مجلة الفنون المسرحية
نظرية النوافذ المحطّمة في دراما تراجوكوميدية بالقاهرة
شريف الشافعي - العرب
"شباك مكسور" مسرحية الجرائم المتشابكة والآمال الهاربة من خلال استعراض مشكلات وأزمات اجتماعية وسياسية وفكرية تخص مختلف الأجيال.
يتسلح المسرح المعاصر بدوره التنويري والتوعوي، حيث يتحول صندوقه السحري المضاء بالوهج الفني والمعرفة والفكر والفلسفة إلى مجهر دقيق لكشف أزمات المجتمع ووصف سبل مجابهتها ومعالجتها واستئصالها من جذورها. وهذا ما قامت عليه مسرحية “شباك مكسور” المصرية.
في مسرحية “شبّاك مكسور” على مسرح “الطليعة” بالقاهرة، تتسلل الأخطار والشرور من الخارج المُفزع إلى داخل البيت عبر ثقب صغير مُهمل في الجدار، وتتعاظم الكارثة شيئا فشيئا إلى أن تدمّر المجتمع كله.
يواصل المسرح المصري تنصيب نفسه ملكا متوجا بين الألوان الإبداعية المتعددة بوصفه أعرق الفنون وأشملها وألصقها بالناس، فهو فن التفاعل المباشر مع الجمهور بغير وسيط. وإلى جانب حضوره الجمالي وحظوظه الواسعة في تحقيق الإشباع الفني والتشويق والإبهار، يتميز المسرح بقدرته على استثمار هامش الحرية المتاح أكثر من غيره من الفنون والآداب، خصوصا من خلال تقنيات الإسقاط التاريخي والرموز والأقنعة.
النوافذ المحطمة
من العروض الجادة التي قدّم بها مسرح الدولة وجهه الناصع كمنصة لإطلاق المتعة، وكحائط صد ضد المخاطر المجتمعية في الوقت نفسه، مسرحية “شباك مكسور” من إنتاج فرقة مسرح الطليعة، من تأليف رشا عبدالمنعم، وإخراج شادي الدالي، وديكور وأزياء وائل عبدالله، وموسيقى يحيى نديم، وإضاءة أبوبكر الشريف، وبطولة أحمد مختار ونادية شكري ومجدي عبيد وربا الشريف.
اتخذ العرض من فكرة “الكسر” مدخلا وثيمة أساسية، لتجسيد معنى الانكسار على سائر المستويات، الفردية والجماعية، المادية والمعنوية، الهيكلية والروحية، وصولا إلى انكسار الواقع المحيط بأسره، وتفتت الآمال وضياع الأحلام.
اعتمد العرض القصير ذو المشهد الواحد التكثيف منهجا لإبراز كيف أن المشكلات جميعها، البسيطة والكبيرة والمستعصية، تشكل سلسلة مترابطة الحلقات، وأنه لا مجال لحلها إلا بإصلاح المنظومة الحياتية كلها، ودعوة الشعب إلى أن يغيّر نفسه بنفسه.
المسرحية تحكي حياة أسرة مكافحة، تعيش في بيت بسيط انكسر زجاج شبّاكه منذ سنوات ومنه تبدأ كل الحكايات
اندرج تحت عنوان مسرحية “شبّاك مكسور” عنوان آخر فرعي تصدّر ملصقاتها وإعلاناتها، هو “نظرية النوافذ المحطمة”، في إشارة إلى تلك النظرية التي استعارتها المسرحية من علم الجريمة من أجل برهنة فكرتها وتمرير رسالتها، حول أن قواعد السلامة تقتضي الحماية الكاملة من الخارج، وسد كل الثغرات التي تهدد المجتمع وإن بدت ثقوبا صغيرة، فثمة أخطار ومهالك وجرائم وسلوكيات تدميرية يمكن أن تتسلل إلى القلب بسبب الإهمال وغياب الدقة والإحكام، بما يؤدي في النهاية إلى فوضى العلاقات الأسرية وانهيار المجتمع.
تنبني نظرية النوافذ المحطمة على أن الفوضى والسلوكيات المعادية للمجتمع والمخاطر والشرور والجرائم والكبائر قد تبدأ بالصغائر والأمور الهينة، فـ”معظم النار مِنْ مستصغر الشرر” كما يقول البيت الشعري الشهير، فمن خلال تحطيم نافذة زجاجية مثلا في الطريق العام، وتركها فترة دون إصلاح، سيصل إلى الجماعة أنه لا أحد يكترث ولا يوجد من يتولى زمام الأمور، ومن ثم سيحطّم آخرون نوافذ أخرى، وسيبدأ العطب من هذا البيت، وينتقل إلى الشارع، وبعدها يصير الخلل سائدا في المجتمع.
اشتغلت المسرحية فنيا بذكاء وحرفية على كشف منابع الفوضى والخراب في المجتمع، أملا في وأد العبث المستشري في سائر المجالات، قبل أن يستفحل ويتم اعتماده كتيار عام جريء كاسح، وحينها تصل الخطورة إلى منتهاها، ويصبح الإصلاح مستحيلا.
في إطار الكوميديا السوداء، والإضحاك المتفجر من قلب المأساة، صوّرت المسرحية حياة أسرة مكافحة، تعيش في بيت بسيط انكسر زجاج شبّاكه منذ سنوات، ولم يهتم أحد بإصلاحه لوجود أولويات أخرى في قائمة النفقات الشهرية، وهذا الشبّاك منفتح على الجيران وكذلك على أرض مهجورة (خرابة) مليئة بالقمامة والنفايات، بما يجعل أفراد الأسرة جميعا معرضين للتأثر الدائم بفعل بقاء هذا الشباك مفتوحا، على غير ما يقتضيه المنطق والتصرف القويم.
رسائل وفنيّات
رسمت المسرحية ملامح شخصياتها، ودراما الأحداث المتصاعدة، والصراعات المتنامية، من خلال مواقف أفراد الأسرة المتباينة إزاء الزجاج المكسور، وهل الأنسب إصلاحه أم تأجيله أم تركه على حاله، وتمحورت فنيّات العمل وانطلقت رسائله عبر هذا الشبّاك الجدلي الدال، الذي بدا غير صالح كرمز للتحرر أو حتى الهروب، لأنه يطل على الخراب والمجهول والتلوث، ويمثل للابنة الصغرى ملعبا للأشباح وفضاء للخوف والكوابيس.
تفوقت عناصر الديكور والإضاءة في تجسيد محتويات البيت البسيط، لرب الأسرة المنتمي إلى صغار الموظفين من محدودي الدخل، والذي يعيش وأسرته تحت خط الفقر لتمسكه بالشرف والمبادئ والمثل العليا، ورفضه الرشوة وأبواب التكسب غير المشروعة (تفتيح المخّ، كما ينصحه الجيران الذين يتنصتون عليه عبر الشبّاك المكسور ويحاولون التدخل في حياته).
وجاء أثاث البيت الضيق ملائما للمستوى الطبقي للأسرة، ولعبت الإضاءة دورا في إبراز “الشباك المكسور” المعتم، وتصديره في واجهة الرؤية، كبطل فعلي للعمل.
من خلال مواقف لا تخلو من طرافة ومشاكسة، واستعراضات حركية رشيقة بمصاحبة الموسيقى التعبيرية المؤثرة، وحوارات باسمة بين أفراد الأسرة، تخللتها مساحات سردية لكل واحد منهم حكى فيها نبذة عن نفسه وغيره منذ الصغر، وآراء مختلفة حول قضايا عامة وخاصة، كبيرة وعادية وبسيطة، منها “أزمة الزجاج المكسور”، تكشفت تدريجيا شخصيات الأب والأم والجدّة والابن والبنتين، في العائلة القنوعة الراضية بما قسمه الله لها، والطامحة في الآن ذاته إلى وضعية أفضل، والتي تقاوم على طول الخط كل المفاسد والمغريات غير المشروعة.
بعد سنوات طويلة، اتضح لأفراد الأسرة أن الخطر الذي لم ينتبهوا له الانتباه الكافي هو ذلك الزجاج المكسور، فمنه تتسرب أسرارهم وتمّحي خصوصياتهم، ومنه قد تأتي العدوى بمعناها المرضي والأخلاقي، والفوضى، والعشوائية، والقتامة، والرائحة الكريهة، واليأس، ومنه يحاول الآخرون إغراءهم وتلويثهم بأفكارهم الهدّامة.
في لحظة قنوط فانتازية، بدا الأب غائبا عن الوعي أو كأنه في حلم يقظة، وقرر التخلص من حياته ومن أفراد أسرته بالسم، ودسه للجميع في طعام العشاء الذي أعده بيده، لكن أفراد الأسرة لم يموتوا، لأن تجّار الفساد الجشعين المتحكمين في السوق عمدوا إلى غش كل السلع، ومنها السم، وهنا صحا الأب من جنونه على اللحظة الختامية التي مثلت الاستفاقة، ومواجهة القضايا المحيطة بشجاعة وواقعية، والبدء بإصلاح الشباك كأولى الخطوات.
منحت الشخصيات المتنوعة لأفراد الأسرة الفرصة لصنّاع العمل لاستعراض مشكلات وأزمات اجتماعية وسياسية وفكرية تخص مختلف الأجيال، ومناقشة سلبيات كثيرة تعتري الحياة في مصر في الوقت الراهن، فالأب الموظف الشريف تواجهه منظومة الفساد والمحسوبية والرشوة، ويسترجع أحلام الصبا والشباب فيجد غاية أمله اليوم أن يصير مجرد إنسان. والأم، ربة المنزل، لا يبقى منها غير صورة الآلة المبرمجة بالأوامر ومتطلبات الزوج (الذي تراه فاشلا) والحماة (المشلولة) والأبناء.
بدورهم، كشف الأبناء مشكلات الشباب الضائعين وسط أجواء القمع والكبت وسلب الحريات وإهدار الطاقات في ما لا يجدي، بما يدفعهم إلى العزلة والاغتراب والهروب من الواقع المعيش إلى الحياة الافتراضية والتفكير في الهجرة.
في ظل هذه الظروف القاسية، اتُّهم الابن دارس الفلسفة بالخيالية والجنون، وتعرض للسجن فترة بسبب آرائه، وفشلت الابنة الكبرى في تجربة الزواج، وعادت مطلّقة إلى بيت أبيها ومعها أطفالها، واتجهت الابنة الصغرى، الطالبة في الثانوية العامة، إلى الشعوذة والشطط، وقادتها “النافذة المفتوحة” إلى عوالم الجن والعفاريت والأشباح، فكادت تفقد عقلها.
أثارت المسرحية كذلك قضايا عربية، وقومية، وإنسانية عامة، تتعلق بمصير البشرية البائس، وذهبت إلى أن العرب على وجه الخصوص معرضون أكثر من غيرهم للكوارث والإحباطات والإخفاقات، طالما ظلوا “ظاهرة صوتية”، تكتفي بالقول، ولا تمارس الفعل كما ينبغي، فلا مجال للنجاة من الحاضر الكابوسي إلا بقبضة اليد، فهي وحدها القادرة على إحداث التغيير “الحل الوحيد بتعبير هيغل”.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق