تصنيفات مسرحية

الثلاثاء، 21 مايو 2019

اللامعقول في زماننا معقول جدا

مجلة الفنون المسرحية
مسرحية أونيسكو " لعبة القتل " في مسرح الأوركيدة الحمراء في شيكاغو 2019

اللامعقول في زماننا معقول جدا



رياض عصمت

اشتهر مسرح اللامعقول في خمسينيات القرن الماضي بفضل يوجين أونيسكو وصموئيل بيكيت. في بداياته، كان الاهتمام بمسرح اللامعقول ضئيلا ومحدودا، نظرا لسباحته عكس التيار السائد والمألوف في المسرح الأوروبي، بحيث أن الحضور في بعض مسارح باريس لم يكن يتجاوز أصابع اليد الواحدة. لكن الأمر سرعان ما تغير، كما حدث من قبل حين احتلت لوحات الانطباعيين في "اللوفر" و"أورسي" أمكنة لوحات الكلاسيكيين التي أودعت في المستودعات. بدأ اللامعقول Absurd (أو "العبث" في ترجمة أخرى،) يترك تأثيرا واسع النطاق، بحيث نال مكانة عالمية منذ الثلث الأخير من القرن العشرين.
في الواقع، كان رائد مسرح اللامعقول كاتب غريب الأطوار يدعى ألفريد جاري قام بتأليف سلسلة مسرحيات عن شخصية أسماها "أوبو"، وبشَّر بهذا النمط أيضا أنتونين آرتو في كتابه "المسرح وقرينه" (خاصة في فصل "المسرح والطاعون"،) ثم أوضح معالم النمط الفني الجديد آنذاك الناقد البريطاني مارتن إيسلن وسواه. ما لبث أن انضوى ضمن تيار اللامعقول كتاب نذكر منهم آداموف وآرابال وإدوارد أولبي. كما قاربه مؤلفون مصريون مثل توفيق الحكيم في مسرحيتيه "يا طالع الشجرة" و"مصير صرصار"، وصلاح عبد الصبور ومحمود دياب وألفريد فرج وعبد المنعم سليم، وصولا إلى قصص ومسرحيات نجيب محفوظ القصيرة.

كانت النظرة السائدة في القرن الماضي إلى دافع ولادة اللامعقول هي أنه ولد نتيجة الوعي بحقيقة الوجود المأساوية، حيث تتحكم بالبشر في العالم الغربي علاقات اعتباطية وسلوكيات غير مبررة، تؤدي إلى استحالة التفاهم الإنساني عن طريق اللغة، وتغلق بوابة الأمل بقدوم خلاص، وذلك بشكل مشابه لروايات فرانز كافكا الشهيرة. هاجم اليساريون اتجاه اللامعقول واعتبروه ترفا عبثيا مناقضا لمسرح التحريض السياسي الذي تزعمه برتولد برشت. لم يلاحظ أولئك عبر تحيزهم ضد هذا النمط الفني أن مسرحية الإيرلندي الغاضب بيكيت "في انتظار غودو" ـ التي تعتبر حجر الأساس في مسرح اللامعقول ـ إنما هي مسرحية تسلم نفسها للتفسيرات السياسية بسهولة ويسر. كذلك هي مسرحيات المؤلف الروماني/الفرنسي الشهير يوجين أونيسكو منذ مطلع الخمسينيات، وأشهرها "الدرس"، "الكراسي"، "الخراتيت"، "المغنية الصلعاء"، "ضحايا الواجب"، "الملك يموت" وأخيرا "لعبة القتل".

احتفى جيلنا بمسرح اللامعقول كنمط فني دأب على ابتداع قضايا قابلة لتفسيرات متباينة، معيدا تجسيد الواقع بطرق غامضة، رمزية وغريبة، تعتمد على الكوميديا السوداء. بالتأكيد، ليس مألوفا في الفن الواقعي أن يظهر رأس سيدة من الرمال مثرثرا بكلام غير مترابط، أو أن يأوي عجوز رغما عنه داخل برميل قمامة، أو أن ينتظر متشردان مخلوقا غامضا على قارعة طريق ريفي ناء كي يجلب لهما الخلاص فيخيب أملهما بعدم قدومه مرة تلو الأخرى.

كنا في سبعينيات القرن العشرين نعجب بالمغزى الخفي وراء الضحك الأسود في خراتيت أونيسكو، ندهش أمام مغنيته الصلعاء، ونعي عبث لعبة الكراسي، ونصعق أمام ذعر وباء يبيد البشر. اليوم، بدأ مسرح اللامعقول يتكشف أكثر فأكثر عن معان سياسية كامنة وراء عبثه الظاهري، ويعلن عبر تفسيرات كامنة وراء أقنعة شخصياته، معلنا عن ثورة على الأنظمة السائدة، في الفن كما في المجتمع. تدريجيا، تأكد للناس أن اللامعقول في حقيقة الأمر معقول جدا، وأنه إعادة تجسيد لمأساة الواقع المعاصر بصورة مجازية.

تنعكس ملامح مسرحية "لعبة القتل" (التي ألفها أونيسكو عام 1970) على عصرنا الراهن، وفي عديد من أصقاع العالم وقاراته وبلدانه المختلفة. يتخذ الوباء في مسرحية "لعبة القتل"، التي أحياها مسرح "الأوركيدة الحمراء" A Red Orchid في شيكاغو طابعا يوحي بمجزرة قدرية، سرعان ما تتحول إلى جريمة مدبرة حين يشرع البشر بالتهام بعضهم بعضا دون رحمة أو وازع ضمير. تصور المسرحية وباء يضرب بلدا ويبيد مواطنيه بصورة جماعية. مشاهد موت عبثي تثير الهلع والضحك المرير معا.

يحار المرء في البداية في تفسير معنى تلك الأشلاء التي يحملها أولئك الناس الذين يروعهم الموت الفجائي، وهم يتساقطون في ميتات غرائبية كأن منجل عزرائيل يحصد أرواحهم. سرعان ما يمرر أونيسكو إيحاء التوازي بين كلمتي "الموت" Death و"الدين " Debt، وتبدأ ملامح الفاجعة السياسية قبل الإنسانية بالانجلاء لأذهاننا. تبدأ مواد الحياة الأساسية بالفقدان، ويستشري الجوع بين من تبقى على قيد الحياة. لم يعد يوجد رز ولا سكَّر، والناس جياع، وطوفان الوباء يفتك بهم واحدا تلو الآخر.

عندها، تبدأ منظمة القيم بالانهيار، وتبدأ الشخصيات بنهش لحم بعضها بعضا من أجل البقاء. يتنازع الناس على التهام طفل رضيع على قيد الحياة أو جثة صبية ميتة داهمها الموت في مشاهد تزداد فظاعة وإثارة للاشمئزاز. فجأة، في ذروة تلك "المجزرة"، يعلن ناطق رسمي على شاشات موزعة في قاعة العرض عن انحسار الوباء وتلاشي الجائحة المميتة. تجمد الشخصيات في أماكنها وقد تلوثت أفواهها وثيابها بدماء الضحايا خلال التنازع من أجل البقاء، بعد أن انهارت القيم وأضحى الجميع أقرب للوحوش منهم إلى البشر. تنتهي المسرحية بحريق هائل يحاصر الجميع ويلتهمهم جميعا.

عن أي وباء يتحدث يوجين أونيسكو؟ وأية جائحة دارت بخيال المخرجة دادو حين فسرت المسرحية الآن بالذات على ضوء الواقع المعاصر في أكثر من قارة وبلد، مصورة مأساة الإنسان الأبدية حين يضطر بفعل الظروف القاهرة التي تهدد أمنه وحياته لأن ينهش أخاه الإنسان ويعيش من لحمه؟ مثلما حاول كثيرون تفسير "غودو" الذي لا يأتي عند صموئيل بيكيت حسب كل زمان ومكان يقدم فيهما العمل، سيفسر الناس "وباء" أونيسكو. ليس المهم من تمثل شخصية "غودو"، بل الأهم في تلك المسرحية هو عبثية فعل "الانتظار". هنا أيضا، ليس المهم ماذا يعني "الوباء" رمزيا، بل الأهم هو "المذبحة" التي يعتاد على ممارستها البشر بنسيانهم لأية قيم إنسانية، والتهام أجساد الأخرين من أجل البقاء دون وازعٍ من ضمير، بحيث لا يطهر المكان سوى حريق هائل يقضي على الجميع.

تذكرنا أعمال الكاتب الروماني/الفرنسي يوجين أونيسكو بأعمال أدبية من عصور مختلفة، تبدأ من مسرحية الإنكليزي وليم شكسبير "تيتوس أندرونيكوس"، تسري إلى مسرحية النرويجي هنريك إبسن "عدو الشعب"، تستلهم من رواية الفرنسي ألبير كامو "الطاعون"، وتصل إلى رواية فرانز كافكا "المسخ"، فضلا عن أعمال أخرى لآرابال وآداموف وفاتسلاف هافيل وسواهم من كتاب اللامعقول. ألَّف أونيسكو مسرحيته "لعبة القتل" عام 1970، مقتبسا أحداثها عن رواية تعود إلى القرن الثامن عشر "سجلات سنة الوباء" من تأليف دانيال ديفو.

إنها، إذن، واحدة من أواخر أعمال أونيسكو، وربما كانت رسالتها الفكرية أشد وضوحا وقسوة من بعض أعماله الأولى. تضم المسرحية 17 شخصية، وهو عدد يفوق المألوف في مسرحيات اللامعقول محدودة التكلفة، والتي تقدم عادة في دور عرض صغيرة يؤمها جمهور النخبة المثقفة. تتسم "لعبة القتل" ببعد سياسي لا يخفى عن وجدان المتفرجين في القرن الحادي والعشرين، خاصة لدى شعوب العالم العربي الملتهب بالصراعات العبثية الدامية.

سبق أن أنتجت "لعبة القتل" في شيكاغو في عام 1994، وها هو ذا مسرح "الأوركيدة الحمراء" يعيد إنتاجها بإخراج جديد للمخرجة دادو، التي قدمت العرض في مساحة ضيقة للغاية، يحيط الجمهور فيها بمساحة التمثيل من مختلف الجهات، وعلى مسافة قريبة جدا من المؤدين. وشارك عضو الفرقة النجم السينمائي المعروف مايكل شانون في العرض عبر ظهوره المتكرر على شريط فيديو معلنا تطور أنباء الوباء.

أعتقد أن تقديم هذه المسرحية على خشبة مسرح تقليدي كان من شأنه أن يمنح طابعا تعبيريا وتأثيرا نفسيا مختلفين، لكن ممثلي فرقة "الأوركيدة الحمراء" عوضوا بأداء حار، وحضور قوي، وإلقاء واضح، أعاد ألق المغزى السياسي المضمر في خيال أونيسكو، وأثبت صمود "لعبة القتل" عبر كل زمان ومكان.

----------------------------------------

المصدر : الحرة

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق