جدلية الحب والحرب في نصوص الكاتب المسرحي العراقي فلاح شاكر
مروان ياسين الدليمي - القدس العربي
ما من شك في أن فلاح شاكر كاتب من طراز خاص لا أحد ينافسه على هذا التميز من أبناء جيله وحتى الذين سبقوه في الكتابة للمسرح العراقي، وقد شهدت نهاية النصف الأول من ثمانينات القرن الماضي ظهوره المفاجئ في الوسط المسرحي إذ لم يسبق له أن شارك في أي عمل له صلة بالمسرح، وبدا واضحا انه يمتلك شيئا ما تقودنا إليه لغته الخاصة بمفرداتها وتراكيبها، فتترك لدى المتلقي خليطا من الانطباعات تتداخل فيها مشاعر الدهشة والمتعة لم تتوفر في نصوص كتاب عراقيين سبقوه بأشواط طويلة في حرفة الكتابة للمسرح، أمثال (يوسف العاني، عادل كاظم، محي الدين زَنكَنَة، صباح عطوان، فاروق محمد، جليل القيسي) وقد انعكس ذلك في نصه الأول الذي حمل عنوان “مملكة الاغتراب” عام 1984.
لغة النص
الاهتمام بكتاباته جاء من تفرد لغته ولم يكن من السهولة بمكان ان يموضعها النقاد في توصيف دقيق، لانهم وجدوها تقع في منطقة من الاشتغال أقرب صلة بلغة الشعر منها بالنثر، بنفس الوقت لم تكن لغته تنتمي إلى لغة الشاعر في القصيدة، لكونها ليست منفصلة عن شرط الفعل المسرحي، علما بانه قد بدأ شاعرا لكنه غادر الشعر مبكرا ناحية الكتابة للمسرح. ورغم ان الجملة لدى فلاح شاكر بما تحمله من تراكيب صورية مجازية تبدو في سياقها العام متعالية ونخبوية إلا انها مكتوبة بصياغة مركبة تحمل في بنيتها الداخلية مساحة من الممكنات لأجل ان تتحول لدى فريق العمل المسرحي إلى فعل مسرحي تجسده شخصيات إنسانية تعيش صراعا مع ذاتها والعالم، فاللغة هنا تعبر عن شخصية قدريَّة في وجودها الإنساني، ولديها من الحب ما يكفي ليكون العالم خاليا من الحروب، ويتجلى ذلك في نص مسرحية “الجنة تفتح أبوابها متأخرا” التي نالت جوائز عند تقديمها في مهرجانات مسرحية عربية في تسعينات القرن الماضي .
الممثل في مواجهة اللغة
الجملة اللغوية لدى شاكر ليست بسيطة في دلالاتها، ويمكن ان توضع في مساحة من التأويل يحيلها إلى جملة شعرية ليس لها معنى محدد، بنفس الوقت هذه التركيبة بما تحمله من مستويات في الدلالات تضع الممثل في فضاء مفتوح من التخييل لِما يمكن ان تكون عليه حالة الشخصية المسرحية، وكثيرا ما عبّر معظم الممثلين الذين جسدوا شخصيات فلاح شاكر، أمثال (جواد الشَّكرجي، محمود أبو العباس، ريكاردوس يوسف، شذى سالم، سهير أياد) عن الحالة الاستثنائية التي يجدون فيها قدراتهم الأدائية عندما يتعاملون مع لغته، وغالبا ما تستولي على الممثل نشوة استثنائية في هذا الموضع من الاشتغال الفني، خاصة وان النص سطّر لغته كاتب محلي، امتلكت شخصياته بنية مركبة لا نعثر عليها بهذا المستوى إلا في نصوص أجنبية، ونص فلاح شاكر يمنح الممثل قبل المخرج أكثر من نافذة للإطلال على ما تخوضه الشخصية من تحولات نفسية بالتالي يقودها ذلك إلى أفعال وانفعالات نشطة على الخشبة .
سلطة النص الأدبية
يمكن القول إن فلاح شاكر وضع النص المسرحي العراقي في مكان مرتفع بموازاة النص الأدبي، خاصة وأن المفاهيم السائدة في وسطنا الثقافي تنظر إلى النص المسرحي باعتباره لا يملك شرعية التجنيس الأدبي، بالتالي لا يأخذ ما يستحقه من الاهتمام النقدي مثل الرواية أو القصة أو القصيدة، لأن أهميته مرهونة بالعرض المسرحي وليس بلغته الأدبية حتى لو كانت على درجة عالية من الصياغة، إلاَّ أن الحال لدى فلاح شاكر قد اختلف بدرجة كبيرة، وبات للنص سحره الذي يتجلى في لغته وشخصياته وأفكاره كما في نصوص كتاب المسرح الاغريقي الأوائل مرورا بشكسبير وتشيخوف وابسن وبريخت، وانتهاء بصموئيل بيكت وبقية كتاب مسرح العبث واللامعقول .
شخصيات مطرودة من الجنة
ان معظم المؤلفين العراقيين الذين سبقوا فلاح شاكر كتبوا عن الواقع وما يحمله من صراعات، إلا أنه اختلف عنهم بلغته العالية رغم أن معظم شخصياته لم تكن نخبوية، بل تنتمي إلى شرائح اجتماعية تعود إلى الطبقة الوسطى والفقيرة، بمعنى ان وجودها الإنساني أقرب إلى ما هو يومي ومعاش، لكنه عبَّر عن أزماتها بلغة شعرية يملك مفاتيح شفراتها الفعل المسرحي، ومن خلالها كشف عن عمق جراحاتها الداخلية التي خلفتها حروب متوالية، انها شخصيات مقموعة ومطرودة من جنة الواقع إلى جحيمه رغم الحب الذي تحمله.
الفلسفة والمسرح
في تسعينات القرن الماضي ارتفع رصيد فلاح شاكر في ذاكرة المسرح العراقي المعاصر، بعد أن قدم نصوصا جريئة بما تحمله من أفكار وما أثارته من جدل تناوبت فيها جدلية الحب والحرب في لحظة مأزومة من عُمر العراق، مجتمعا ودولة ونظاما سياسيا ومستقبلا، ارتقت فيها لغة الحوار إلى مستوى من النضج والجرأة والاستفزاز لم يألفه العاملون في المسرح العراقي، ساعده على ذلك أنه درس الفلسفة في جامعة بغداد قبل ان يخوض غمار الكتابة للمسرح، ولا غرابة ان يلتقي المسرح مع الفلسفة لان الحقلين يرتكزان على الجدل، والكاتب الذي يتمكن من فهم واستيعاب اشتغالات الفلسفة من المنطقي ان ينعكس ذلك على نصوصه بشكل ما. وقد أشار شاكر إلى تأثير الفلسفة عليه في الندوة التي أقيمت له مطلع شهر اب/أغسطس الماضي في بيت المسرح التابع لاتحاد أدباء وكتاب العراق بمناسبة زيارته لبغداد بعد غياب عنها دام أكثر من خمسة عشر عاما، حيث يقيم اليوم في الولايات المتحدة الأمريكية، في هذه الأمسية أشار إلى ان محاورات أفلاطون كان لها أثر كبير في إنضاج قدراته في عملية بناء وايصال الأفكار في النص المسرحي، لذا جاءت نصوصه علامة فارقة في المسرح العراقي. وقد توالى على إخراجها أبرز المخرجين العراقيين منهم على سبيل المثال (هاني هاني، محسن العَلي،عزيز خيّون، فاضل خليل).
المسرح والشعر
هذا التفرد في الأخذ بالمسرح العراقي إلى لحظة جديدة يمتزج فيها الشعر مع الفلسفة بالفعل المسرحي في علاقة جدلية لا يتفوق فيها أحدهما على الآخر جعلت الأوساط المسرحية خارج العراق تنتبه إلى ما يقدمه من نصوص تحمل نكهة كتاب كبار في مقدمتهم وليم شكسبير ومن على شاكلته من شعراء المسرح، وعلى ذلك لم يكن حدثا مفاجئا أن ينال جوائز محلية وعربية عديدة ربما لم يحظ بها أي كاتب عراقي، من بعد ان تراجع في التجارب المسرحية الحديثة الاهتمام بالنص المسرحي وبات الرهان على العرض أولا وآخرا، إلا أن فلاح أعاد الاعتبار إلى النص معيدا بذلك مسيرة كتاب عرب آخرين سبقوه في هذه المهمة في سبعينات وثمانينات القرن الماضي أمثال (سعد الله ونوس، ممدوح عدوان، عبد الكريم برشيد) فقدموا نصوصا استحوذت على رصيد كبير من القراءة والاهتمام لدى النقاد والمخرجين والمتلقين على حد سواء نظرا لما احتشد فيها من امكانات أدبية توفر فرصة خصبة للمسرحيين وتحفزهم على الارتقاء باشتغالاتهم الأدائية القائمة على محورية الفعل إنطلاقا من بواعث النص ومفرداته.
لقد شاءت ظروف العراق الأمنية المعقدة بعد عام 2003 ان يبتعد فلاح شاكر عن الكتابة وعن بلده لمدة تزيد عن الخمسة عشر عاما، ولم يكن ابتعاده بدافع البحث عن خلاص فردي بعيدا عن حال الفوضى والاقتتال الطائفي التي هيمنت على البلاد، انما محاولة لاستيعاب الصدمة وفهم ما يحدث من كوارث باتت أشبه بطلاسم وألغاز، والمحاولة هنا لا يقف خلفها شخص دارس للفلسفة انما مرجعيتها تعود إلى تأملات كاتب مسرحي يملك ذخيرة من التخييل دائما ما كان الواقع بكل تفاصيله يمثل شريانا يمده بنسغ الحياة في نصوصه، هذا إضافة إلى أن مرضا أصاب مفاصله خارج العراق أخذ منه الكثير من طاقته الجسدية وحدد من حركته ونشاطه. واليوم يعود إلى العراق في زيارة عمل ليتعاون مع مجموعة مسرحيين في تقديم نص مسرحي جديد له، يحمل عنوان “حتى ترضى” سيكون بمثابة أول مواجهة للمؤلف مع المتلقي بعد كل المتغيرات التي عصفت بالبنية العراقية مجتمعا وقيما وذائقة وفنا، فما الذي يمكن ان يخبئه لنا من أسئلة ومواجهات تعوَّدنا ان نتلقاها في نصوصه؟
في الأمسية ذاتها التي أقيمت للاحتفاء به في بيت المسرح أشار شاكر إلى ان كتاب “ألف ليلة وليلة” بالنسبة له كان بمثابة منطلق أساسي للدخول إلى تجربة كتابة النص المسرحي في ثمانينات القرن الماضي ومن خلاله تولدت لديه الفكرة والإرادة على كتابة مئة نص مسرحي، إلاَّ أن قيام الحرب واستمرارها عطل المشروع وليتوقف آنذاك عند أحد عشر نصا مسرحيا حملت عناوين مستوحاة من “ألف ليلة وليلة” على سبيل المثال (ألف رحلة ورحلة، ألف قتيل وقتيل) وليبدأ مرحلة ثانية في مشروعه الكتابي عنوانها جدلية الحب والحرب، وكانت بدايتها بنص حمل عنوان “قصة حب معاصرة”. كما تطرق في حديثه إلى موضوعات أخرى منها ما يتعلق باختلاف صيغة الرقابة الحكومية على النصوص قبل وبعد عام 2003 وتوقف عند فكرة انحيازه لتواجد المؤلف اليومي أثناء التمارين المسرحية وإيمانه بضرورة خضوع النص إلى تعديلات مستمرة بناء على مقتضيات الشغل المسرحي على الخشبة، إلاَّ انه في ختام الأمسية أعلن ان نصه الجديد الذي بدأ مجموعة مسرحيين العمل عليه في بغداد سيكون آخر علاقة تربطه بالكتابة للمسرح. وما يؤسف له ان معظم نصوصه لم تأخذ طريقها للطبع في كتب يتداولها القراء، وبقيت عبارة عن مخطوطات موزعة ومتناثرة في مكتبات شخصية لدى بعض الممثلين الذين سبق لهم ان اشتركوا في تقديمها، وهذا يستدعي منه شخصيا أو أي جهة فنية مثل مديرية المسارح ان يكون لها اسهام جاد في عملية البحث عنها وجمعها وطبعها في كتب حتى تتوفر لدى كل من له صلة بالعمل المسرحي من مخرجين وممثلين ودارسين أكاديميين الاطلاع عليها، لأنها تمثل تحولا مهما شهده النص المسرحي المحلي تغير فيه توظيف اللغة بانزياح ناحية بناء الشخصية ومنحها عمقا إنسانيا بالقدر الذي لامس الواقع برؤية فلسفية، فاثمر ذلك عن مزاج جديد من التلقي للعرض المسرحي العراقي توفرت فيه شحنات عاطفية وتساؤلات استمدت حركتها من جدلية الحب والحرب التي صاحبت الإنسان العراقي طيلة العقود الماضية.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق