تصنيفات مسرحية

الجمعة، 13 سبتمبر 2019

حوار افتراضي مع الفنان” قاسم محمد”، من خلال رسائل تبادلناها معا، على بعد مسافات

مجلة الفنون المسرحية

حوار افتراضي مع الفنان” قاسم محمد”، من خلال رسائل تبادلناها معا، على بعد مسافات

د. محمد سيف /باريس

إن ازدهار المسرح بدا تماما عندما ابتعد المسرح عن المسرحيات المكتوبة وخلق السيناريو الخاص به. تايروف

الحوار والتحاور
سيداتي آنساتي سادتي، إن هذا الحوار الذي بين أيديكم وأمامكم والذي سوف تقرؤونه أو لا تقرؤونه لم يكن حوارا مباشرا أو غير مباشر كما تعودتم أن تقرؤوا، وتسمعوا أو تشاهدوا، وإنما هو لقاء (رغم انف الحدود…والمحددين… والمانعين والمصدرين فرمات عدم التواصل والتكافل والتكامل)، مثلما يقول الفنان “قاسم محمد”.

        قاسم محمد، مسرحي عراقي غني عن التعريف، يعرفه كل من عمل أو سوف يعمل في مجالات المسرح المتعددة سواء في العراق أو في الوطن العربي أو العالم فتجاربه وبحوثه المسرحية تملا الانسكلوبيديات العالمية المختصة وآخرها (قاموس انسكلوبيديا كورفان المسرحي) الذي ظهر في باريس عام 1995، عن دار النشر (Bordas)، حيث خصص له هذا القاموس الانسكلوبيدي جزءا كبيرا من إحدى صفحاته. أما من لا يعرفه أو لم يسمع به من قبل ربما سوف يتساءل قائلا: (من هو قاسم محمد، ومن يكون كي تصدعوا رؤوسنا به؟!) والجواب هنا سهل وبسيط: إن “قاسم محمد” واحد من المخرجين، والمؤلفين، والمعلمين، والمترجمين، والباحثين المسرحيين الذين لا ينطفئون… إنه يشبه إلى حد كبير أولئك العمال الذين تعودوا أن يخرجوا للعمل مع نفحات الفجر الأولى وهم ينشدون نشيد اليوم الذي يخفي خلفه غبار الأمس وقلق الغد … هذه هي الصورة الأولى التي كونتها عنه حينما رأيته لأول مرة في أروقة معهد الفنون الجميلة، عندما كنت تلميذا ما زال يمزق سراويله فوق مقاعد الدراسة… منذ ذلك اليوم والصورة نفسها لم يطرأ عليها أي تغيير، رغم تغيرات العالم في أزمنته وأمكنته.. ورغم مرور الزمن سريعا وبطيئا وأحيانا ضائعا، وانتهاء مرحلة الدراسة في معهد الفنون الجميلة ببغداد، وانتقالي إلى باريس. هناك ذكريات لا زالت تحفر بالذاكرة؛ ذكريات لازالت تتموضع في قلب الماضي ومستقبلية الحاضر الذي نعيش أو ننوي أن نعيش، ومن بين هذه الذكريات هناك من صارت مع مرور الزمن والتجربة بمثابة تماثيل وثنية غير قابلة لا للأكل ولا للتحطيم مثل مسرحية (الجمجمة) التي ودعت فيها مرحلة الدراسة في معهد الفنون الجميلة والانتقال إلى الحياة العملية. اذكر أن “قاسم محمد” جاء لمشاهدة هذا العرض، مثلما اذكر أيضا أن مجيئه صار في وقتها حدثا يتندر فيه الطلبة حيثما قاموا وقعدوا، لان ليس من عادته أو بالأحرى ليس لديه الوقت الكافي لمشاهدة عروض جميع الطلبة الذين خرجوا من معطفه، لا سيما أنه في ذلك العام الذي تخرجت فيه قد ترك، المعهد وهيئته التدريسية، وذهب يعمل في الفرقة القومية للتمثيل، وعلى كل حال، لم أذكر أنه قال رأيه في ذلك العرض الذي كان الأول بالنسبة لي، وكل ما أتذكره أنه خرج بعد العرض مثلما آتى سريعا دون أن يعلم به أحد. وعلى الرغم من تقاطعاتنا، ولقاءاتنا الكثيرة، والمتعددة، سواء في الإذاعة أو التلفزيون، أو في عروض فرقة الفن الحديث، والفرقة القومية، لم اذكر أننا تحدثنا عن عرض (الجمجمة)، مثلما يحدث في العادة بين أستاذ وتلميذ، كنا مشغولين عنه أو بالأحرى حاولنا أن نتشاغل عنه، لماذا؟ لا أدري، بالنسبة لي كان هذا العرض أول حضور فني على صعيد الإخراج والإعداد المسرحي الذي اعتز به إلى هذه اللحظة. بعد ذلك استمرت لقاءاتنا وتقاطعاتنا في الوسط الفني، وأخذت تكبر وتتسع يوما بعد آخر، ومع ذلك لم نلتق في عمل مشترك لا في الإخراج ولا في التمثيل. وهكذا ظلت طرقنا ومساراتنا على الرغم من القرب والاقتراب تتقاطع، حتى جاءت لحظة السفر إلى فرنسا، عندئذ ذهبت إليه وقلت له ” إنني سأسافر إلى فرنسا من أجل إكمال دراستي..” أتذكر تلك اللحظة جيدا، إنه أبعد نظاراته السوداء عن عينيه كعادته عندما يثيره أمر من الأمور ونظر إلي بتمعن وقال ” إن ما اسمعه لخطب رائع… اذهب لكي تعود لمسرحنا بدماء جديدة… اذهب وتعلم ثم تعلم ثم تعلم قدر ما تستطيع ثم عد لمسرحنا العراقي، فهو بحاجة إليك”. ثم رحلت، ودار الزمن دورته، وصار كل منا في مكان وزمان مختلف، ولم نلتق بعدها إلا مرتين خلال خمسة عشر عاما، وظلت لقاءتنا محصورة بالرسائل وتناقل الأخبار، واعتقد أننا تكاتبنا ثلاثة أو أربعة مرات، وفي جميع المرات، كانت رسائلنا تحمل تأملات وأسئلة وأجوبة جمة، عن المسرح الحقيقي الذي لا يشبه الشعر فحسب وإنما يكون هو الشعر بنفسه، عن أصل المسرح وسبب وجوده أو ضرورته التي تقلق الحواس وتحرر اللاشعور المقهور والكامن في أعماق أعماقنا، عن المسرح الذي يعيد إلينا كل عنفوانها بعد أن يعطيها أسماء ودلالات نستنطقها بوصفها رموزا، لأن المسرح مثلما يقول انتوان ارتو (لا يمكن أن يوجد إلا من خلال اللحظة التي يبدأ فيها المستحيل)، وتساءلنا عن العراق، عن الحياة فيه، عن الجثث التي أصبحت كثيرة للغاية فيه، عن الشوارع التي صار يزدحم الموت فيها، عن أطفال العراق، الذين تحولوا بفعل لعنة النظام العالمي الجديد إلى قمامة وجنائزهم تطوف البلاد كل يوم، كل هذا قد مر من خلال المسرح ولغته، لأننا تعودنا منذ القدم أن لا نتحدث عن شيء ما لم يمر عبر أنابيب وقنوات المسرح، لماذا؟ أيضا لا أدري؟! ربما لأن العالم صار حزينا ومظلما حد العتمة، في حين أن المسرح لا زال يضيء في كل ليلة أقماره في جميع مسارح العالم.

العنوان (لم أجد غير الحلاج لألوذ به في كربتي واختناقي).

الوقت: بعد ظلمة القبر.

محمد سيف
أستاذي الجليل قاسم محمد، دعني أتحدث إليك كما لو كنت قريبا مني الآن، وبعيدا عن ظلمة القبر، التي أخذتك منا… وماذا بعد… أين اليقين من الحلم والحلم من اليقين؟!، أين هي أوطاننا، إنسانيتنا، ومحبتنا من المسرح؟

·        قاسم محمد
لقد أصبحت على يقين بأن الحلم هو سيد حياتنا الإبداعية، فنحن نفقد كل يوم الكثير من ماديات حياتنا، لكننا هنا، عبر طموحنا المستمر في التأسيس… في البحث، في التجسيد، وفي لمعان الفكرة الجديدة نغوص كثيرا… إلى حد أن يصبح المسرح، وطنا للمبدع المسرحي، وطنا لا حدود تحد فضاءاته، ولا جمارك تفتش حقائب أفكاره، الامتداد، والمد، والمد هي عناصر كيمياء حقول هذا الوطن/ المسرح، حيث نستمد مددا من الحلم… الحدس… المخيلة التي لا يستطيع أحد… ولا يستطيع قانون، بكل جبروت قسوته ان يمس – دالا من دالات امتدادنا ومدنا ومددنا الروحي العميق حتى أعمق أعماق تراثنا الإنساني السحيق والمعاصر… والآتي… فليكن الإبداع… الخلق… الاستغراق في فكرة مجنونة تبحث عن صورة تجسدها… فليكن هذا وطنا لنا، ولإنسانيتنا ومحبتنا.

محمد سيف
  وهل هذا ما توصلت اليه خلال أكثر من أربعين عاما من البحث والكتابة والركض وراء حقيقة منسية اسمها المسرح؟

قاسم محمد
   لعل واحدة من أهم توصيلاتي عبر أكثر من أربعين عاما هي إدراكي أن المسرح نوع من التصوف المعاصر الحديث. في هذا العصر المادي المخيف… لذلك يا محمد سيف – تراني أحيانا اكتب حول صوفية فهمي للمسرح فتطلع عندي وريقات كالورقة التالية (.. إن تتصوف … يعني… عميقا تتعرف، يعني تزهد في الزائل… تتجاوز حد الماثل.. يحسبك المدهش.. للروح من الروح.. تتحول.. تحاول يا بناء الله. إن تتكامل.. مع الله.. تتماثل.. تعشقُ.. تتعاشق… ولفرط عشقك يعصى عليك البوح.. فلا تبوح.. تبقى كالمجروح.. معلقا في سمو صليبك، تنسج صوفك، تنزف كالمذبوح.. كنبي يسفح منازفه، يسقيك الجرح معارفه.. ومن تكسر الروح.. تخلق ألف روح.. لأنك تتصوف، لأنك ملهوفا، تتعرف.. لأنك تخرق الصفوف.. صفا، لأنك تحترق.. تخترق.. تعبر إلى اللا مألوف المألوف.. راكضا، لاهثا.. ملهوفا).

محمد سيف
        لقد جئت من العراق إلى الشارقة وذلك بدعوة من وزارة الإعلام من أجل أن تعد منهجا وتصورا دراسيا لمعهد الفنون الجميلة الذي سيفتح في سنة من السنوات القادمة في الشارقة، ولكنك تقيم هناك منذ أكثر من عدة سنوات– ولا نعتقد بأنك لم تقم بشيء آخر غير إعداد منهج تدريسي؟

قاسم محمد
         لقد كُلفت باعداد البرنامج … فأعددت منهجا وتصورا عن المعهد بخمسين صفحة على أمل أن نفتتحه في بداية السنة الدراسية الجديدة، ولكن في نفس الوقت قمت بتدريب مجموعة من الشباب، عبر ورشة مسرحية، وقد ارتأيت في تماريني مع الطلبة بأن لا أعود إلى – الواقعية – والى ستانسلافسكي، بل أن أبدأ معهم من “بيتر بروك” والفضاء الخالي- ولقد مرنتهم على مزج-كيميائيات- المسرح مع كيميائيات الممثل، ومع كيميائيات (المواد الخام)، التي تتحول إلى (مواد ذات وظائف تعبيرية)، ثم إن إقامتي في الشارقة أتاحت لي فرصة الكتابة أكثر فأكثر… أكتب مسرحيات بحوثا، شعرا، أغاني، رواية، وما وصل إليك من مجموعة المسرحيات القديمة والجديدة يترجم لك ذلك كل شيء، فالحلاج مثلا (المصلب الدرامي-حلاج الخبز… حلاج الفقراء…) كتبتها قبل مغادرتي بغداد بشهرين، وكنت في قمة اختناقي… تصور لم أجد غير الحلاج ملاذا ألوذ به لا نفس عن كربتي واختناقي… فانكببت ولمدة شهرين… داخل البيت في بغداد قارئا.. ومفكرا وكاتبا ينحرج معي… ويخرج بي أبو المغيث… رافضا خرقة الصوفية جائلا في أسواق و(داربين) الفقراء في بغداد… باحثا عن رغيف خبز، ورافضا (الجنيد البغدادي) و(ابو بكرالشلبي) لأنهما حبسا الله في صومعة التصوف في الوقت الذي يحتاجه الفقراء الجياع المحاصرون المرضى، المقتولون يحتاجونهم معهم في محنتهم وفي شوارع موتهم! أحببت هذا الحلاج الواقعي-المعاصر… وكتبته كما أحببته، هل تتصور، في حريزان 1998، وعندما ذهبت إلى بغداد لإخراج زوجتي خالدة والأولاد من دوامة الموت… رأيت العراق على هيئة أبي… وأبي واحد من أشهر فقراء بغداد عندما كان حيا – رأيته، أبي الرث. المريض… فاقد المكان وفاقد الزمان… ومدثرا ببطانية ممزقة… ملحة-ممزقة تلعب بها الرياح. وتبعدها عن جسد العراق.

محمد سيف
  بما أنك تعود بحديثك إلى العراق، وبغداد، أود أن أسالك عن آخر عرض مسرحي قدمته في بغداد وما هي حكاية مسرحية (لعبة الصعلوك والباشا)، التي أعددتها مثلما تقول عن قصة القاص العراقي احمد خلف؟

قاسم محمد
        لقد كانت آخر أعمالي وليست الأخيرة مسرحية من تأليفي وإخراجي بعنوان (أب للبيع أو للإيجار) ولقد قدمته على وجه التحديد في تموز1997 وكان عملا – صرخة- صرخة عالية… أثارت مخاوف وأسئلة. وهذه المسرحية، في اعتقادي، واصلت أصالة المسرح العراقي، في زمن قتل الأصالة لدى الإنسان، ولدى الفنان- أما بالنسبة لمسرحية (لعبة الصعلوك والباشا) فلقد أعددتها مثلما ذكرت لك عن أهم قصة عراقية صدرت في بغداد 1995 لأحمد خلف… والذي هو الآن يجلس على رصيف في شارع المتنبي لبيع الكتب. لقد أثارت هذه القصة في وقتها نقاشات وكتابات كثيرة، ورأيت أن ادخلها إلى ورشتي المسرحية البيتية الخاصة لأجري عليها تجاربي. فكتبت نصا من12 شخصية، بكامل شخصيات القصة، ثم أجريت تجارب على الإعداد، فأعددت نصا من 6 شخصيات ثم أعدت الكرة، فأعددت عن الإعداد الأخير نصا من 4 شخصيات، متتبعا في ذلك مقولة “بيتر بروك” الرائعة (لا شيء صائب أبدا لذا علينا أن نديم التفكير والتعبير والابتكار).

محمد سيف
 لماذا الكتابة؟ وما الكتابة أصلا، وماذا تمثل بالنسبة لك، وقد مارستها بشكل متوازي في ومع جميع تجاربك المسرحية الكتابية والإخراجية، ابتداء من تقديمك لرواية الكاتب العراقي “غائب طعمة فرمان”، “النخلة والجيران” التي أسهم هو نفسه معك في إعدادها، ومرورا بمسرحية “أنا ضمير المتكلم” التي أعددتها عن قصائد عن المقاومة الفلسطينية، و مسرحية “شيرين وفرهاد” التي عرقتها عن نص للكاتب التركي “ناظم حكمت” بنفس الاسم، ومسرحية “بغداد الأزل بين الجد والهزل”، وانشغالك بالتراث وأروقة التاريخ والبحث عن هوية مسرحية عربية، ومسرحية “كان يا ماكن”، ومسرحية ” رأس المملوك جابر” عن نص لـ”سعد الله ونوس”، بنفس الاسم، ومسرحية ” طال حزني وسروري في مقامات الحريري”،  و”رسالة الطير”، التي أعددتها عن كتاب “جلال الدين العطار”، ومسرحية “قضية الشهيد رقم ألف” عن أشعار للشاعر العراقي “عبد الرزاق عبد الواحد”، وكان لي شرف الاشتراك بها كممثل، والقائمة تطول ولا يمكن حصرها لغزارتها وتنوعها واختلافها. ونعيد السؤال ثانية لماذا الكتابة، وما هي أصلا؟

قاسم محمد
   اليس الكتابة- كالإبداع-المسرحي، خروج وولوج؟ إنها خروج من عالم ساكن، ساحق، مميت، وولوج إلى عالم الأحياء، والإحياء والإبداع والابتكار ومواصلة الحياة-كشفا وإضافة- حتى آخر نبضة في القلب؟ نعم… الكتابة، كما الإبداع: مقاومة للفناء في عالم كل ما يحيطنا فيه عنصر من عناصر الإفناء، إذن، فلنواصل العطاء… العطاء(الزين) ولا بأس أن (نلقي) بهذا (الزين) في (شط حياة الناس).

محمد سيف
  لقد كنت واحدا من مؤسسي مسرح الطفل على صعيد الإخراج والتأليف والتنظير في العراق بشكل خاص وفي الوطن العربي بشكل عام، ومسرحية “طير السعد”، خير مثال على ذلك، فما هو نصيب الطفل ومسرحه من نصوصك المسرحية التي كتبتها في الفترة الأخيرة؟

قاسم محمد
أخر ما ألفت لمسرح الطفل هو نصان (الديك الفصيح)، وهو نص خليط من اللهجة العراقية والخليجية. أما الثاني، فهو (وادي المسك) وهذا النص يمكن أن نقول عنه أنه عمل تشكيلي حيث الرسم بالجسد. بالشكل المكتمل بالإكسسوار والملابس، بالكتل الموجودة في فضاء المسرح، بالألوان. إن كل المعالجة يجب في هذا النص أن تتم على أسس تشكيلية صرفة. ولقد أثارني التجريب في هذا الجانب، أن يكون العرض المسرحي إلى جانب مكوناته المسرحية، فنا تشكيليا متحركا، متغيرا ومغيرا الفضاء المسرحي طوال دقائق العرض من لوحة تشكيلية إلى لوحة تشكيلية أخرى.

محمد سيف
  وماذا أيضا عن زيارتك الأخيرة إلى بغداد، وما هي قصة رواية (وجع البقايا)؟

قاسم محمد
في زيارتي الأخيرة لبغداد الجريحة حتى العظم، هالني ما رأيت، وقد اطلعت على حياة بعض العراقيين الذين امضوا في الأسر في ايران16 و18 سنة. الخ، على ما رأيت، أن اكتب وأحسست أن كتابة مسرحية، مجال ضيق جدا لاستيعاب تفاصيل التعبير عن دواخل هذه الشخصيات ومن يعيش معهم فكان أن أجريت كتابة رواية (وجع البقايا) كتبتها بنفس واحد… وضعت القلم على الورق ولم ارفعه إلا عند الكلمة الأخيرة.

محمد سيف
        هل يمكن أن تحدثنا عن تجارب ورشتك الخاصة، ورشة الكتابة والسناريو الذي تعتمده مثل جوهر في عملك؟

قاسم محمد
 إن مفهوم ورشتي الخاصة في التأليف وكتابة سيناريو العرض والشعر والرواية، والترجمة، تعتمد في جوهرها على مقولة لتايروف الذي يقول (إن ازدهار المسرح بدا تماما عندما ابتعد المسرح عن المسرحيات المكتوبة وخلق السيناريو الخاص به)

محمد سيف
   ولماذا السيناريو الخاص؟

قاسم محمد
  السيناريو الخاص هو نص المخرج.

محمد سيف
  وما هو نص المخرج هذا؟

قاسم محمد
        هو بالتأكيد، دراماتورجيا الشغل على سلطات النص، الممثل، الفضاء، وسائل التعبير، الفراغ، الإيماء، الإيحاء، التأمل، التحويل، الدلالة… عبر تدفق صورة تبدأ ولا تنتهي حاملة الإيماء أثر الإيماء والشفرة أثر الشفرة، وبناء كيمياء، أثر كيمياء، وأعود إلى ما أنجزت أيضا في ورشتي الخاصة “إنه نص عنوانه ( الممسوسون) إذ قرأت أثرا عظيما لكاتب قديم (100 قبل الميلاد) اسمه السميساطي وعنوان كتابه الضخم ( محاورات)، وهو بمثابة أجوبة من الفلسفة والأسئلة العميقة حول الوجود، الكون، الإنسان من خلال بناء أدبي يذكرك بألف ليلة وليلة ولكن أروع  من ألف ليلة وليلة بألف مرة، المهم وجدت نصف صفحة في المحاورات تقول إن جماعة من الناس كانوا يشاهدون مأساة في المسرح وفي مشهد الهول من التراجيديا تنتاب الحمى المشاهدين فيخرجون من المسرح إلى الشوارع وهم يهذون… كل منهم يهذي بمونولوجاته الخاصة تحت تأثير الهول، مشهد الهول في تراجيديا الأهوال. ولقد اشتغلت على هذا المشهد عدة مرات وعبر سنين عديدة، إذ بدأت الشغل فيه بالضبط حال انتهاء القصف على بغداد 1991 وكانت تلك الأيام أيام الهول الهائل، استمرت 43 يوما، أثناء أيام القصف كنت الجأ إلى الحلاج وعندما يشتد القصف كنت الجأ إلى التوحيدي وبالذات أثمن كتبه التي سلمت من الحريق – لقد حرق التوحيدي كتبه – تستطيع أن تقرأ مشهد الحريق هذا في مسرحيتي (شخوص وأحداث من مجالس التراث). المهم كنت الجأ إلى كتابة (الإشارات الإلهية) ثم اهتديت في لحظة حصار قاتلة إلى المحاورات للسميساطي، فكان نص الممسوسون). إنه نص مهم على صعيد الشكل، المضمون ووسائل التعبير.

محمد سيف
  وماذا عن نص مسرحية (لغة الأمهات) الذي هو الآخر في اعتقادي، قد خضع لعملية مفهوم نص المخرج – الدراماتورج؟

قاسم محمد
   نعم، إنه الآخر مثل أكثر نصوصي، إن لم تكن كلها خضعت لنفس المفهومة عبر بناء سيناريو خاص جدا، إذ أن المسرحية كانت في البداية تتألف من 18 شخصية، فشغلت القلم والفكر فيها متتبعا أسلوب “بروك” في مسألة التشذيب والتقليم فكانت النتيجة أن جهزت نصا آخر من شخصيتين فقط، وقصة هذا النص تدور حول أمين، أم محتلة وأم وطنية… تثار بينهما فكرة إبعاد لغة السلاح وإحياء لغة الأمهات! لو تحدثت أمهات العالم مع بعضهن البعض بدل من يتحدث السياسيون والقادة العنجهيون لسادت لغة السلام التام ولدفن السلاح، أو في الأقل، لأصبح السلاح ملعونا كما لعنته الأم في مسرحية (عرس الدم) للوركا (لتكن ملعونة كل الأسلحة…) إنه أحد المنولوجات الأمومية الجميلة، ولكن قبل أن أقرا فكرة التشذيب والتهذيب والتقليم عند “بيتر بروك” بسنوات كنت قد عملت أثناء إخراجي لمسرحية (لغة الأمهات) على التشذيب والتقليم، بدءا من النص، إذ حذفت 16 شخصية وأبقيت اثنين فقط. ثم أثناء التمارين – أنا اعتبر التمرين أهم من العرض- أثناء التمارين وضعنا على الخشبة بابا وشبابيك وأرائك وطاولات كمكان للغرفة التي تعيش فيها الأم الإنجليزية، أثناء التمارين انتبهت إلى أن أكثر ما موجود في فضاء مكان اللعب إنما هو زائد عن الحاجة غير فني ثقيل جامد وساكن لا يضيف دراما الأداء، فنبع أمامي سؤال – التمرين – ما هو التمرين؟ أهو لحفظ حوارات؟ أهو لتأكيد مشاعر؟ أم هو حفظ حركات من مكان إلى مكان ما…؟ كلا.. وألف كلا… إن التمرين المسرحي هو حالات ابتكار متواصلة. ابتكار ماذا؟ ابتكار لتحويل الحقائق الكامنة في النص، في اللغة، في الأفكار في الحياة، إلى فنون. بما أن المسرح يحول الحقيقة إلى فن… (والفن هنا ابتكار وتغذية الابتكار).

محمد سيف
  وما هذه التغذية التي تتحدث عنها؟

قاسم محمد
  التغذية هي (مد) مد من الداخل الإنساني المبدع، لا الخامل أي امتداد الفكرة التي يبتكرها – التمرين – سواء كان ممثلا أو مخرجا – بغذاء، والغذاء هنا إغناء التفاصيل الفنية، أي وسائل التعبير.. الذهنية، العضلية، الصوتية بكل ما يجعلها حية طوال ثواني العرض- تماما كما أهمية النسغ للحياة… النسغ لا يتوقف ولا جزء من الثانية من مد الحياة… بالتدفق الحي بالإيقاع، بالإحساس، بالتصوير، وبخلق التصور، والامتداد به إلى المتلقي- إلى الآخر- ليتحول من مشاهد إلى مشارك. عذرا لقد شطحت قليلا، فلأعد إلى مسرحية (لغة الأمهات) وتمرينها. عندما وضعت كامل الغرفة على الخشبة انتبهت إلى أهمية التشذيب والتقليم، فأخذت أشذب، ومع الأيام رحت أرفع الباب، ثم بعد أيام رفعت الشباك، وهذا جر إلى أن أرفع الجدران-هنا صار عندي فضاء خال- يا لروعة الفضاء الخالي-، ثم بدأت مع الأيام ارفع الأرائك وطاولة صغيرة جدا عليها أدوية الأم الإنجليزية، وإنسانتان هما الأمان المتصارعتان للحفاظ على جوهر الأمومة. هذا التشذيب ولد فكرة عميقة هي.. الإنسان ومأساته فقط، وقد تم الشغل على إعادة تشكيل الفضاء الخالي لمئات المرات أثناء العرض بواسطة روح وحركة ومعاناة داخل وخارج الإنسان /الممثل. ولو عقدنا مقارنة أو مقاربة ما بين “بروك” حينما يقول: ” لا شيء صائب أبدا لذلك علينا أن نديم التفكير والتعبير والابتكار”. وما قاله جدنا (البصري العظيم أبو عثمان عمرو بن بحر الجاحظ) ” الصواب اليوم قليل وصاحبه مجهول – سنجد ما بين المفهومين – أي مفهوم مقولة (الجاحظ) ومفهوم مقولة (بروك) لا شيء صائب أبدا. إن هنالك امتدادا من حيث المدخل الجدلي لذاكرة الإنسان المتواصلة عبر الأزمنة والأمكنة الممتدة والمتباعدة، ثم أليست الثقافة حقلا من حقول التبادل، مثلما يقول بروك نفسه؟

  إن هذا الحوار، يؤكد لنا ثانية، بأن مهنة المخرج الدراماتورج تحتاج إلى نوع من الاتساع غير العادي من المعرفة، والتعلم الصعب، والتمكن من الوسائل التعبيرية التي هي محددة وخاصة بها. وإن المخرج لا يحتاج إلى المعرفة فقط، وتطور العملية الناتجة من اختيار النص إلى التمثيل، وإنما أيضا إلى توفير القراءة الملموسة والمعاصرة، وإلى إنشاء تصور جمالي وأسلوب اتساقي، وإعطاء شكلا إلى العناصر الدلالية لجعلها محسوسة وتحيل إلى ما تقترحه. وفي نهاية المطاف، إن عمله لا يحتوي على فكرة الارتجال فقط، وإنما تنطوي على التكامل بين العمل الدراماتورجي الذي يقوم به مع مجموعة واسعة من المهام الفنية والحرفية، المنظمة في السياق الجمالي الخاص، الذي يعطيها التماسك السردي. وبناء على ذلك، فإن الفصل بين قيادة الممثلين والمخرجين لا معنى لها. وإنه من غير المفهوم لنا أن لا يعرف المخرج كيف يتعامل مع ممثليه، أو أنه يجهل أو يتعامل برعونة مع جميع العناصر التعبيرية، التي يمتلكها، فضلا عن مميزاتها الجمالية. هذا بالإضافة، إلى أن الإخراج وتحقيقه في جميع جوانبه وخصائصه، ليس بشيء يمكن أن يكون مرتجلا، وإنما هو ضرورة أساسية لتأسيس الممارسة المسرحية القابلة للحياة، ولنموها وازدهارها.

---------------------------------------------------------
المصدر : موقع مهرجان القاهرة للمسرح التجريبي والمعاصر 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق