تصنيفات مسرحية

الجمعة، 17 مايو 2019

حسن المنيعي وتنظير "صناعة الفرجة" في المسرح المغربي

مجلة الفنون المسرحية


"الفرجة الشاملة تتقاطع فيها الأساليب، وتتعدد في ثنياها التخطيطات الرمزية،  التي تروم كلها إلى تأسيس علاقة داخلية بين ملفوظ النص، وملفوظ العرض أو بنيته"             حسن المنيعي



 بقلم :عبد الرحمن بن إبراهيم 

الفرجة الماهية والمفهوم: لا يمكن اختزال الفرجة في مجرد محاكاة أو تقليد احتفالي عابر؛ لأن الأمر يتعلق بما تراكم في الذاكرة من الخيال الشعبي عبر أجيال من اجتهادات فردية و جماعية. وقد اختار لها الناقد والباحث الدكتور حسن المنيعي تعريفاً دقيقاً: <<عويلم مركزي يكون في حالة انفعال تجري في ثناياه الأزمة الحيوية لأشخاص معدودين، تلك الأزمة التي تجعل مصير العالم الإنساني متقمصا حاضراً في العقل والحواس، لأنها تقوم بدور الممثلة المؤقتة لديه.>>1 وقد سارت الدراسات المسرحية والأنثروبولوجية في اتجاه اعتبار الفرجة أصل انبثاق الفن. لها قابلية التجسيد من خلال الكلمة الملفوظة تتبدى في القصص والحكايات السردية التي يتداخل فيها الواقعي بالخيالي والخرافي والأسطوري، ومن خلال التعبيرات الجسدية كالرقص والحركة والغناء والإنشاد الجماعي والإيماءات الصامتة والأقنعة، وغيرها من الوسائل التبليغية، والآليات المعبرة التي تتلوَّن بلون الخصوصية الثقافية السائدة، لتأخذ عند اكتمال شكلها الفني طابع الهوية الثقافية المحلية والوطنية لدى الجماعات البشرية، باعتبارها المُعَبِّرَ عن وجدانها وقيَمها الروحية، والمُتَرْجِمة لمشاعرها القوميّة.

تَجَذُّرُ الفرجة في الثقافة الشعبية المغربية:   حين يتعلق الأمر بالنصوص التراثية أو ذات الأصول التراثية، فإن جدلية المكتوب والملفوظ، والملفوظ والمكتوب تبقى متكاملة، إذ كلاهما يستدعي الآخر. فنصُّ سيدي عبد الرحمن المجذوب – مثلا- أصل المكتوب فيها ملفوظ. وغالبية النصوص التي كتبها وأخرجها الطيب الصديقي ذات أصول شفاهية مُستقاة من الذاكرة المجتمعية والاحتفالات الشعبية. وربما جاز إطلاق هذه الصفة على النصوص المسرحية العالمية ذات المنابع الأسطورية. وبالمقابل، فإن دلالات العرض المسرحي يتم تلقيها عن طريق تحويلها إلى أفكار لإنتاج معاني بواسطة اللغة. وتصبح عملية التلقي دلالية صرفة بين دال (العرض) ومدلول (ما استوعبه المتلقي).

      قراءة الفرجة المسرحية، تقتضي بالضرورة الحفر والنبش في تضاعيف الذاكرة الاحتفالية المغربية الأصيلة  .وهو ما انبرى له الباحث والناقد الدكتور حسن المنيعي الذي راكم الكثير من البحوث في دراسة الظواهر الاحتفالية المتجذرة في التاريخ الشفاهي المغربي. وهذا الاهتمام بالحفريات في الذاكرة الشعبية عائد لاعتبارين اثنين: 

اعتبار أول:  سعيه الحثيث إلى إثبات الحضور الأنطولوجي للظواهر الفرجوية في البيئة الاجتماعية المغربية، وتجذرها في الأوساط الشعبية سواء على مستوى المعتقدات والتقاليد: كناوة مثلاً. وعلى مستوى الاحتفال المناسباتي: سلطان الطلبة. وعلى مستوى الشخصيات التاريخية الحقيقية منها: سيدي عبد الرحمان المجذوب، والتخييلية: جحا.  

اعتبار ثان: قناعته الثابتة أن الفرجة قرينة نشأة الإنسان، وهي وسيلته للتعبير وللتواصل مع الذات ومع الآخرين. وتتخذ هذه الفرجة أشكالا تعبيرية متنوعة بحسب الطقوس السائدة. فقد تكون رقصا وغناء وهو الغالب لدى الإنسان البدائي. والحكايات السردية التي تتخللها مقاطع غنائية وتعبيرات جسدية، وألعاب جماعية بالأقنعة والأزياء التنكرية... <<ففي الحضارات القديمة (كالحضارة المصرية مثلا)، فإنها تندرج ضمن ما يمكن تسميته بـ "الما قبل/المسرح" Pré-théâtre. إن هذا المسرح يقوم  في الغالب على ما هو "مقدس"؛ بالتالي فإن مفهوم المقدس في المسرح أو العرض المسرحي يرتبط بتاريخ الإنسان. وهذا ما يجعلنا ندرك حضوره في التمسرح Théâtralité الذي تنطوي عليه بعض الديانات القائمة على الصرع  Possession كالفودو في هايتي.>>2

الامتداد الجماهيري للفرجة:  من تجليات البعد الجماهيري للفرجة  امتداداتها اللامحدودة في الزمان والمكان، بحكم انبثاقها من رحم الأوساط الشعبية، واحتضانها من طرف الأجيال المتعاقبة من جهة. وباعتبارها ذاكرةً مجتمعية، وخزاناً شعبيا زاخراً بالطقوس الاحتفالية من جهة ثانية.  وتعبر الفرجة من خلال عروضها عن انتمائها وارتباطها العضوي والوثيق بكل الفئات الاجتماعية، وأنها المعبر عن الوجدان الجماعي، والمترجم للقيم المشتركة بين الجميع. كما أنها تُعتبر مرآة عاكسة لحياة الانسان في معيشه اليومي، وفي ارتباطه بالآخرين، وفي خلوته وحالات التأمل، وللأوضاع الثقافية والهزات الاجتماعية والتحولات التاريخية. وبذلك، فهي بؤرةُ تقاطعٍ بين روافد ثقافية متنوعة،  وتَبَلْوُرٍ لصيغ وأشكالٍ احتفاليةٍ مستلهمَةٍ من الحقل التراثي، واستشرافٍ لآفاق رحبة. وإذا أخذنا في الاعتبار أن الفرجة آنية ووليدة لحظتها في المكان، وزائلة لأنها محكومة بطقوس المناسبة؛ فإن إشعاعها الثقافي وتألقها الفني المتمثلين في المتعة البصرية والمؤثرات السمعية يخلف آثاره في الذاكرة، ويتيح حضورها المؤثر والفاعل عبر الأجيال.

      تقدم الفرجة نفسها كالمُعَبِّرِ عن مشاعر روادها، والناطق بلسان حالهم، والقادر على الغوص في أغوار وجدانهم. وبناء على ذلك، فهي ليست مجرد تسلية عابرة بقدر ما هي  تفريغ للمكبوت، وتنفيس عن ضغوطات اليومي. وهي وحدها القادرة على بث الشعور بسكرة المتعة وروعة اللحظة، وهي ما تستطيع تطهير الذات من شوائب القبح. ويمكن للفرجة بلوغ غايتها في الإدهاش والإبهار ، وإثارة حسِّ الإفادة الإمتاع اعتمادا على خطاب ذي تعددية في المكونات الفنية (نص المخرج) تتجاوز به "أحادية الخطاب" المتمثلة في النص الدرامي اللغوي الكلامي (نص المؤلف)، وترتقي بـ "العرض" Représentation إلى درجة "الإنجاز" Performance. وهو ما يستدعي بالضرورة تفكيك نص المؤلف وإعادة تركيبه بلغة ركحية وفقا لرؤية المخرج، واستحضراً لانتظارات الجمهور. وتأخذ عملية التفكيك وإعادة التركيب هذه صيغاً تختلف من مخرج إلى آخر حسب الخلفية المعرفية والرؤية الإخراجية والميزة الإبداعية، أشهرها الاقتباس، والاعداد  الكولاج، Collage التقطيع، والإضافة. 

   وكان المبدع العظيم وليم شكسبير أول من فكك النص الدرامي الأرسطي العابر للقرون والعصور. <<فقد اعتبر Gotthold Ephraim Lessing (1729-1781) أن وليم شكسبير أول كاتب درامي في التاريخ الحديث أقدم على نسف القواعد الأرسطية، معتبراً المسرح الإنجليزي أول مسرح شعبي يستطيع الناس هضمه. >>3  فقد استهدف شكسبير الثوابت النصية المتمثلة في الوحدات الثلاث التي أمست في حكم المقدس لدى الرومان وحتى في المسرح الكلاسيكي الفرنسي في القرن السابع عشر بعَلَمَيْهِ Pierre Corneille وJean Racine. ولم يتقيد بوحدتي الزمان والمكان، ولئن حافظ على وحدة الموضوع.      وسار على منواله برتولد برشت – على سبيل المثال لا الحصر- بمسرحيته "أنتيجونا" Antigone.4 فقد أعاد صياغتها بما تقتضيه ظروف زمنه الراهن، ولكن أيضا بما تمليه خصوصية النظرية الملحمية أولا، ومفهومه للاقتباس ثانيا، ورؤيته الفنية للكتابة الركحية ثالثا، على أساس أن كل نصوصه كُتبت كتابة إخراجية.  وعند يونيسكو – Ionesco نلمس أيضا الرغبة القوية في الخروج عن مألوف اللغة السائدة. فقد كان واضحاً عند تحديده لأشكال المسرح اللغوية، ولرؤية معينة للعالم. <<لابد أولا أن تُقوض تقاليد المسرح السالفة، وأن يصبح التقويض "الديونيسي" هو أول واجب لدى المبدع الأصيل.>>5. والعملية نفسها أقدم عليها الكثير من الكتاب المسرحيين العرب. ونكتفي بالإشارة – مثلا- إلى مسرحية "أوديب – مأساة عصرية"6 للكاتب السوري وليد إخلاصي. أحداث هذه المأساة تدور في مدينة مكتظة بالسكان والضجيج. إنها مدينة كبيرة يتزاحم على القمة فيها مثقفون وتجار، وتستقطب نشاطات علمية ووسائل تكنولوجية. 

   غير أن ما يجب الوقوف عنده هو أن الفرجة في المسرح الغربي ظلت تنهل من أعياد "ديونيزوس" التي تشكل المنبع الرئيسي للمسرح الأوربي الذي وَحَّدَ بين الاحتفال والفعل المسرحي. وقد أشار الناقد الدكتور حسن المنيعي في هذا الصدد <<إلى أن أول حلم رواد المسرح هو أن يكون احتفالا، من دون الوقوف على أصوله الدينية أو الأسطورية. وكما أكد ذلك "رولان بارث" فإن الشعيرة الديونيزوسية كانت حاضرة في معطيات الفرجة (أي في الزمان والمكان)، لا في جوهرها.>>

"الحلقة" فرجة بخصائص اللعب المسرحي

    ورغم الطابع الجماعي للفرجات عموما، فلا ينبغي صرف النظر عن  دور الإسهامات الفردية الفاعلة، وعن دورها المؤثر في صناعة الفرجة وفي بلورة شكلها الجمالي. ولنأخذ الحلقة باعتبارها الفرجة المغربية الأكثر حضوراً والأقوى تجذراً  وتأثيراً في الوجدان الشعبي المغربي. يقر الباحث والناقد حسن المنيعي في كتابه الرائد "أبحاث في المسرح المغربي" نقلا عن "هنري ديكير" في أنطولوجيته أن "الحلقة" تتضمن بالفعل خصائص اللعب المسرحي، وهي <<عبارة عن مسرح شعبي يشرف على تقديم فرجاتها بعض الأفراد المختصين في فن الحكاية، والإيماءة، والألعاب البهلوانية. والممثل الذي قد يكون "مداحاً" أو "بقشيشا" أو شخصية مسلية يعرض إبداعاته في الأسواق.>>7 

    إن الأمر يتعلق بـ "أشكال فرجوية تنطوي على إرهاصات مسرحية،" تصنف نقديّاً عند د. حسن المنيعي بــ "الما قبل مسرح" <<وهو مسرح لا يرتبط بمفهوم الدراما التقليدية، وذلك لعدم قيامه بسلطة وهمية وبروزه كفرجة شاملة يشارك فيها الفرد عن طواعية، وذلك بجسمه وروحه دون أن ينسى أنه يشاهد واقعاً "ممثلاً" ينعكس عبر الصور والرموز.>>8 وسوف يرتقي بعض هذه الأشكال الاحتفالية إلى "لعبة رسمية" بقرار رسمي من السلطة بتأسيسها. ويتعلق الأمر بـ "سلطان الطلبة" التي عُرفت إبان حكم المولى رشيد (1666-1672)، والفرجة الثانية "البساط" التي يرجع تاريخها إلى عهد الملك محمد بن عبد الله (1757-1790). فقد كان "البساط" بالنسبة إليه فرجة عاكسة يرى من خلالها الواقع كما يعيشه المواطن العادي.

   في منظور د. حسن المنيعي، من الممكن جدّاً اعتبار الحلقة وسلطان الطلبة والبساط على الخصوص <<بداية مسرح مغربي قائم على التمسرح واللعب الدرامي.>>9 أما الأشكال الاحتفالية التي تتخذ لوناً شعائريا يشكل مسرحا بدائيا، فهي مجرد "سوسيودرامات"  لأنها لا تقوم على التمثيل الحقيقي، وتخضع في الغالب لعملية الارتجال والمشاركة الجماعية. هذا التأرجح بين ما هو مسرح ولا مسرح في التقاليد الفرجوية المغربية التراثية هو ما دعا الناقد د. حسن المنيعي إلى اعتبار <<البداية الفعلية للمسرح المغربي مقترنة بــ "دخول المسرح بمفهومه الإيطالي إلى سوق الفرجة ، أي عن طريق زيارة فرق مشرقية للمغرب (محمد عز الدين، نجيب الريحاني، فاطمة رشدي، يوسف وهبي).>> 10غير أن هذه البداية سرعان ما كشفت عن بعدها الإشكالي المتمثل في القالب المسرحي العالمي. وإذا كانت عالميته مستمدة من <<مقوماته الفنية الدرامية التي تشكل عنصراً هاماً من عناصر "المثاقفة واللقاء بين الشعوب والحضارات الحديثة؛ فإنه لم يكن بالإمكان تحقيق هذه الغاية – جزئيا أو كليا- كمشروع عربي أو كقناعة فنية إلا من خلال اللجوء إلى التراث الشعبي نظراً لما يختزنه من أدبيات وظواهر احتفالية يتمفصل في نطاقها النشاط الروحي والاجتماعي والفني للإنسان العربي.>>11 وهو ما تجسد عمليا من خلال موجة التنظيرات التي عمت العالم العربي والمغرب على الخصوص. ورغم اختلاف منطلقاتها الفكرية، وتصوراتها الفنية  وتقنياتها الوظيفية؛ فإن ما يجمعها هو التأسيس لفرجة مسرحية تنهل من الرصيد الشعبي الاحتفالي. وخلافاً للمسرح الأوربي الذي اقترن الاقتباس فيه بالثورة على المنظومة النقدية الأرسطية، كان لجوء المسرحيين المغاربة إلى الاقتباس إقراراً بأنهم <<يفتقرون إلى متطلبات الخلق الفني، ويعجزون عن استكمال شروط التأليف المسرحي>>12 بالمواصفات الفنية الحداثية. فكانت الوجهة إلى <<إعادة اكتشاف التراث الشعبي الفرجوي، وكذا التقاليد الشفاهية. إن هذا الحرص هو الذي دفع الطيب الصديقي في مسرحيته "حفل عشاء ساهر Diner de gala إلى الاعتراف بأستاذية "الراوي"، القاص الشعبي الذي "يعرض" على جمهوره سيرة عنترة وسيف بن ذي يزن وغيرهما من السير في "الحلقة": أي الفضاء السحري الذي تتألق فيه المرويات والشعريات والمرتجىلات واللغات الجسدية.>>13

المقومات الجمالية للفرجة المسرحية الأصيلة

    في اعتقاد د. حسن المنيعي، فإن الفرجة المسرحية المغربية تخطَّت بنجاح امتحان التأصيل على مستويين:

مستوى أول: بعث الشكل الاحتفالي التقليدي الذي ارتقى بفضل اجتهادات الطيب الصديقي على الخصوص  إلى مستوى الفرجة المسرحية الحداثية. وكان الشكل الاحتفالي التراثي "البساط" ذا حظوة لديه. <<فقد حاول من خلاله أن ينفث ارتعاشة في قلب المسرح المغربي ليخلخل توازنه شيئا ما، ولكي يموضعه في مهب ريح التغيير، بعد أن لمس فيه مسرحاً أصلياً وأصيلاً، عمل على إعادة تأسيسه>>14 

مستوى ثان: إحياء نماذج وشخوص التراث الاحتفالي الشعبي، وهو المُقِرُّ بــ "أستاذية" الرواي: <<منك تعلمنا جوهر مهنتنا. من خلال عصاً واحدة لا غير تحولها حسب إرادة الحكي، تصبح العصا شجرة مخضرة، تتحول إلى مظلة أو إلى حصان راكب... وفجأة، هو ذا السيف الذي يجرح أو هو ذا القلم الذي يدون... المجد لك أيها الراوي القديم الذي يبتعد بِتُؤدَةٍ كل مساء عن حياته.>>15

وبالنسبة للدكتور حسن المنيعي، فقد ارتقت "الحلقة" و"البساط" إلى مستوى اعتبار كل منهما "شكل فني"، له مواصفاته الجمالية المميزة له. وعبرهما أمكن الارتقاء بالفرجة الشعبية التراثية إلى مستوى العرض المسرحي ذي المواصفات الحداثية. وهو ما قاد إلى إحكام قطيعتين اثنتين:

قطيعة أولى مع المسرح الغربي ممثلا في القاعة الإيطالية:  يقول في هذا المضمار: <<الغاية هي تجاوز المسرح على الطريقة الإيطالية الذي لم يعد قادرا – بحكم طابعه الإيهامي ومعماريته المنغلقة - على توفير الشروط الجمالية التي من شأنها أن تساعد الدراميين على إيجاد مسرح شعبي وثقافي في نفس الوقت، يستقطب جمهوراً واسعاً، ويلتصق بقضاياه.>>16 ومعلوم أن قطيعة المسرح المغربي مع المسرح الغربي لم تكن فقط بسبب القاعة الإيطالية والقالب الأرسطي، بل أيضا بسبب النص الدرامي الكلاسيكي الذي كان ذا سطوة مطلقة، تحيل العرض إلى مجرد ترجمة حرفية للنص، في وقت كانت الفرجة المغربية تقدم العرض على النص، وتحول فضاء اللعب إلى <<عالم فسيح تلتقي فيه النماذج البشرية بالتوابع المسرحية، وتلتقي فيه الفنون الشعبية القديمة بأحدث الإيقاعات الغنائية.>>17

قطيعة ثانية مع المسرح العربي الباحث عن قالب: لقد تورطت التنظيرات المسرحية المشرقية في البحث قالب محلي بديل لنظيره الغربي، وحشرت نفسها في زاوية ضيقة أفضت بها في النهاية إلى الباب المسدود. فاعتماد الشكل المسرحي الغربي كقالب للمضامين التراثية العربية لم يحقق مسعى الدراميين العرب في التأسيس لمسرح عربي أصيل. وهو ما أشار إليه د. حسن المنيعي بقوله: <<إن المشارقة لم يستطيعوا خلق مسرح عربي له مميزاته وخصائصه رغم مرور أزيد من قرن على أول تجربة مسرحية عرفت الوجود (مسرحية البخيل لمارون النقاش سنة 1848).>>18 

قطيعتان معرفيتان وجماليتان حررت المسرح المغربي من عبثية التنظيرات التي سعت باحثة عن سراب القالب، وفتحت مجال التجريب بحثا عن أفق حداثي يُنَقِّبُ على الاختلاف ليؤسس المُخْتَلِف. وقد تجسد ذلك في الاجتهادات التنظيرية المغربية التي سعت جاهدة في <<تأصيل الظاهرة المسرحية قصد تحقيق الخصوصية والهوية. وهذا يعني أن المسرح المغربي ظل من حيث أشكاله مرتبطاً بنمط المسرح الأوربي ، كما استرشد بتراكماته وتحولاته ورجالاته، مثلا برشت وغروتوفسكي وأرطو وغيرهم. لذا، فإن هذا الارتباط قد دفعه على مستوى الانثروبولوجي إلى أن يكتسي طابعاً عبر مسرحي Transthéâtral له قيمه الثقافية والجمالية، ولكنها قيم تنصهر في قيم غربية.>>19 وكان من إفرازات ذلك، ظهور كتابة درامية توليفية اصطلح عليها د.حسن المنيعي: <<كتابة جدولية Tabulaire تراعي علاقة النص بالعرض، وتقوم في الغالب على التوليف بين نصوص سردية ومشاهد حكائية، وقطع شعرية، متواليات غنائية/حركية، وتركيبات خيال/ظلية خوَّلت للنص/العرض الدخول في مجال الرمز والعجائبي.>>20 

أفق تحديث الفرجة المغربية  

    على الرغم من القيمة العلمية، والرصانة الفكرية، والصرامة المنهجية، والدقة المصطلحية التي تسم كل مؤلفات الناقد والباحث د. حسن المنيعي، وريادتها على المستويين المعرفي والمنهجي في راهنية المشهد النقدي المغربي والعربي على السواء؛ فإن كتابه "المسرح المغربي من التأسيس إلى صناعة الفرجة"21  يعتبر امتدادا للكتاب الأول "أبحاث في المسرح المغربي"، وتكملة لمشروعه النقدي- المعرفي الذي دشنه بالبحث في حفريات الظواهر المسرحية  والأشكال الاحتفالية التقليدية، وفي أصول التراث الشعبي الشفاهي الأصيل. فقد رصد اجتهادات تأصيلية للفرجة في الممارسة المسرحية من خلال التنظير والكتابة الدرامية، وإلى ضبط مسار النقد المسرحي الذي <<عمد إلى توسيع آفاقه عن طريق الاستفادة من إجرائيات المناهج النقدية الحديثة نظراً لتعقد الظاهرة المسرحية، وحتمية انفلاتها من التصنيفات السهلة التي تقر بها المناهج التقليدية كالانطباعية والتأثرية، أو المناهج الدوغمائية التي تركز على مساءلة الإنتاج المسرحي من حيث مضمونه وخلفيته الإيديولوجية مع إهمال كبير لمكوناته الجمالية والركحية.>>22 وفي اعتقاده، فإن منجزات المسرح المغربي على مستوى الكتابة الدرامية، والممارسة الركحية، والاجتهادات التنظيرية حمل لواءها جيل من المسرحيين الشباب ذوي نَفَسٍ حداثي، وحسٍّ تجريبي <<يمارس مسرحاً صدامياً ينزع إلى نقد الأوضاع السائدة،>>23

     لقد تبين للناقد والباحث د. حسن المنيعي أن قراءة الفرجة وتحديثها تستوجب عُدَّةً معرفية، وأجهزة مفاهيمية، ومرتكزات نظرية. وهو ما تأتى له بوضع اللبنات التأسيسية لنقد حداثي بديل تبلور في رحاب الجامعة المغربية. إذ في الوقت الذي كانت البنيوية والبنيوية التكوينية حاضرة بقوة في الخطاب النقدي الروائي والشعري؛ كان الخطاب الملحمي باسطاً ذراعه في الخطاب المسرحي في سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي. وهو ما التقطه الفعل النقدي الجامعي الذي سعى إلى <<تعميق الدراسة حول النظرية البرشتية، الشيء الذي أتاح اقتناء مفاهيم جديدة كتقنية الحكي أو السرد المسرحي، وتقنية المونطاج، وتحطيم الإيهام الأرسطي، ودور الممثل في الأداء، وتَدَخُّلِ المتفرج في إعادة إنتاج متخيل العمل المسرحي.>>24 وفي اعتقاده فإن تطوير الفرجة المغربية يقتضي بالضرورة <<انتشالها من التبعية للغرب عن طريق توطيدها من منظور معرفي وجمالي، وامتلاكها لهوية إيديولوجية تقيها من الانجرار وراء تقنيات مسرحية لقيطة وسائبة، وتؤكد هُويَّتها الجمالية. وهي عملية لن تتحقق سوى بأسطرة الحكاية الشعبية والحدث الدرامي، وبتغريب الشخصية المسرحية بما في ذلك الراوي والمداح...وهي عملية تقتضي <<دراسة عميقة لمخزونات الثقافة الشعبية. ومن شأن هذا أن يساعدنا على فهم الاحتفالات الشعبية وأبعادها الرمزية والطقوسية،>>25 مع الانفتاح على التجارب المسرحية الغربية قديمُها وحديثُها، والاستفادة من أشكالها الكلاسيكية والمستحدثة، <<مع الحرص على بلورتها بطرق فنية تعكس الوعي الثقافي للمسرحيين المغاربة، وتعاملهم مع مكونات المجتمع المغربي الحضارية والثقافية.>>26

    يستخلص مما سلف، أن الناقد والباحث د. حسن المنيعي لا يقف عند حدود قراءة  الفرجة المسرحية المغربية في امتداداتها التاريخية والتراثية، ولا يكتفي باستعراض التجارب العربية والمغربية التي استلهمت من المخزون الاحتفالي الشعبي وحسب، بل إلى أبعد من ذلك، يقترح صيغة معرفية جمالية للإرتقاء بالفرجة المغربية إلى مستوى التألق الفني والإشعاع الجمالي:

ا- القطع مع اجترار الأساليب الجاهزة التي سبق التعامل معها تنظيراً وممارسةً.

بـ- إنتاج مسرح يقوم على كتابة متنوعة وشاملة يتساوق فيها الأدب والإخراج والتمثيل.

جـ- دعوة المسرحيين المغاربة إلى التعامل مع نصوص مسرحية تنتمي إلى التراث المسرحي العالمي.

د- التعامل مع النصوص العربية والمغربية التي تستجيب لمتطلبات التمسرح الأدبي، أي التي تعالج قضايا فكرية إنسانية.

هـ- اعتماد التراث الأدبي القديم والمتخيل الحكائي الشعبي، وتفعيله بلمسات فكرية تعكس مواصفات اللحظة التاريخية المعاصرة.27 

خلاصة: لقد قرأ الناقد والباحث الدكتور حسن المنيعي الفرجة المسرحية المغربية من موقع الناقد المُنَظِّر. وأن مساره النقدي الممتد على ما يربو من نصف قرن يُصَنَّفُ في خانة الكتابة النقدية التأسيسية. هذا المنحى يتجلى في كون ممارسته النقدية تتوزعها أربع مستويات متكاملة:

نقد متابع: يتمثل في قراءة الظاهرة الاحتفالية المغربية، وتتبعها انطلاقا من حفرياتها الموغلة في الذاكرة الجماعية التراثية.

بـ- نقد مواكب: تؤكده جهوده النقدية المنتظمة والمواكبة للممارسة المسرحية المغربية والعربية والعالمية. ولا يمكن الإحاطة بمسار المسرح المغربي من دون اعتماد مؤلفاته النقدية التي تعتبر مراجع لا غنى عنها.

جـ- نقد مبادر: من سمات الكتابة النقدية عند د. حسن المنيعي أنها ذات قوة اقتراحية. ويتبدّى ذلك في ممارسته للغة نقدية مسائلة، مستفهمة، مقترحة وغير محايدة. 

د- نقد مساهم: ويتجلى في تنظيراته التي تَسِمُ وتُميزُ كل كتاباته النقدية. وهذا النزوع التنظيري بادٍ في قراءته للظواهر الاحتفالية الشعبية، وللممارسة المغربية الراهنة كتابة وإخراجا وتمثيلا، بدءاً من كتابه الرائد "أبحاث في المسرح المغربي". 



إحــــالات: 

1 - حسن المنيعي، أبحاث في المسرح المغربي، مطبعة صوت مكناس، ط1-1974، ص14

2- حسن المنيعي، المسرح المغربي من التأسيس إلى صناعة الفرجة، مرجع مذكور، ص30

3 - عبد الرحمن بن إبراهيم، النظرية النقدية في المسرح الغربي، دار أفريقيا الشرق-الدار البيضاء، ط1-2017، ص189.

4- برتولد برشت، أنتيجون، ترجمة د. مشهور ، مراجعة مصطفى بزون، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب – الكويت العدد352

5- عبد الرحمن بن إبراهيم، الحداثة والتجريب في المسرح، دار أفريقيا الشرق-الدار البيضاء، ط1-2014، ص140-141

6- وليد إخلاصي، أوديب مأساة عصرية، منشورات المنشأة الشعبية للنشر والتوزيع والاعلان والمطابع، الجماهيرية العربية الليبية الشعبية الاشتراكية، ط1-1981

7  - حسن المنيعي، ابحاث في المسرح المغربي، مطبعة صوت مكناس، ط1-1974، ص15

8- حسن المنيعي، المسرح المغربي من التأسيس إلى صناعة الفرجة، منشورات كلية الآداب فاس، ط1- 1451هـ 1994م، ص6

9 - نفسه، ص7

10 - نفسه، ص7

11 - نفسه، ص20

12 - محمد الكغاط، بنية التأليف المسرحي من البداية إلى الثمانينيات، دار الثقافة-الدار البيضاء، ط1-1986، ص111

13 - حسن المنيعيـ المسرح المغربي من التأسيس إلى صناعة الفرجة، ص21.

14- حسن المنيعي، ويبقى الإبداع- دراسات عن المسرح والأدب في المغرب، منشورات المركز الدولي لدراسات الفرجة، سلسلة دراسات الفرجة3، ط1-2008، ص12

15- نفسه، ص22

16- نفسه، 22-23

17- حسن النيعي، هنا المسرح العربي، هنا بعض تجلياته، منشورات السفير-مكناس، ط1-1999، ص79

18 - نفسه، ص13.

19- حسن المنيعي، قراءة في مسارات المسرح المغربي، مطبعة سندي-مكناس، ط1، بدون سنة الإصدار، 77

20- حسن المنيعي، المسرح المغربي من التأسيس إلى صناعة الفرجة، مرجع مذكور، ص23

21 - إشارة إلى كتابنا "النقد المنهجي في المسرح المغربي المعاصر، دار أفريقيا الشرق-الدار البيضاء، ط1-2017، ص143

22- حسن المنيعيK المسرح المغربي من التاسيس إلى صناعة الفرجة، مرجع مذكور، ص113

23- عبد الرحمن بن إبراهيم، الحداثة والتجريب في المسرح، دار أفريقيا الشرق- الدار البيضاء، ط1-2014،  ص210

24     - نفسه، ص114

25 - حسن المنيعي، المسرح المغربي من التأسيس إلى صناعة الفرجة، مرجع مذكور، ص26

26- حسن المنيعي، قراءة في مسارات المسرح المغربي، مرجع مذكور، ص80

27 - نفسه

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق