مجلة الفنون المسرحية
ستار
إهـــــــــــــــــــــــــداء
بكُـل مــحَــبـــة وإخـــلاص ، لـذوي الإحـــتيــــاجات الــخاصــة.
الشـــخــــصــــيـــــات :
1)) أصــــوات مختـلفـــة
2)) الصـمـاء: فـتاة في مقتبل الـعمر
3)) الأعمـى: شـاب من أواسط العقد الثالث
4)) الحارس: رجـل يبدو في عمر الخمسينات
ظلام تام ؛ مرفق بموسيقى هادئة وسـاحرة. برهـة يسمع صـراخ امرأة في حالة مخاض؛ ثم صراخ امرأة ثانية في حالة ولادة ؛ فـتظهـر صورة عبر ( الفانوس السحري) لدور القصدير؛ وصراخ المخاض يزداد؛ ثم تظهر صورة أخرى لـدوار من إحدى البوادي ثم أخرى من إحدى الفيافي الصحـراوية ؛ وصراخ الولادة يزداد ويزداد ؛ ثم ينقطع الصـوت ؛ فتسترسل موسيقى خليط من الأوانـي والصفارات والضجيج ؛ ثم تبدأ بالخفوت ؛ ليسمع صوت الجماعة ؛ عبر الكواليس أو عبر تسجيل :
صوت الجـماعة :
من حيث لا ندري؛ في دور القصدير
نجْـري ونجري ثـم نَـجْـري
في زمان يحاصرنا
يغْـتـالُــنا
يُـقـَـزِّمُـنا
يَـمْـسخـُـنا
عَـورتنا مكْـشوفة والصمت حليفها
في دور الـصفـيح ؛ وفي الصفيح
تجـرعنا الألـَم والحَيْـرة
وهُــم على الأرائك يتفكَّهون !
يُـزيفـُون الصُّـورة .
يمارسون الـوقاحة
بـكل صراحة.
يـخْـفــونَ الحقيقة من الساحة !
بنخوة ينامـون على الكراسي !
لكي لا يروا قهرنـا المعْـلن !
مــعْـلن في موتـنـا المـؤجـل.
[تبدأ إضاءة فوقية نتعكس على برميل لونه أبيض ؛ ثم تنعكس إضاءة جانبية على برميل أخر لونه أسود ؛ وتبدأ الإضاءة تتلاعب بين البرميلين؛ وتسترسل موسيقى الناي بإيقاع حزين؛ مرفوق بضجيج الأواني . تتوقف الموسيقى بشكل مفاجئ. ويسمع صوت يصرخ من داخل البرميل الأسود]
الصوت1 : من يبدد هـذه الظلمة القاتلة ؛ من يزيل هذه الظلمة المرعبة..إنها مرعبة ؛ قاتلة ..قاتلة؛
[يسمع صوت يصرخ من داخل البرميل الأبيض]
الصوت 2: ماذا تقــول ؟ أين أنتَ ؟ ماذا تقــول ؟
الصوت1 : منْ هـناك ... من معي في هَـذه الظلمة ؟.. ظلمة خانقـة....حـقا إنها ...خانقة ؛ خانقة
جـدا... أين الشموع ؟ أين المصابيح ؟ أين الفوانيس؟ لتنير سبيلنا ( ظلام تام )
إن الاختناق يزداد ضراوة... يزداد قــوة .
الصوت 2: لم أسمعْـك جيـــدا ؟
الصوت1 : إنها العـزلة عن العالم ؛ يامن لم تسمعني....؟ ما أقـسى العيش في هاته الظلمــة ...إنها
تزداد...؟ إنها تمسخـنا ؟ لـقدْ حولتـنا لأجْـساد بدون معنى ....؟
الصوت 2: وما أقـسى العَـيش في هـذا الصمت... إنها مهزلة المهازل... أتسمعني ؟
الصوت1 : الظلمــة مهزلــة .
الصوت 2: الصمت أم المهازل.
الصوت1 : الظلمة تتمدد... إنها تلف جسدي كـداء الشر؛ الذي يخاف منه كل العباد... روحي
تخْـتنق... الاختناق يقـترب ؛ هل هناك من يفـك حصاري ... ؟ هل هناك من يفُـك
ظلمتي...؟ لا أحـد يستطيع مـحو الظلمة ؛ إنها تسيطر على الكل....
الصوت 2: ماذا تــقـول يامَـن تطلب النــجدة ؟
الصوت1 : لـسْت غارقا...بل أعـيش الظلمة .
الصوت 2: هل الأمطار تسقط ؛ حتى تريد مِظلــة ؟
الصوت1 : أريد نورا يضيء حياتي ... يامن تسمع صرخـتي... الظلمة أنهت أحلام طفولتي
..وشبابي قلبه يشيخ؛ ويذبل رويدا رويدا ... وحسراته ... ! وحسراته... !
الصوت 2: حشرات.... هل في مكانك حشرات كمكاني .
الصوت1 : ( بهدوء) مـن أنتِ ؟ من تكونين ؟ فمـن أي مـكان تتكلميـــن ؟ ( صارخا) مـن أنتِ ؟
هل إنسيــة أم جـِنيَّـة ؟ مـن أي مـكان تتكلميـــن ؟
[ تسترسل موسيقى كناوية صاخبة ؛ ويبدأ حبل متين ينزل من الفَـوق ؛نحو البرميل الأسود. فتنخفض الموسيقى؛ وصاحب الصوت (1) يبدأ في الصعود من البرميل الأسود ؛ ليظهر بلباس كله أبيض؛ ونظارات سوداء؛ وفي يده عصا بيضاء؛ وهو يتحسس في الحبل ومحاولة الإمساك به وهو داخل البرميل ]
الصوت 2: ( تخرج من البرميل الأبيض ؛ ترتدي لباسا كله أسود) ما هـذا ؟ ما هـذا ؟ مستحيل في
المستحيـل ....صمت في صمت ؛ مستحيل هـذا الصمت الرخيص... صمت يحيطني...
هُـدوء يحيط مكاني... لماذا توقفَـتِ الأصوات على الصراخ؟ مَـن أخرسهم... ؟ أكيـد لا
أسمع أصواتا... ولا كلاما...ولا صراخا....منذ زمان؟ ربما لم يعد التعبير مسموحا...
والكلام التافه مسموح ربما... والضجيج على ما يبدو مسموح به...ربما أصبح الصمت
مباحا....والهدوء مقبولا...و السكينة فضيلة... ماذا أصابنا ؟ ربما أنني صماء... مستحيل
أن أكون صماء... إنني أسمع أمواج البحر...نعم هي أمواج من بعيد... (تضحك)
الصوت1 : (يمسك في الحبل جيدا) يامن تمد حَـبلك... ارفعني جيدا؛ إلى الأعـلى....أخرجني من
هاته الظلمة التي مسخت النور... النور مفقود ... كأنني في قبر يا صاحب الحبل حاول
ثـم حـاول أن ترفعني إلى الأعلى؛ أرجوك اخرجني من هاته العتمة ؛ربما لا تراني
جيدا (يتمسك بالحبل جيدا) أخرجني من هـذا القبر اللعين... إنَّـه قبر بلا لــحْـد يا صاحب
الحَـبل... !.أتسمـعني ؟ صمت رهيب يحيطني... يا صاحب الحَـبل ! هل الحبل نور؟ أي
نور وصاحبه صامت... هل صوته يعيش مسخا وسط العتمة القاتلة بحلاوة وعودها...
الكل في العتمة هـائم ( يلعب بالحبل) لماذا ولدت وسط الشعارات والمواقف الخادعة ... يا
صاحب الحَـبل ! ألا تستطيع أن تجيبني عن أسئلتي؛ لتزول حيرتي... الحيرة تقتلني... اليأس
يضاعِـف قـوته لكي لا أكون... متى كنت لأكون ... العمى حجب مسيرتي... مَـسخ
مساري...الحيرة سليلة الدوران... اليأس سليل العزلة القاتلة... إن صمتك هذا يخفي سرا رهيبا
لولادتي... هَـل الحبل جوابه ؟ ممكن ....فالرحيل إلى الذات أجدى من التيه والدوران في فلك
التشتت... الرحـيل إلى أديم آخـر أهون من دور القصدير والوحل والطين والذباب والضجيج .
فضاء آخر ربما سيضمد جـراحي …ستتنفس روحي بعـيدا بعـيدا عن هذه العتمة...عن هذا
الصمت المريب...
[ ظلام مفاجئ؛ مع قرع الطبول بشدة ؛ تظهر خلفية في وسط الركح؛ تشير للبحر و هيجانه؛ وفي الوسط تقريبا صخور على شكل سفينة .فمن الجهة اليمنى؛ إحدى الصخور فـوقها أعمى، مرمي في حالة غيبوبة . وفي إحدى الجهات صخرة متوسطة؛ تجلس عليها الفتاة الصماء ؛بعدما فحصت الأعمى جيدا؛ حاملة عصاه الأعمى ونظارته؛ وهي تتأمل في الجُــثة]
الصماء : (تحرك جسده بالعصا ) إنه يتنفس ؛ عجبـا لم يمت... ! كيف وصل هــذا الأعمى ؛ لهــذا
الساحِـل الموحش إنه ساحل مقفر وخالي؟ تلك هي حقيقته ...هل انكسر قاربه ؟ هل غرق
وسط البحر؟ أم غرق في بلدته وجرفه المد والجزر إلى هنا ؟ إن كانت هجرته سرية؛ فأين
الجُـثث الأخرى ؟ أين أشلاء المركب الذي كانوا فيه؟ كيف هاجر وهو أعمى ؟
[تحاول إنهاضه ؛ فيبدأ بحركات ثقيلة؛ وهو يسعل ويقذف المياه من جوفه]
الأعمى : ( يجْـلس جنبا على الصخرة ) أين أنـا ؟ ومن أنا ؟ ما اسمي ؟ لماذا جسدي مبلل هكذا ؟
كيف حدث هــذا ؟ أيـن أنــا ؟
الصماء: ( تمد له النظارة السوداء) خـذ نظارتك وعصاك ؟
الأعمى: أين هِـي عصاي ( يتحرك عفويا لأخذها ) من أنتِ ؟ من رماني هـا هُـنا ؟ من أنتِ... قلت
من أنتِ ؟ هل أنـتِ جـِنيَّـة أم إنسيـَّة ؟
الصماء: البحر هائج ؛ والأسماك طارت و هجرت أعشاشها..
الأعمى: (يحرك الصماء بقوة) اسألك من أنتِ ؛ وتقولين البحر هائج ؟
الصماء: لا أسمَـعـك ؛ يــاهــذا ؟
الأعمى: ولكن ترينني..
الصماء: (تأخذ بيده ؛ متجهة إلى الصخرة المتوسطة) لقـد كنتَ شِـبه مَـيت هـاهـنا في الساحل.
الأعمى: الكل هنا مَـيِّـت ! الحُـب؛ مَـيِّـت ! اللقاء مَـيِّـت ! الصفاء مَـيِّـت ! الفـعل مَـيِّـت ! الإخلاص
مَـيِّـت ! كل شيء في هذه الدنيا مَـيِّـت في مَـيِّـت.....
الصماء: ماذا تــقول يا رجــل ؟ لا أسمعُـك جيدا ...الصمت دائما مصيرنا...إنه قدر أجوف يامن
يحيطك الصمت مثلي !!
الأعمى: تحيطني الظلمة يا أختاه (يجفف منديله وأكمام لباسه) بدورك مسخوك حتى لا تسمعينَ
نسمات الوجود الحق... الكل مسخـته الأهواء والرغبات ...المسخ شـَوَّه صورتنا؛ إرادتنا؛
قدرتنا .
الصماء: المرْكب الذي كنت فيه ربما تكـسر عن آخره ؟
الأعمى: (يضحـك) أي مركب ؟ لقد كنت في براكتنا بدور الصفيح ؛ استمع بهدوء لأصوات
وطقطقات سقـف القصدير الذي تتلاعب به الرياح الرملية جنوبا؛ والرياح البحرية شمالا؛
كنتُ في براكتنا أتأمل للأغاني التي تشوه حقيقة العميان مثلي... وإذا بي أسمع صرخات
نساء وأطفال الدوار....
[بالإمكان استعمال = الفانوس السحري = يظهر صورا لمحاولة عملية هدم إحدى دور القصدير؛ وتصدي الساكنة للسلطة ؛ مرفقة بأصوات خارجية]
الصماء: هل كنت وحدك في المركب؛ أم معك مهاجرين آخرين ؟
الأعمى: (يضحك) إذن العمى ليس مسخا؛ ما دمتِ لم تسمعي ما أقوله !
الصماء: اللقلاق هجرت البحر منذ زمان؛ وتبعها النورس ....
الأعمى: لقد تبعَـتـنَا جرافـة؛ لضمان سير عملية الترحيل ؛ فحملت معها براكتنا للأعلى ثم هوت عن
آخرها.... التهمة نعيش في سكن غير لائق؛ حاولت مقاومة بعض الأعوان لانهم
سيقدرون عماي لكن هراوة طائشة نزلت علي ؛ لأجدك أمامي... ما أفظع هدم البيوت فوق
رؤوس المحتاجين والفقراء بدون مقابل !!
الصماء : أفكر دائما هل الأسماك تتزوج شرعيا أم ْ لا .....و...
الأعمى: ( يقاطعها بسرعة) ولا يتهمون بأنهم مجرد محتلين للبحر؛ ولا تمارس عليهم عمليات الهدم
بالليل والنهار...
الصماء: وهل الأسماك تمارس احتفالات الزواج مثلنا ؟
أعمى: (ينهض) تـعـيشـين وهْـم الحكايا ؛ حكايا الجدات... فكل الحكايا هـي تضليل ووهْـم ، في
زمن الأوهام .
الصماء :أه ؛ ما ذا قلتَ ؟ لم أسمع جيدا ؟
أعمى: ( يهم بالانصراف) ومتى أسمعونا الجيد والمفيد ومتى سنسمعه ... في أزمنتي ارتضيت
بالعمى وجها لكي لا أرى نـفاق الناس وزيـف الواقع ! وها أنذا الآن أعاني من آفة
الصمت... صمَـمَكِ سيدتي أسـقطني في عذاب يتشابه بين الفصول والنهـاية.... كلامي
أمسى سرابا لمسمعـك ! وجوابك عذاب لمسامعي ....ها نحن في مكان واحد ولكن غرباء
.... غرباء ...لا أعـرف أسمكِ ولا اسمي؛ ومن تكونين حـتى ؟
الصماء: الغــراب جميل ؛ رغم أنه أسود اللون ! هل سمعت عن حكاية الغراب والثعلب ( يبتعد
قليلا عن الصخور وتقترب منه الصماء) إلى أين ســترحل ؟
الأعمى: ألا يكفيك هذا الرحيل؟ مكان لا أعرفه ولا يعرفني؛ ولا أعرف كيف ؟ ومتى؟ وصلت إلى
هـنا ؟
الصماء: هل أحك لك حكاية الغـراب والثعلب ؟
[يدفعها الأعمى لا شعوريا فتسقط أرضا؛ وتبدأ الإضاءة المتوفرة تتراقص؛ وتتلاعب ؛ كأنها في
صراع حاد ]
الأعمى: (يبتعد إلى حافة الركح ) كل الحكايا قناع لحقيقة ما يقع وراء الجبال والمداشر ! الحكايا
زيف لما يحدث الآن وقبل الآن! فهي وهم في وهـم كل الحكايا... مـن الأجدى أن تحكي
لماذا ولدت هاهنا...لماذا وضعت في سقف مهترئ ؛ تتسرب منه حرارة الشمس القاتلة
لجسد كل ساكنة دور القصدير وغيره. إن جسدي أمسى مخروما لتزيد الحرارة في ضعْـف
قدرتي... وعظامه أصبحت هشة بفعل البرودة ليلا....
الصماء: هل أحك لك عن السمكات الثلاث... إنها لذيذة وروعــة.
الأعمى: ( يتحسس للوصول إليها ) ألآ تعرفين أن تحكي لـحظـة: عن وجع الصمم الذين تعيشينه…
الصمم موت لصوت الحياة؛ مَـوت يهددك في كل لحظةٍ ...فيا هول الكارثة ؛ إن كُـنا نسمع
سوى الصمت ! احكي يومـا عـمن يفكر بالرحيل تاركا تربته و إخوته وأحباءه… تاركـا
ذكريات طفولته و شبابه ؛ ذكريـات في مهب الرياح... و لكن إلى أين…؟ لا يدري ! إلى
أين تسير بـه سفينة الـرحيل ؟.... احكي ساعـة: بأنني منذ ولدتُ ما شربتُ حـَـليبا لذيذا...
ولا تلذذت بطعام نـقي وممتع... ولا لمست لباسا نظيفا ... ولا فَـرحت بلعبة أو ركبت
أرجوحة... ليس لأنني أعمى بل لأنني فقير محتاج. احكي يوما أن هناك مثلي مـا أكلـوا
زرعا ولا سمـكا طريا.... وهـا أنذا لا أعْـرف أين أنا ؟ لأن كل الخرائط تتشابه... وفي تشابه
( يصرخ ويتحرك اعتباطيا بين الصخور) وقبل أن أكون ذاك المعتوه... لا أحد كان يقترب
مني... الكل كان مبتعدا عني؛ إنهم متواطئون في ممارسـة لعبة رفض وجودي.. تساءلت
وتساءلت ؛ حتى كاد دماغي سينفجر يوما : كيف تشتعل القناديل فرحا ؟ كيف يكون الضياء
؟هل ذاتي ترفض ذاتها؟ أم أنني نـتن الرائحة ؟.... إن الروائح والعطور تبخرت ؛ كأنني
أمْـلك عاهة مُعدية ؛ وغدتْ صورتي قناعا ممسوخا... فمـن مسخني هَـل القدر أم البشرُ ؟
كيف كان لي أن أكتشف ذلك ! والمرآة لم تكن موجودة أصلا في فضاء سراديبه إنـها العتمة
أعماقـه لهاث...لا أمانَ و سلام فـيـه ؛ فضاء كان لا يشعرُني بالطمأنينة…؟
[ تتوقـف الإضاءة عن التلاعب ؛ ويسمع هيجان البحر؛ وتلاطم الأمواج]
الصماء : البحرُ هائجٌ و الأمواجُ عاليةٌ؛ المَـدُّ و الجزرُ؛ يلـخبِـط الأفكار... فبعض الأفكار
تتوقـف وبعضها يتحطم في البداية ! صاحب تلك الأفكار يتلعثم تارة ... والآخـر يخاف من
المَـد والجـزر.... ولكن مـَنْ ....مـَنْ أتـى بِـك إلى هـذا الساحل المخيف...؟
الأعمى: (يضحك) هل أنت صماء أم مجنونـة ؟
الصماء: ( تقترب منه جدا) بخلاف السمكات الثلاث كن يعِـشن في بركة ماء...
الأعمى: (يضحك) عادت بنا لتحكي حكاية السمكات الثلاث ... إنها جِـنس امرأة؛ ما تريد قوله
ستقوله رغم أنف الجميع ...( يجلس على الصخرة؛ ويطأطئ رأسه )
الصماء : (تتحرك بسرعة) كانت ثلاث سمكات صديقات يعِـشن في بركة ، السمكة الأولى جميلة
الشكل ، معجبة بنفسها ، ولكـنها كانت كسْلانة ؛ والثانية كانت ذكية لكنها مُهمِـلة ، أما الثالثة
فكانت عاقلة مدبرة..... ( ترتبك وتتجه نحو الأعمى) هيا اخفض جسدك للأسفل ....بسرعة
اخـتبئ.. فـحـراس الساحل قادمون... بسرعة اخـتبئ..
الأعمى: ( مرتبكا) أين أخْـتبئ يا امـرأة ؟
الصماء :وراء الصخرة ....
الأعمى: وهَـل أراهـا؛ حتى أخْـتبئ وراءها ؟
الصماء:( تمسك بيده ؛ وينحنيان؛ ويظهر إلا رأسهما) من مَـسخَـك حَـتى لا ترى نورالحياة ؟
الأعمى: هل العمى مســخ ؟
الصماء : (تتلعثم) لا ... ولكن...أقصد.. هَـل ولدتَ فاقد البصيرة ؟ أم حالة مرضية ؟ أم خطأ في
الرعاية والاهتمام ؟
الأعمى: ( يتحسس الصخرة) أنت على دراية بحالة ذوي الإحتياجات الخاصة... أين عصاي ؟ أين
عصاي ؟
[تزحف الصماء نحو العَـصا ؛ ما إن أمسكـتها؛ حَـتى وضع الحارس رجله اليسرى ؛ على العصا
ولكنها تحاول التراجع على بطنها. لكن الحارسَ يسدد بندقيته نحوها؛ فتقف على ركبتيها؛ وهي
في حالة ارتباك]
الصماء : يـا هــذا أنــا لستُ مهاجرة سـِرية....
الأعمى: ماذا وقــع ؟ أين أنتِ يا أخْـتاه ؟
الحارس: أه ... من أين هـذا الصوت ؟ ( يصرخ ) مـن صاحب هـذا الصوت؛ تكلمي وإلا فرغت
رصاصة في رأسك ؟
الصماء : أنا من منطقة – كونينـْك- أبحَـث عن الحوت الذي أكل أبي .
الحارس: ( يصوب بندقيته في جبهتها) مـن صاحب هـذا الصوت؟
الصماء : فقالت السمكة العاقلة : هَـل عرفت الآن أنني كنت على حق عندما أسرعتُ بالابتعاد عن
البـِركة والضفادع ؟
الحارس: ( منفعلا ) أي سمـكة ؛ وأي بـركة ؟ يبدو أنك حمقاء !
الصماء : ( تزيل البندقية من جبهتها ) لقَـد خسرت صديقتنا السمكة؛ حياتها بسبب غرورها وكَـسلها
وكادت الأخرى أن تقع في يد الصياد بسبب إهمالها....
الحارس: ( يصفر بصفارته) سأستدعي القـوة لترحيلك للمركز؛ تم مستشفى الأمراض العصبية .
الصماء : العـصـا؛ نعم العصا... نسيت أن أمدها لــه
الحارس: ( يسمح لها بأخذ العَـصا) لـمن هـاته ؟
الصماء : هَـا هـي عـصاك يـا أخي... خذها ولا تـخـف .
الأعمى: ممن سأخــاف؟
الصماء : ( تمسك بيده) الثعلب أكل عَشــاء الغـراب؛ وتركه بالجوع
الأعمى: انتهت حكاية السمكات فعُـدت للغـراب والثعلب.
الحارس: مـا قصدكما من الغراب و الثعلب ؟
الأعمى: إنــها حكاية الجدات ....( يشير للصماء) مـن هــذا ؟
الحارس: (يمسك به بقوة) هذا الذي سيرحلك إلى مثواك الأخير
الأعمى: ألا يكفيك هـذا الرحيــل؛ بدون رحيـل ؟
الحارس: لـم أفـهم ؟
الأعمى: ( يمسك في الحارس) يا الله... لو كنت فهمت كيف رحلتُ إلى هنا ؛ لا انتهتْ حيرتي؛
وحماقة تفكيري ؛ من دوار - الغالية - إلى ساحل – كونينْـك – مستحيل أن يكون هذا رحيل؛
بل تهجير لم أعـرف صاحبه.
الحارس: اجلس ياهـذا ( تتحرك الصماء) ابقي أنت على ركبتيك أيتها الحمقاء.
الأعمى: إنها صمــاء؛ لا تسمع أي شيء.
الحارس: إنها تتحامـق .... كيف تنتظر والدها هاهـنا ؛ في ساحل مهجور وهي أصلا من منطقة
مهجورة !!
الأعمى: لا أدري !! ربما تتشبثُ بأمل عودة والدهــا ... فبغيابه تكسر ضوء بيتـهم... كما تكسر
ضوئي؛ بخطأ تافه ؛ خطأ لا يقدر حق الطفولة وشغبها
الحارس: ( يصوب بندقيته دائما نحو الصماء) كيف وقع لك ؟
الأعمى: ( يتنهد طويلا) يطول شـرحه
الحارس: اختصـر في شــرحه
الأعمى: ( يبدأ يلعب بالعصا) في ساحة قـريبة ومليئة بالأزبال والقاذورات وروائح البهائم ؛ كنا
نلعب نحن أطفال دوار جاميكا ...
الحارس: ولكن قلت قبل قليل أنت من دوار الغالية ؟
الأعمى: أي نـعم ! في تلك المزبلة.... بأقدام حافية ؛ وأجساد شبه عارية؛ نتقاسم طفولتنا الهاربة من
طفولتها... وفي إحدى الصباحات المشمسة جدا... عمت زوبعة غريبة... تحمل غبارا له
روائح تخنق الأنفاس؛؛؛ اختنقت... وزاد الاختناق أشده... فبدأت دموعي تسيل وتنهمر؛
وبكائي لم ينقطع ...
الحارس: لم تجبني هل أنت من دوار الغالية أم جاميكا ؟
الأعمى: هما معـا لأن والدتي كانت لا تستقر في دوار واحد؛ لأنـها تهجرمن دوار إلى آخر خوفا
من العار
الحارس:( يفرك جبهته ؛ ثم يضعها على فوهة البندقية) لم أفـهم جيدا ؟
الأعمى: لم تفهم ... كلنا ذاك الرجل ....فلقد كانوا يـا هـذا يتهمونني أنني لقيط؛ بدون أصل ولا
نسَـب.
الحارس: كـَيـف ؟
الأعمى: ( يتهكم عليه) أعـرف أنك لــم تـفهـــم ! كانت والدتي ؛ تشيد بوالدي ؛ وببطولته
وشهامتـه ؛ ولكن خلسة عيونها تنهمر بألوان بكاء...
الحارس: وهل تتذكر أو تذكرت صورة لوالدك ؟
الأعمى: أبدا؛ ولكن عرفت فيما بعد من أحد الرجال... أن أبي قٌـتـل في المعْـتقل...
الحارس: اي مـعـتقل ؟
الصماء :(تتحرك على ركبتيها) أما السمكة الثانية؛ فلقد كانت والله؛ ذكية لكنها بكل أسف مُهملة ،
ورغم ذلك تشغل عقلها بسرعة ، وتحْـسن كيفية التخلص ، وتنجو من الكوارث والمصائب
في الوقت المناسب .لأنها كانت تعرف كيف تتخلص من الخطر في اللحظة الأخيرة ؛
[ يقـف الحارس؛ غاضبا وموجها بندقيته إلى جبهتها؛ وبواسطتها يأمرها بالركوع]
الأعمى: (يبحث عن اتجاه بندقيته) اتركها تتكلم كيفما شاءت... إن لها شوق عارم بلقاء أبيها ... مثل
أبي الذي ضاع بين الجدران والقـضبان؛ لماذا ؟
الحارس: ربما كان مجرما أو معارضا
الأعمى: وليكن معارضا؛ أليس من حقه أن يكون له رأي ؟ وليكن مجرما ؛ فمن حوله لمجرم؟ سؤال
لا أحد سيستطيع الإجابة عنه... لأن الأفواه مكمومة.. إنه لم يختر أن يكون كذلك ؟ ولكن
الأفواه اختارت أن تكون كذلك
الصماء: ( تضحك بشكل هستيري) حاول الصياد أن يمسك السمكة الذكية بيده ، بعدما جَـرَّ بسرعة
شبكته المنصوبة ، لكنها عضته في أصبعـه ، فـبدأ يصرخ ويصرخ ؛ من الخوف المفاجئ
وزاد خوفه حينما قفزت بخفة عجيبة ، وأسرعت إلى حيث صاحبتها العاقلة ؛وهي تتألم
وتلهث ، وأخبرتها بما حَـدث مع صديقتهم السمكة الكسولة
الأعمى: كما حدث لي مع ذاك الطبيب التافـــه
الحارس: ( ينهض) أه نسينا حكاية عماك ؟
الأعمى: الغبار انغرس و تعمق في عيني؛ فأوصلتني والدتي لمستشفى الحي؛ وهي تلهت وأنا أتألم ؛
هي تجري وأنا أصرخ... لكن تركونا ساعات وساعات ننتظر؛ حتى صرخت والدتي في
بهو المستشفى... ولا مجيب ؛ وبعد تداخل صراخها وبكائي المرير؛ خرج ذاك التافه ؛
يتبخـتر؛ ويمضغ علكا كأنثى ؛ وأنا أراه بين الغمائم التي تتراقص بين عيني... وضع عليها
برهَـما؛ دونما عناية ولا تنظيف لعيني ... وفي الصباح لم أعد أرى إلا غمائم بيضاء ؛ وألم
حـاد في داخل عيني... مرت الأيام تلو الأيام؛ فعدت لا أرى سوى السواد في السواد....
الحارس: ( ينهار) هكذا وقع لابني الوحيد؛ وإن كانت الحكاية تختلف قليلا...إنه خطأ وحماقة
حجامة
الصماء:( تقـف ) كان الجميع يرى شبح الفتاة المعذبة... وهي على سور المنزل تضحك؛
وتضحك ثم وتصرخ وتضحـك ثم ترسل صرخات بشكل مخيف ومفزع للغاية ! و أصابع
يديها تخرج منها شرارات من النيران الحارقة. وتارة تجلس أسفل نافذة القاتل ؛ وتمارس عليه
التعذيب؛ كما عذبها قـبل قـتلها... أجل قتلها السافـل ...
[بشكل مفاجئ؛ تشتعل إضاءة حمراء؛ مرفقة بموسيقى كناوية؛ تبدأ الصماء في الرقص؛
والحارس يرافقها ببندقيته؛ والأعمى ؛ يتحرك كأنه يحاول الهرب]
الحارس:( متوترا) كفى... قـلت كــفي توقفي عن شطحاتك...
الأعمى: إنـها صماء... ألم تفــهم أنها صماء ؟
الصماء: ( تقف فوق الصخرة) ابتعد الناس على القاتل ؛ فظل وحيدًا ...وحيدا في منزله حَـتى ساءت
حالته العقلية وصراخ الفتاه يلاحقه ؛ حتى أصيب بجنون حـاد ؛ ولم يجد سبيلا إلا الإنتحار
شانقا بحبل متين ؛ نصبه في قبو منزله .
[ ظلام ؛ بعده تشتعل الخلفية على لون أزرق وأصوات أمواج البحر؛ برهــة يظهر شخص على
شكل شبح ( توظيف خيال الظل؛ بأسلوب الفانوس السحري]
الأعمى: (يرتـعد) ما هــذا ؟.... طوفان جارف نحونــا.... أليس كذلك يــا رأسي ؟
الحارس: لا تـخف؛ إنها أمواج تتلاطم بقوة مد الرياح فقط
الأعمى: أبـــدا ليست أمواج تتلاطم ....بل أشعـر بشيء مــا ....
الصماء: أسمع صوت أبي يلاحقني... إنه هنـا... معنا... إنني أسمعه جيدا...إنه يقترب من بين
الأمواج ... تركه الحـوت ؛ لقد تركه الحوت... أه ... أبي يعود سالما إلينا... ها هو يقترب...
الصوت: يا ابنتي... ها أنذا سأعود إليك... إنني محتاج لحبك... لحـنانك ...لعطفك.... سأرتدي
وشاح العودة الأبدية ... الساحل لن يعد ساحلا؛ سيتمدد أشجارا؛ في أشجار. يدفئ ثلـجَ
الميلادِ ؛ ويذوب جليد الغياب... فـثبا لمن حولني إلى لا شيء.... اللعْـنة لمن حولني قناعا
لوجوه آثمة... وجوه في الخفاء...حولتني إلى ذات بدون معنى ... أنـتِ ابنتي.. أنتِ
الأمل الباقي لدي...لوجودي... ستبقي زهرة بين ناظري؛ بين يدي... لن أتركك... لن أترك
أنوثتك تبقى مبعثرة ؛ ستكون جلمدا ...صخرا ... نقاوم بها كل من خدعنا... كل من مسخنا
إلى لا شيء... لا تحزني بعد اليوم على فراقي؛ هـا أنذا أركب صهوة العَـودة؛ من رحيل
قاتل... لن أستطيع البوح أكثر من هذا... أعماقي مجروحة بدماء الغـدر والخديعة... وجهي
أمامك مشروح كمرايا مكسرة؛ بألم الدسيسة... قتلوا في أعماقي النبل والإخاء... لست قاتلا
لأبنائي... ... لست قاتلا لأبنائي... ... لست قاتلا لأبناء جلدتي .....
الصماء: ( تحاول الإقتراب من الخلفية) أبتي؛ إنني مشتاقة إليك؛ فرحيلك كان غصبا... فالرحيل
صعب والمسير أصعب... هيا اقترب ... احضني بين أحضانك... يا أبتي قهوتك في
انتظارك، فنجانك المحبوب ينتظروسـينتظر؛ بلسم شفتيك...( تبدأ بالجري؛ نحو الخلفية)
الحارس:(يصرخ) توقفي... توقـفي عن الجري يا فتاة... تعقلي....
الأعمى: ألحق بها أيها الحارس؛ إنها صماء... هل تسمعني؟ هل تسمعني؟ أم أنك أصم مــثلهــا .
الحارس:(يصرخ) لقد أمرتك بالتوقـف ... فلما لا تتوقفي عن الجري... تعقلي يا أيتها الحمقاء
(يرميها الحارس برصاصة قاتلة ؛ وتبدأ بصراخ الاحتضار)
الأعمى: (يصرخ) ماذا فـعلت ايها المجرم ؟ قـتلتها... قتلتها بدون رحـمة... كفى ...كفى موتي في
موتى برصاص الطيش القاتل.... أليست هنالك رحمة في هذا العالم... القتل في القتل
والدماء مستباحة ...الدمار في الخراب والجـثث في الـخراب...
الصماء: ( تصرخ بألم) أبتي... قـتلوا لقاءنا... كيف السبيل أن نلتقي أمام دماء تسيل مني....
آه .... دائما خلف الظـلم ظالم .... دائما بجوار الظالم آثــــــــــــــم
الأعمى ( ينهار) خلف الظـلم ظالم.... بجوار الظالم آثــم...... خلف الظـلم ظالم بجوار الظالم
آثـــــــــــــــــــــــم
الصماء والأعمى: خلف الظـلم ظالم بجوار الظالم آثــم.... خلف الظـلم ظالم بجوار الظالم
آثـــــــــــــــــم .
[يظل الشبح واقفا ؛ وموسيقى كناوية تتصاعد بشكل مفزع ؛ والركح يتلون باللون الأحمر وخلفية زرقاء تارة في تناغم وتارة في تجاذب ؛ والحارس يجلس وينهض بشكل لاإرادي وفي حالة من التوتر بين الصخور]
ستار
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق