تصنيفات مسرحية

الخميس، 7 فبراير 2019

صراع ثلاثي مرير بين الملك والملكة والمهرّج

مجلة الفنون المسرحية 


صراع ثلاثي مرير بين الملك والملكة والمهرّج




*شريف الشافعي  - العرب
يبقى المسرح المرآة الأصدق التي تعكس نبض الناس ووجه الواقع وحركة التاريخ، فالدنيا مسرح كبير طالما بقيت الحياة الزاخمة تعج بالأحداث الدرامية والتفاصيل الإنسانية المعبّرة والمؤثرة. وهذا ما تؤكده مسرحية “اسكوريال” للكاتب البلجيكي ميشيل دي غيلدرود، التي أعيد تقديمها برؤية شبابية جديدة في القاهرة.
القاهرة - تحوّلت مسرحية “اسكوريال” للكاتب البلجيكي ميشيل دي غيلدرود إلى عرض تجريبي شبابي في القاهرة ينتمي لمسرح القسوة. ورصدت المعالجة الجديدة للنص سوداوية الأرض التي يسودها الطغيان المصنوع وتحكمها القوى المتسلطة الفارغة من المحتوى، وقدمت المسرحية القصيرة الكثير من التفاصيل والرسائل الفنية المبتكرة في الحركة والأداء الجسدي والسينوغرافيا.
من خلال صراع ثلاثي بين الملك وزوجته “الملكة” والمهرّج “المُضْحك” في “تريودراما” مختزلة مكثفة، تمكن العرض المسرحي “اسكوريال” بالقاهرة من فضح الفساد وتعرية الزيف والخديعة وتصوير هشاشة السلطة وخوائها وانهزامها أمام الغوغاء، على الرغم من انتهاجها قوانين القهر والظلم وفرضها سيادتها وقسوتها واحتمائها بعرشها وتاجها وصولجانها.

المهرج والملك

حضر المهرّج كبطل أول في العرض المسرحي ثلاثي الأضلاع “اسكوريال”، الذي شهده مسرح “الغرفة” بالقاهرة مساء 3 فبراير، لكن هذا الحضور الهزلي للبطل المُضحِك لم يمنع العرض من أن ينتمي إلى مسرح القسوة بامتياز، فلا مجال في القصر الملكي الجائر سوى للمؤامرات والقسوة والألم والزيف والموت، ولا حضور للبهجة والعشق والبراءة والضحك في زمن الطغيان والقهر.
استحقت المعالجة الشبابية الجديدة لمسرحية الكاتب ميشيل دي غيلدرود (1898-1962) أن توصف بالمغامرة التجريبية وتحصد العديد من جوائز المهرجانات المسرحية بمصر، فالعرض الذي أعده وأخرجه زياد هاني ولعب بطولته محمد عبدالله وأسامة مهنا وروان أحمد ممتلئ بالأبجديات الفنية الثرية والمتطورة في الحركة والأداء التمثيلي والجسدي والاستعراضي فضلًا عن السينوغرافيا والمقومات البصرية المُحْكَمة.
ثلاثون دقيقة فقط مدة العرض، لكنها كانت كافية لاستيعاب الفكرة وتداعيات الحبكة وشريط الذكريات والأحداث
 
ثلاثون دقيقة فقط مدة العرض، لكنها كانت كافية لاستيعاب الفكرة وتداعيات الحبكة وشريط الذكريات واسترسالات الأحداث وصولًا إلى اللحظات الفارقة في الحاضر ونبوءات المستقبل، حيث يخسر الملك الطاغية كل شيء بسبب شراهته وغبائه، ويبقى وحيدًا بعدما تنكشف حقيقته الواهية، ويموت المقربون منه من أحباء ومنافسين وأعداء.
تدور المسرحية في مشهد واحد قاتم، حيث أحد الأركان المعززة في القصر الملكي، يغمره السواد من كل جانب، ويسكنه الملك وزوجته، وبالقرب منهما على طول الخط ذلك المهرّج الذي يمثّل الغوغاء من البشر.
من المُضحك المبكي أن هذا المهّرج “كلب الملك” يتمكن من غزو قلب الملكة وامتلاك مشاعرها، وهي السيدة الأنيقة الجميلة، حتى في مرضها، التي لم يقدر الملك على أن يجعلها تحبه، بالرغم من كل ما يمتلكه من قوة وبأس وجاه.
تصوّر المسرحية القصر الملكي كمهد للمؤامرات والصراعات والخيانات، ومرتع للأشباح وطيور الموت، فالملك يرتاب في الجميع، ويظن أنهم يريدون القضاء على عرشه أو جعله يفقد عقله، ومن ثم يقيم مذبحة لأي معارض له، وحتى كلاب الحراسة، يشك فيها، ويذبحها للتخلص من نباحها الذي يصيبه بلوثة وتشنج، فلا يبقى أحد بجواره يتحدث وينبح سوى المهرّج/ الكلب، بالإضافة إلى زوجته الملكة المريضة.
في هذا القصر الموحش، عنوان مملكة العسس والعيون والسجون، لا يجرؤ أحد على الدخول، حتى الموت نفسه يتطلب مروره أخذ الإذن من الملك السادي الذي يستلذ بالتعذيب، فيما يبدو الحب دنسًا، والضحك والبهجة والطمأنينة وراحة البال فاكهة محرّمة.





تبادل أدوار

ينخرط الملك ومهرّجه فوليال في مجموعة من الألعاب والمسامرات والرقصات والاستعراضات، التي تبدو هزلية في ظاهرها بهدف محاولة إضحاك الملك، لكنها مأساوية في جوهرها، إذ تكشف طبيعة التنافس والصراع بينهما، كرمز للعلاقة بين السلطة والشعب.
ويتضح في النهاية أن المهرّج هو الحقيقة، والملك هو السراب والقوة المصنوعة من الزيف والنفخ الفارغ، فيسعى الملك إلى التخلص منه بعدما تأكد
أن هذا الكلب الغوغائي قد أسقط الملكة في حبه.

يستمد الملك جبروته من البطش والقوانين الجائرة التي يحمي بها نفسه والصوت العالي ومحاولة الاتسام بالجدية الزائفة “الملوك لا يحبون ولا يضحكون”، لكنه لا يجد سعادته سوى في التحرر من قيوده الملكية ومحاولة أن يعيش حياته كإنسان عادي يمرح ويلعب.
ولذلك يطلب من المهرج أن يشاركه ألعابه المجنونة، ومنها أن يتبادلا الأدوار لبعض الوقت، فيصير الملك مهرجًا، والمهرج ملكًا، وهنا يتعرف الملك على شخصية المهرج عن قرب، ويقرأ ذاته، ويستكشف أحلامه، ويطلع على عشقه للملكة، وعندها يأمره بأن يذبح نفسه، فيرفض المهرج، ويلجأ الملك إلى قتله، لكن الملكة تموت هي الأخرى، فلا يتبقى سوى الملك الموهوم الخاسر والموت الرابح وحده، لأن الموت دائمًا يعمل بجد.

أسئلة جوهرية تتعلق بالقيمة الحقيقية للإنسان
ساعدت أجواء المسرحية وقلة عدد شخوصها صُنّاع العرض على إنجاز تريودراما مكثفة بالغة الحساسية والإقناع، تنحاز إلى التفاصيل الإنسانية واللقطات الصغيرة المقرّبة لإبراز انعكاسات الحالة على الوجوه والملامح بمساعدة الإضاءة.
لم تتوقف الاستعراضات عند حد الحركة الإيقاعية والرقصات والاشتباك بالأيدي وتقليد صوت الكلب ومشيته ونحو ذلك من مفردات مسرح القسوة الموجع، وإنما اشتملت كذلك على القيام بحركات بهلوانية صعبة.
وجاءت الموسيقى الغربية الكلاسيكية والجادة والخفيفة متوائمة مع طبيعة الحركات والاستعراضات. ودارت الأحاديث كلها بلغة عربية فصيحة سليمة وبسيطة.
نجح العرض المسرحي “اسكوريال” في إثارة أسئلة جوهرية تتعلق بالقيمة الحقيقية للإنسان، وأين تكمن مواضع قوته وبواعث سعادته، ليصل إلى أن العرش والتاج والصولجان لا تساوي لحظة محبة حقيقية ينعم بها الحاكم أو المحكوم وهو مستيقظ، أو لحظة أمان وطمأنينة وهو نائم.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق