدة و القبور التي تساوت وأصبحت
تراب ..قد تجردوا وهم يقبعــون تحت هذه الأكوام المتفرقة عن كل المسميات ..جاءوا
إلى هنـــا طوعاً وكرهاً بكفن يسترون بــه عوراتهم ..توقفت عندما اجتازوا سور
المقبرة كل أنظمـــة الحساب اليومي وتعطــلت عنـــــــــد مجيئهم كل القوانين
الوضعية .
الدفان :
وأي زمان ومكان هذا الذي
جئت منه ؟
سقراط:
مملكة ضيقة تتسع لشخص واحد فقــــط..يتسلل إلى جسدي دود الأرض وصـــــراخ
مخيـــــــف ينبعث من باطن الأرض..مملكتي محاصرة بجدران صامته وحجر أســــــود جاثم
فوق صـدري لا يخترق من خلاله صوت استغاثة .
الدفان :
وثورة الأموات ؟؟
سقراط :
لا وجود لها .
الدفان :
وأنت ..؟؟
سقراط :
أنا صاحب هذه الخربة التي ترجع إلى زمن بعيد.
الدفان :
(يشعر الدفان
بالاطمئنان ) : وهذا خارج عن ما أدونه في سجلاتي التي لا تتعـــدى ألا نيف مـن
السنين..ففيها أسمائهم ..أخر تأريخ ميلاد ..أحلامهم... كل هذا أجمعــــه في هذا
السجل ..أمــــــا أنت عليك أن تبحث في التواريخ التي فات عليها دهور عن مـن دون
لك بياناتك..كيــــف جاءوا بك إلى هنا..كفنك ابيض ناصع أم ممــــزق وملطـــــخ
بالدم..هل كنت شاب قوي مفتول العضلات أم كهلاً لا تقوى على الوقوف.
سقراط:
لا أريد أن أفتش في
سجلات الماضي بل وجدت نفسي هنا في زمان لا
اعرفـــــــه ومكان أجهله. تحررت من خلال هذا المنفذ الوحيد في الكرة الأرضية .
الدفان :
كيف ؟؟
سقراط:
لا أعلم.
الدفان :
(يتحرك الدفان كأنه
يستقبل ميت ويدفنه ويستقبل أخر..وهو يتحدث بهمس)
:أقسم لو كان أسمك
مدون في هذا السجل لأنزلتك أسفل السافلين.
سقراط:
سقراط
الدفان :
س..س..سقراط.
(يحاول الدفان أن يقيس في الأرض وينشغل عن سقراط) : سقراط
نعم أنه مكان جيد (يسجل في السجل) بل أسم في غاية الغرابة سقراط..لا..لا
أبتعد يميناً وأنت أبتعد عن هذا المكـان بضعـــــــة أمتار إلى الشمال
(يستمر الدفان بالقياس والتسجيل) :من أي عالم أتيت ؟
سقراط :
عالم كارتوني لا يتعدى سوى ورق..أن ولدت كانــــــــــت لك ورقة فيهــــــــــــــــــا
تأريـــــــخ ميلادك...وأن مت تطوى تلك الورقة..وأن تزوجت كانت لك ورقة..وحتى انتمائـــك
للأرض لا يتم ألا بورقة..أنه عالم من ورق.
الدفان :
(يقف عند
أحد القبور):سأشيد هنا قبر من الحجر المزخرف وأجعله بمستوى مرتفع يعلو كـــــل
القبور.
سقراط:
لنبحث عن عالم خال من الرتوش والتزييف
والتجميل..أرجوك أن تساعدني فأنـــي أقف عنــــد منتصف الطريق.
الدفان :
سقراط ..(يصفح السجل ) :قلت لك منذ البدء أنا
لست من دون بياناتك ..متى جئـــــت ..وكيف أتوا بك إلى هنا ..ومن الذي أدخلك
الحفرة ..كل هذا لا يوجد في السجل..أذهب إلى عالم غير عالمنا وأبحث عـــــن من دون
بياناتك
سقراط:
لا يوجد متسع من
الوقت فالقمر سيتوسط السماء.
الدفان :
وماذا في ذلك ؟؟
سقراط :
سيتمرد الشيطان ويخرج من جــــــوف الليل..وعنــدها يصخب البحر ويولــــــــــــــــــد
المولود كرهاً..وتتحول الأرواح الشريرة إلى ذئاب مفترسة..وتنكشف الحقائق المستورة
التي تختبـــــــئ خجلاً وحياء ويظهر كل قبيح وعمل سوء وعندها يخجــل المرء مــن
نفســـه وربما يختار فـــي تلك اللحظة أن يكون تحت التراب لا فوقه .
الدفان :
كل هذا عندما يتوسط
القمر السماء ؟!
سقراط :
والأكثر من .........
الدفان :
أرجوك أن لا
تكمل.....ماذا علينا سنفعل ؟؟
سقراط:
علينا أن نحتجب عن
رؤية القمر.
الدفان :
أين أختبئ ؟؟
سقراط:
خلف ظلك ..
الدفان
:(يحاول الدفان يبحث عن الظل فلا يجد ) :ليس هنا ظل أحتمي خلفه .
سقراط
:
خلف ذاك القبر..
الدفن : لا ..لا
فأنا بالأمس قد هشمت رأسه
الميت :
خلف هذا القبر..
الدفان :
لا أستطيع فقبل ساعات كسرت بالمعول ساقيه.
(يحدق الدفان مبتسم لشجرة) تحت تلك
الشجرة
سقراط:
أنها ميتة ولا ظل
فيها
الدفان :
أرجوك أن تساعدني .
سقراط:
تعال وأدخل في قبري.
الدفان :
أخشى ذلك.
سقراط:
لا تخشى شيء ..أنه
قبر بلا ميت فأنا من كنت أتوسد فيه
الدفان :
(يقترب من القبر) أني
أخشى القبر
سقراط:
أطمئن أنا من سينزلك
بغاية اللطف والهدوء
الدفان :
لا تقترب نحو المعول
سقراط:
وماذا أفعل فيه ؟..هيا
تشجع يا رجل فأن الوقت يدركنا . (يدخل
الدفان بخوف داخل القبر وهو يحدق إلى ما حوله بترقب وحذر )
سقراط :
عند أطراف السماء وفي
لحظات الغروب سترى الشمس قطعة من الدم معلقة في رحم السمــــاء وكأن أهدابها تتقطر
دماً
الدفان :
(يمد الدفان رأسه
بخوف) :كيف ؟؟
سقراط:
أنها تعكس صورة الأرض
.
الدفان :
أي صورة مخيفة هذه .
سقراط:
كأن أخرجت من باطن
الأرض رجال عراة يحملون سلاح مصنوع من الحجر ويقومون بأعمال بربرية بالتقطيع ألا أدمي
.
الدفان :
ومتى يكون ذلك ؟؟
سقراط :
عندما يمسخ الإنسان إلى مخلوق أخر ويتحول قلبه إلى حجر.
الدفان :
ومتى يكون ذلك ؟؟
سقراط:
عندما تكون الأرض هائمة غير مستقرة.
الدفان :
وماذا بعد ذلك ؟؟
سقراط: تخرج
الأموات من قبورها محتجة وقد سرق منها الكفن ..فيتحول بـــــعد ذلك العشــــق إلــــــى
صالات للمجون والرقص والرذيلة.
الدفان :
(يخرج الدفان من
القبر بهستريا) :قلت
لك منذ البدء أن بياناتك غير مدونة في سجلي أذهب إلى مكــــان أخــر وزمان غير
زماننا لعلك تجد على من يدلك بشيء.. سقراط (بسخرية)
:لا تحزن فلدي حل
يكفيك هذا التفتيش والبحث.
سقراط:
أنك كم من الحلول
والمفاجأة ..هات ما عندك.
الدفان :
الحل الوحيد الذي سينتشلك
من الحيرة والدوامة هي أن ترجع إلى مضجعك وأنا مــــــــن سيهيل عليك التراب بلطف
ولم أضع هذا الحجر الثقيل فوق صـــدرك بل ســــأزرع زهـــــــور حمراء وصفراء
ووردية........ها ماذا قلت ؟؟
سقراط:
لا..لا الأفضل أن
أبحـــث عن ســجلي حتى ولو استغرقت وقت طويل من البحــــث أفضل مــن معولك الذي لا
يرحم .
الدفان :
أذن عليك أن تقفل فمك
ولا أحب أن أسمع صوتك مرة أخرى. سقراط اسم غريب
(أصوات تنبعث من داخل
القبور.يحدق الدفان إلى ما حوله بنظرات يشوبها الخوف)
الدفان :
أتسمع هذه الأصوات
(لم يرد سقراط عليه )
:أتشعر بأن الأرض تتحرك تحت أقدامنا (لم يرد عليه سقراط)
الدفان : تكلم قول شيئاً ؟
:لماذا أنت صامت ؟
سقراط:
أنت من طلب مني أن
أصمت .
الدفان :
لا هذه المرة تكلم
قول شيئاً لا تصمت ...شاركني بما أنا فيه.
سقراط: أن هذا الميت يحاول أن يزيح عنه التراب .
الدفان :
وذاك يحاول أن يحطم
الحجر المتراكم .
سقراط :
وهذا يبحث عن منفذ في
جدار القبر.
الدفان :
وهذا غول كبير له
ذراعين تمتـــــــــــــــــدا نحــــــــــــــو الســــماء وقدماه تغوصان
بأعمــــاق الأرض..أخشى أن تكون واحد منهم سبقتهم إلى هنــــــا كي تستـــطلع
المكان جيداً وتعلنــــــــوا عندها ساعة الصفر .
تكلم لماذا لم ترد عليً ؟ (لم يرد عليه سقراط )
(يخاطب الدفان
القبور) : أصمتوا وأصغوا إليه جيداً فأنتم لا ولم تخيفوني بأصواتكـم النكرة فأنـا
كنت بالأمس عازم أن أهدم القبور التي شيدتها أنا على أجسادكم الخاوية التي لا يسترها
شيئـــــاً سوى قطعة قماش بالية واليوم فكرتم أن تتمردوا عليً وتقتصوا مني وتشدوني
إلــــــــــى أعماق الأرض .. (ترتفع الأصوات)
:كفا ..لا أريد أن
أصغي إلى أي صوت منكـــم ..فأنا سأعــــــــريك واحد تلــــــوى الأخر عندها
ستخجلون من أنفسكم وعندها لا تفكروا مرة أخـــــــرى بالتــــمرد والخروج.
(يقف الدفان عند أحد
القبور)
:ثــري ذو مال
وفير..ثيابه سندس وحرير...قصره بألوان جميلة ينير..نــساءه حلال حــــــــرام كالحمير...ماذا بعد كل هذا تريد..
أتبحث عن فرصة أخرى للحياة كي تملــــئ معدتــك التــــــي انتفخت كبالون كبير
وأصبحت تتسع لكم هائل للحوم المشوية والدهون
:تتمرد تثور لا لشيءٍ
بل من أجل أن تملئ جوفك الذي لا يمتلئ..أطمئن أنا مــــــــن سيملئه لك.
(يضربه بالمعول عدة
ضربات) : أعلم جيداً أن معدتـــك لا تمتلــــئ ألا مــــن تراب القبـــــــر. كل
حتى تشبع .
سقراط: لماذا
فعلت هذا ؟؟
الدفان :
أخشى أن يخرج من القبر ويلتهمني.. (يلتفت
الدفان إلى قبر أخر ويدنو منه)
الدفان :
:آه..وأنت أيهــــا
العزيز الــــذي لا يستوعب حقيقـــة أمره ...تزيـــح الحجر وتخرج إلى عالمنـا مرة
أخرى لكي تتربع على كرسيـــك الذي أصبح أشلاء مبعثرة أو ربمــا امتطاه عزيز أخـــــر : كم لحقت الأذى بأناس لا
يجيدون النفاق السياسي ..ألا يكفيك ما اقترفته من أثم في عالمـــــــك الدنيوي
..والآن تحاول أن تبحث عن فرصة واحدة...كـي تسفك الدماء وتزهق الأرواح وتشـرد
الأطفال وتعري النسوة.
ماذا تريدني أن أفعل
؟ أأصفق لما قمت به من أوجاع وجراح وظلم ؟ تباً لك .. تباً لك ..تباً لك(يضرب بقسوة)
سقراط :
هذا يكفي
لقد أوجعته ضرباً .
الدفان :
أن قبره ممتلئ
بالمعاصي الكثيرة التي لا تتسع بعد ذلك لأثم صغير .
(يلتفت الدفان إلى
قبر أخر مبتسماً)
:وأنت ماذا تريد
وتسعى من وراء ثورتك هذه أيها السكير النتن.. أتبحث عــن قنينة خمــــــــــر أو تريد أن نسقي قبرك من
النبيذ الأحمر المعتق حتــــى يتسلل إلــــى جسدك العفن..عليـــــك أن تهدأ ولا
تفكر أن تستيقظ مرة أخرى .
هل سمعتني جيداً ؟ (يضربه بالمعول)
الدفان :
أيهــــا الراقدون
فــي الحفر المظلمة والليالـــي الموحشـــة..عليكـــم أن تتجردوا مـــــن كـــــــــل
المسميات ..سلطـــان قد تربع على عرش الدنيـــا..أو فقير لا يقوى أن ينصـب قامتـــه
مـــــــــن الجوع...راقصــة خليعة تظـهـر معظم أنوثتها..وعابد لا يطمع فــــي
الدنيا من زخرفها ولذتهــا.
:أوراق مزقت وصور
تلاشت وحكايات نسيت ..هنا عالم جديد يسكنه الصمت.
أذن عليكـــم أن تصمتوا.
(الدفان يبحث عن ميت ليدفنه )
سقراط:
(يحدق سقراط إلى
الجدران حيث يحدث ظل له فينطلق مسرعا نحوه ويرقص معه)
الدفان :
(يتحدث الدفان مع
نفسه) كانوا كسرب طيور بيض يأتوا واحــد
تلـوا الأخـــر. ربما وجـــــــدوا مقبرة أخرى..لا ..لا توجد في هذه المدينة غير
هذه المقبرة.
سقراط:
قمر يجردني من كل
الأشياء. حتى من ظلي .
الدفان :
ماذا أفعل
؟ أأجلس أمام القبور أنوح وأبكي ؟
سقراط:
وبعد كل هذا البحث لم
أعثر عن من دون بياناتي..الشيء الوحيد الذي عثرت عليـــه هو هذا الدفان المجنون
الذي هول معوله تحتمي الحقيقة خلف ظلها .
الدفان :
منـــــــذ سنيــن مضت لم يأتوا بجــــسد كامــــــل.أشلاء مبعثرة.قدم
هنا.ســــاق هنــاك.أجســــاد
ممزقة أجساد محترقة.
سقراط:
سيف تتقطر أطرافه دماً
يجول في الطرقات يبحث عن قتيل (مستمر سقراط بالرقص مع الظل )
الدفان :
أصبح من الصعب أن
يأتوا لي بجسد كامل..حتى الأموات تترقب بشوق معي
ميت له ذراعــان وقدمان وجسد غير ممزق.
سقراط:
لا خيار لي ألا هذا
الحفرة الموحشة (يقف بالقرب من قبره)
(يحدق الدفان إلى
سقراط مبتسماً )
الدفان :
أنه كامل
الأوصاف...ميت يرتدي كفن ..وله حفرت جاهزة.
سقراط:
قرعت كل أبواب
العوالم أفتش عن منفذ صغير تتراء من خلاله الحقيقة.
الدفان :
الحقيقة أني أبحث عن
ميت.
سقراط:
أبواب تفتح ..وأخرى
تغلق..عوالم تنسخ ..وأخرى تمسخ..وحكايات تهجر ولا يبقى لي ألا بـــــاب ضيق في هذا
العالم الواسع .
الدفان :
(الدفان يترقب حديثه
بغاية السرور) :أعلم ذلك.فأنه الباب الوحيد الذي ستستقر فيـــه أنفاســــــك
الهائمة التي تبحث وتفتش عن الحقيقة......هيا
الميت :
إلى أين ؟
الدفان :
إلى المنفذ الصغير
الذي سيأخذ للحقيقة . (يقف
سقراط خائف وهو يحدق إلى الدفان)
الدفان :
:لا تخشى شيئاً..سأنزلك
الحفرة بكل هدوء وإجلال ووقار واحترام..وبعدهــــــا أهيل عليـــــــــك التراب
ذرة ذره بحيث أجعلك لا تشعر بثقلها...عندها ستستقر روحــــك وتهدأ أنفاسك ولا تفكــر
أن تخرج مرة أخرى إلى العالم الدنيوي .
سقراط:
(يحدق سقراط إلى المعول بنظرات يشوبها الخوف) لكني أخشى هذا
(يشير سقراط إلى المعول)
الدفان :
هذا المعول ليس لكل
من يموت ويدفن بل لمن يتمرد ويثور ويعصي .
سقراط:
ألا يوجد حال أخر ؟
الدفان :
لا مفر لك غير هذه
الحفرة .
(يدخل سقراط في
الحفرة..الدفان يترقب ذلك..ومن ثم يهيل عليه ضرباً بمعوله)
ستار
ملاحظه: لا يحق
لأحد نشر هذا النص المسرحي أو تقديمه من خلال عمل مسرحي ألا بالاتصال بي
للتواصل abdalhameed476@gmail.com
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق