مجلة الفنون المسرحية
المسرح العراقي بين التجريب والتحريض في مهرجان القاهرة التجريبي
أ. د. محمد كريم الساعدي :
المسرح العراقي بين التجريب والتحريض في مهرجان القاهرة التجريبي
أ. د. محمد كريم الساعدي :
انطلقت المشاركة العراقية في مهرجان القاهرة التجريبي منذ دورته الأولى في عام 1988 ، حينما وجد المبدع العراقي ضرورة المشاركة في هذه التظاهرة الثقافية في عاصمة الابداع العربي القاهرة ،من خلال مهرجانها التخصصي الذي يعمل على أعطاء فرصة من اجل تقديم أعمال مسرحية تستند على فعل إبداعي يعمل على كسر القواعد التقليدية في المسرح ، وكذلك نشر ثقافة التبادل والاحتكاك الثقافي بالعالم الذي تطورت الظاهرة المسرحية لديه بفعل التقدم الحضاري الحاصل في الساحة المسرحية العالمية ، ومن أجل الأستفادة والتبادل الثقافي قدم العراق في المهرجان عدد من المسرحيات التي تراوحت ما بين 14 الى 16 عرضا مسرحي تقريباً وكان من أواخر العروض المسرحية ، مسرحية ( العربانة ) في الدورة 24 ، ومسرحية (رائحة الحرب ) في الدورة 25.
وفي هذا المقال سنتناول مسرحية (العربانة) كون مخرج مسرحية (العربانة) ومسرحية (رائحة الحرب) هو المخرج العراقي (عماد محمد) لذا فأن التجريب في المسرحيتين يتقاربان من حيث الفكر الاخراجي وتناوله للوضع العراقي من حيث فكرة التحريض لما وصلت اليه الثقافة العراقية على وفق التغيرات الاجتماعية والسياسية والتغيرات في جسد الثقافة العربية والعراقية في أطار تجريبي والخوض في الانساق الثقافية العراقية المستهدفة خصوصاً بعد ما حصل في العراق بعد عام 2003 ، وإمكانية التحريض الذي تناولته ضد ما اريد لهذه الثقافة المحلية من تغييرات جمة في عدد من البنى ومرتكزاتها في التاريخية والحضارية والأجتماعية وما تناولتها من ظواهر اسس لها في جسد الثقافة المحلية ، وكان هذا العرض يبغي ايضا المغايرة في الطرح الثقافي المغلف بالتجريب الابداعي في العرض المسرحي وخصوصاً إذا ما نظرنا الى ان المخرج عماد محمد قد حاول تثبيت رؤياه في التجريب مستنداً على أهم الطرائق المسرحية التي تستند الى الضوء والظل والحركة والموسيقى في أيقاع منضبط في تناول الأحداث المسرحية ، على أعتبار إن التجريب : ” فعل متوتر ، غير أنه في سيرورته المتوترة وحركيته المتغيرة باستمرار يؤسس شكلا من أشكال الوعي الضدي الذي جعل من ذاته موضوعاً للتأمل والنقد والمساءلة .إن تأكيد ذات التجريب ، يتم من خلال الحضور الضدي. وغايته في ذلك ، أن يتحول ذاتياً من مستوى الضرورة الى مستوى الحرية. وإذا كلن فعل التجريب يقوم على الحرية فذلك لا يعني اقتران فعل التجريب بالعشوائية والعبثية بمعناها العام ، لأن الشروط التاريخية والخصوصيات الأجتماعية لها تأثير فاعل في الممارسات التجريبية “(د. عبد الرحمن بن ابراهيم : الحداثة والتجريب في المسرح ، ص120). إن الفعل التجريبي الذي أنطلق منه المخرج عماد محمد في تأسيس خطاب جمالي هو قائم على مبدأ الحرية المنضبطة في تقديم خصائص العرض المسرحي في مسرحية العربانة ,إذ يتناول هذا الفعل الجمالي في أطار تجريبي قائم على توظيف مفاهيم ثقافية محلية مع محاولات تبرير وجودها في أطار ثقافات أخرى حاولت محو وجودها في هذا الإطار المتجسد في صور الصراع بين الأنا والآخر ،هذا الآخر الذي تجسد في شخوص الهامش في مسرحية العربانة .
إن خطاب مسرحية (العربانة)، من تأليف حامد المالكي وأخراج عماد محمد ، على فك ارتباط التمثيل الثقافي مع الماضي الذي أعيد صياغته في خطاب أخر المتجدد في جسد الثقافة العربيةً اجتماعياً وسياسياً ، كون النص يتناول الجانب السياسي وأبعاده في تكوين الجغرافيا الثقافية التي رسمها التدخل في المنطقة والذي استند في تمثيله الثقافي والسياسي على مفاهيم الخضوع لمنطق القوة الذي ولد الاستلاب الثقافي لإرادة الشعوب العربية ، التي أسس لها خارطة طريق التي تسير فيها بلدان المنطقة وشعوبها على وفق منطق التقسيم والحروب والويلات.
إن فك الارتباط بالتمثيل الثقافي السلطوي وفضح ملامح هذا الخطاب جاء من خلال فكرة الخلاص من الآثار النفسية والثقافية التي انطبعت على جسد الثقافات العربية إذ تمثلت فكرة فك الارتباط مع الماضي والحاضر الثقافي لهذا التمثيل من خلال الخلاص والبراءة من الوضع القائم عن طريق حرق الجسد والذي تبناه المؤلف من فكرة (الربيع العربي) ، التي قامت على حرق جسد (محمد البوعزيزي) في تونس وتردد صداه في فكر المؤلف وذاكرته من خلال حرق (جسد حنون) بطال المسرحية ، فالبوعزيزي في الواقع و (حنون) في ثنايا النص المتخيل ، وهنا أراد أن يؤكد المؤلف بأن الحرق الجسدي (البوعزيزي) كان له ارتدادات على مستوى الفكر والثقافة والأدب العربي للخلاص من إرث الخضوع السياسي والثقافي في الواقع ، وكذلك لتفكيك السلطة وسيطرتها على هذا الجسد وتحريره من تمثيلها الثقافي.
إن فكرة اللقاء في العالم الآخر لكل من (البوعزيزي وحنون) جعل منهما شاهدين ومحرضين على ثقافة الهيمنة وما أنتجت من ثقافة قائمة على مفاهيم رفعها المحتل المباشر في العراق وإثارة غير المباشر في العالم العربي من خلال الحرية والديمقراطية التي تحولت إلى فوضى هدفها إرباك وزعزعة الثقافة الأصلانية عن مواقعها وتأكيد ثقافة السلطة مكانها فشعارات الحرية والديمقراطية كشف المؤلف زيفها في مشهد الانتخاب ووعود تغيير حياة (حنون) من الفقر والعوز وعربة خضار قديمة الى إلى حياة الرفاهية والسيارات المبردة التي تجعل من خضرواته طازجة.
إن بؤرة النص في (العربانة) تتشكل في صورة الصراع بين الرفض والخضوع الأول يمثله (حنون) في رفض الواقع المعاش والثاني تمثله زوجته التي تحاول أن تحافظ على حياتها وزوجها على الرغم من سواء أوضاعها المعيشية ، لأنها تعتقد بأن بقاء (حنون) يحفظ لها الاستمرار هي وعائلتها بالحياة ، وفي هذا المشهد يحاول حنون تأكد رفضه الذي يتطور إلى حرق جسده لكون طريقة العيش لا تتلاءم ، مع كونه إنسان يعيش في بلد غني بالنفط الذي فقد حتى رائحته ولا عاد يشتغل ليحرق جسده رمز الخضوع ، وهنا يعطي في هذا المشهد فكرة عن الاستغلال الاقتصادي الذي يمارسه الغربي في بلاده والذي استبدل حتى رائحة النفط وغير نكهتها كما فعل في الثقافة الأصلانية.
ينتقل المؤلف في نصه إلى فكرة الانشطار في الشخصية ويتحول (حنون) إلى ناقد لجسده الذي أصبح مكاناً نفذت من خلاله أجندات خارجية باسم الوطن في الأربعين سنة الماضية أي ما قبل 2003 ابتداءً من سبعينيات القرن الماضي في بداية تشكيل الحكم السابق الذي استمر حتى عام 2003 وسقوطه بالحرب الأمريكية على العراق ، وهنا يدين حنون السلطتين المحلية المتمثلة بـ(البعثية) والعالمية المتمثلة بأمريكا ووصفهما بالمسؤوليات عما يحدث في العراق ، وهذه الإدانة تأتي من تأكيده على (منكر ونكير) وتحويلهما من مستجوبين له إلى شاهدين على ما حدث في العراق وما زال يحدث فيه ، في هذا المشهد يعطي حنون ثلاثة أحداث من تاريخ العراق المعاصر ، فالأول هو حدث (المعلم) ، الذي يعدمه النظام السابق كون المعلم يدافع عن قضيته وعن درسه الأول (دار داران دور) ويقدم المؤلف استفهاماً من خلال شخصية (حنون) عن معنى الدار الذي يربطه بالوطن في إشارة عن كون الإرادة ليست بيد أبناء الوطن ، وهي علامة فاضحة للسلطة الكولونيالية المسيطرة على إرادة الشعوب ، وهنا يرمز لهذه الفكرة في كون الدار التي يسكنها مؤجرة ويربطها بكون الوطن ليس ملكه فهو يعيش في وطن مؤجر ، أما الحدث الثاني فهو عن (العريف) الذي يقضي عمره في خدمة الدكتاتورية وسلطتها ويردد شعاراتها (عاش البعث) ، والذي يدفع به إلى الموت على إيقاع أغنية (احنه مشينه للحرب) دون أن يعرف لماذا يقاتل ومن يقاتل في فوضى الحرب وويلاتها التي لا تفرق ، وهي إشارة إلى إشغال المنطقة في حروب من أجل أضعافها تحت شعارات واهية للاستفادة منها في جعل الشرق الأوسط مطحنة لحروب يكمن الغرب ورائها ، أما الحدث الثالث فهو الاستغلال السياسي الذي تطرق إليه البحث والوعود الزائفة التي قطعت لحنون قبل الانتخابات. أما المشهد الأخير فهو لقاء (حنون) مع (البوعزيزي) وتداولهما حال الثورات العربية والفوضى التي رافقتها وملامحها غير الواضحة الذي يحاول الخطاب الكولونيالي استغلالها لصالحه وأول صور الاستغلال عدم حصول المضحين ومنهم (البوعزيزي) على حقوقهم ، كما هو حال (حنون) في العراق.
إن موضوع مسرحية (العربانة) يبني درامياً في أحداث غير متسلسلة وهي تسير في مشاهد ثلاثة غير مرتبطة بعضها ببعض ، حتى أن قصتها الظاهرية تحمل في داخلها مستويات أخرى يمكن أن يتضح من خلالها نقد الخطاب ما بعد السلطوي لخطاب السلطة الحاكمة ومن ينوب عنها.
يتضمن خطاب نص مسرحية (العربانة) على مجموعة من النقاط التي تشكل صورة الخطاب السلطوي وهي :
فضح وتفكيك الخطاب السلطوي وسيطرته على الثقافة الأصلانية من خلال سيطرته على الجسد العربي ، ومحاولة إخضاعه واستغلاله ثقافياً.
تصدير ديمقراطية على المقاسات الغربية ، التي لا تتلاءم مع طبيعة وثقافة الشعوب العربية ومنها العراق ، ومحاولة تطبيقها بشكل مشوه مما أنتج استغلالاً ثقافياً وسياسياً في الساحة العراقية.
يركز النص على فضح وتفكيك السياسة الداعمة المتمثلة بالاحتلال الأمريكي ، وسيطرتها على الثقافة الاقتصادية على العراق والوطن العربي ، واحتكار ثرواته وحرمان شعبه من العيش برفاهية.
إدانة التدخل الداعم في تشكيل صورة الأنظمة التي تنفذ سياساتها في تفكيك ثقافة الشعوب وإدخالها في حروب مستمرة دون الوصول إلى نتائج محسومة مما يجعل بقاء المنطقة في صراع مستمر دون توقف ، وهذا ما يخدم تنفيذ الخطاب السلطة الكبرى المتمثلة بالداعم الخارجي فيها.
ينهض النص في خطابه ما بعد السلطوي في كشف العلائق السياسية التي أنتجها الصراع القائم بين الخطابين ويقدم النص دلالات مشتركة نتيجة لهذا الصراع وهي دلالات السلطة وما بعدها شكلت صورة الصراع الدرامي في النص المسرحي.
ويتمركز عرض مسرحية (العربانة) على مفهومي المناهضة والاستجواب الثقافيين للخطاب عند السلطة بصورته المباشرة ، أي الخطاب الأمريكي مثلاً بالاحتلال المباشر للعراق وغير المباشر من خلال من ينوب عنه في الساحة الثقافية العراقية والعربية ممثلة بالأنظمة الحاكمة ، إذ أنتجت هذه المناهضة فعل الحرق الجسدي عند (البوعزيزي) وما نتج عنه من ثورات (الربيع العربي) المناهض شعبياً للخطاب الأمريكي ومن ينوب عنه ، ومن هنا يبدأ خطاب مسرحية العربانة ذات الدلالات المستجوبة لما افرز في الساحة الثقافية العراقية والذي هو نتيجة مباشرة لفعل الاحتلال والسياسات السابقة قبل الاحتلال.
يبدأ العرض المسرحي في فضاء البث التلفزيوني ، وكأن المخرج أراد أن يشير إلى شكل العرض المسرحي من خلال العربانة وأداء (حنون) وزوجته وخلفية العرض المسرحي في شاشة العرض التلفزيون ذات الخطوط الطولية الملونة وفترات قطع البث المصاحبة لها جملة (إشارة ضعيفة أو غير موجودة) ، التي تتكرر في أغلب فترات العرض المسرحي لتعطي دلالات مصاحبة لبعض أفعال الممثلين على خشبة المسرح.
يبدأ الصراع بين الخطابين السلطوي وما بعده صوتياً إذ يمثل صوت (حنون) الخطاب الثاني الرافض والداعي إلى التغيير وصوت زوجته التي تحاول أن تبقي الوضع ، كما هو عليه ، فصوت (حنون) يطلق كلمات الرفض الداعي إلى حرق الجسد والصوت المقابل (الزوجة) تدعوه إلى التعقل والاستمرار بالحياة ، بهذه البداية الصوتية يبدأ المشهد البصري في ادائين متصارعين وحركات جسدية يمثل كل منهما موقعة من الوضع القائم ، والذي يصاحبه نقد للوضع السياسي ، والبعض من شخوصه القائمة التي يصفها حنون ويصف ظهورها في محطات التلفزة والحصول على الاهتمام على الرغم من أنها لا تصلح بسبب أفعالها المشينة ، وصولاً إلى تأكيد حنون على المطالبة بفعل الحرق كي لا يكون أقل شأناً من (محمد البوعزيزي) في الرفض ، وهنا يؤدي حنون بطريقة دفعة للعربة وهي طريقة جنونية هستيرية للدلالة على أن الشخصية تعاني من صراع داخلي بين ما تريده من تغيير وبين الحاضر.
إن فضاء العرض المسرحي في مسرحية (العربانة) يقع هو الآخر في صراع ولاسيما في خلفية المسرح بين الوضع القائم الذي يرمز إليه بالخطوط الطولية الملونة ، التي تشير إلى أن الوضع السائد المرتب على وفق نظرة السابقة هي من تمثله هذه الألوان والخطوط وفكرة الرفض لها في إشارات قطع البث وصوت التشويش عليها في أحيان مختلفة تجعل منها مستوى آخر من الصراع في الفضاء المسرحي ذوات دلالات لنوعية الصراع المستمر ، حتى نهاية العرض المسرحي.
وفي تأكيد لرفض شخصية (حنون) للوضع الراهن بأن الصراع في داخله للخلاص من حياته لم يأتِ من فراغ بل ان الأخبار الصحفية التي لها أثر واضح في دعوته للتغيير ، وهنا ينتقل المشهد من الدعوة إلى الخلاص وحرق الجسد إلى ما يهدف إليه في فكرة الخلاص ، وهو الوضع العربي المربك الذي جعل من الشعوب تعيش في زمن التأزم والضياع ، ويدخل الأداء المسرحي في هذه الصورة الإعلامية حيز التنفيذ من خلال تحول الزوجة إلى مقدمة للأخبار وحنون هو المتصفح للصحف ، إذ تخرج الزوجة الصحيفة من داخل ثيابها وتحديداً من الثياب المغطية لمنطقة (الصدر) في إشارة إلى إن هذه الأخبار تشكل هماً ثقيلاً للإنسان العراقي. تقرأ الزوجة أربعة صحف مختلفة تتناقل أربعة أخبار عربية الأول يشير إلى الحالة المصرية وترشيح وزير الدفاع (السيسي) لرئاسة مصر في عودة لعسكرة الحكم في مصر ، والثاني ملايين المصريين يذهبون إلى صناديق الاقتراع في إشارة إلى خطوة التغيير في مصر ، والثالث الذي يعده حنون خبر ليس بجديد وهو أن (الفلسطينيين يموتون من الجوع بسبب الحصار الإسرائيلي) في تذكير بأزمة العرب المركزية ، التي غابت في ظل الربيع العربي وثوراته ،والخبر الرابع الذي يتناول التطرف بزيه الإسلامي من خلال خبر : (داعش توسع رقعة القتال في سوريا شمالاً) وهو ما أريد أن يكون عليه صورة الإسلام ممثلة بتنظيم (داعش) ذات الصبغة التكفيرية ، وهنا إشارة إلى العمل على تحويل الإسلام من دين تسامح وسلام إلى دين قتل وإرهاب ، وهو ما يريده الخطاب الكولونيالي.
ولم يكتف المخرج من خلال استخدام الصحف وأخبارها في أداء تمثلي ناقد ورافض لما وصل إليه الوضع الثقافي العربي ، بل أكد أيضاً على هذا الوضع الفوضوي من خلال تجسيد التأزم في الوضع العربي عامة والعراقي خاصة عن طريق الفعل الأدائي الذي رمز به (حنون) الى العمل الفضائي في الساحة العربية ، إذ يتناول في هذا المشهد ثلاث فضائيات ذات توجهات مختلفة، تؤدي الزوجة فيها دور المقدم ، وكذلك تقدم إشارات صوتية عن موسيقى كل قناة ومن ثم تنتقل إلى تقديم خبر وحسب اهتمام القناة وسياساتها ،فالجزيرة التي تهتم بالوضع المصري تقدم خبر عن ثورة الثلاثين من يوليو ، والعربية تقدم خبراً باللهجة الشامية عن الحرب الأهلية في سوريا ، والثالثة الحرة يظهر فيها اسم المراسلة من قلب العاصمة الأمريكية ، في الأخبار الثلاثة يتخذ (حنون) وزوجته موقفاً معيناً وتشكيلاً جسدياً مصاحباً لهذا الموقف ، ففي الأولى يرفض (حنون) إكمال الخبر لكون المحطة بأخبارها لم تقف مع العراقيين لهذا يرفضها ، وفي الثانية يرفض الاستماع إليها بحجة إن مراسلتها العراقية(أطوار بهجت) قتلت وهي تمارس عملها الإعلامية ، والثالث يأتي الرفض لها بأداء انفعالي لكونها أمريكية وهو يكره كل شيء أمريكي ، وهنا يخرج (حنون) المخفي في أداء مقصود لأن المكروه ليست القناة بل خلقية القناة السياسية والثقافية ، وهي أمريكا صاحبة خطاب السيطرة، أي من خلال التمويه والتنكر في أداء تمثيلي ضد جزء معين يظهر كرهه للكل ، إذ يقابل صورة الرفض ما بعد الكولونيالي الأداء الخاضع للصورة الكولونيالية والممثلة بالزوجة بفعل أدائي سريع وممنهج وموجه نحو مصدر الصوت وإسكاته ولفظ ثلاث كلمات للرفض ، الأولى باللهجة المصرية ، والثانية بالعراقي ، والثالثة باللغة الانكليزية (Shut your month) وإعادة (حنون) إلى وضعه الخاضع ، وجعله ينام لكنه يحاول في منامه أن يخرج المخفي والمغيب من خلال حلمه عن العاجل وترديد جملة (الشعب يريد) في إشارة إلى الربيع العربي والرفض العربي للخضوع.
ويبدأ مشهد آخر وهو مشهد خروج الروح حيث يظهر خلف عربة (حنون) شخص يرتدي ملابس سوداء ويغطي رأسه برداء اسود يرمي بجسد (حنون) من أعلى العربة ثم يدفع العربة لتقف على جسده لتشكل صورة التابوت ، وهنا ينتقل (حنون) في هذا المشهد من أعلى الأرض إلى أسفلها ويرافقه في الشاشة الخلفية ظهور صور مختلفة لحنون مع صوت انقطاع البث للإشارة على توقف القلب ، وبعد ذهاب الشخص الذي يقبض روح (حنون) ، يبدأ (حنون) وهو في داخل التابوت (تحت العربة) بحركات هستيرية وكأنه يحاول الخروج والسؤال يوجه إليه من كل اتجاه (من أنت؟) وهو يحاول الخروج والإجابة على السؤال لكنه يقع في دائرة السؤال نفسه ويسأل (من أنا ؟) وبعدها يستذكر بأنه أراد أن يحرق نفسه بنفط معار من الجيران لتقليد (محمد البوعزيزي) وفي طريقة أدائية يمسك بثيابه ويشمها ويتساءل لماذا لا أشم رائحة النفط ، وهنا في أداء تمويه عم سؤاله إلى الذي سرق النفط في إشارة إلى محتكري النفط العربي وللشركات الاستعمارية المسيطرة على الاقتصاد العالمي ، إذ يقول : أي أنت ارجع لي نفطي على الأقل رائحته ، في بلاد النفط تحرم حتى من رائحته (النفط) ، ويعود بعد ذلك الخروج من الشخصية إلى البحث عن (حنون) الميت وتأكيد موته وينادي على زوجته (مات زوجك قبل إن يرى وطنه خالي من العربات) في إشارة أخرى إلى عربات الاحتلال.
ينتقل بعدها الأداء التمثيلي إلى مشهد الصلاة ويردد مع الأذان كلمات تنتقد الواقع الثقافي والسياسي الجديد إذ يقول في الأولى الله أكبر قد قامت الصلاة وما قامت الحياة في بلدي الذي يقاس على مدى ونوعية صلاته ، وفي الثانية يقول اشهد أن لا اله إلا الله وأستغفرك ربي لا تتخلى عنا نحن الفقراء في بلاد النفط ، والثالثة يقول فيها اشهد انك يا محمد (ص) يا سيدي يا رسول الله.. كيف صبرت يا سيدي ومولاي على لصوص بلادي يسرقون القداسة ويرتدون أقنعة تخفي خلفها السكاكين في إشارة إلى الموت والصراع الطائفي الذي أنتج في العهد الجديد والذي يتلاءم مع سياسات الخطاب الكولونيالي ، وهذه المقاطع الثلاثة يؤديها (حنون) بطريقة القراءة الحسينية لإشراك الطقس الحسيني التراثي في أداء الممثل ، وتقطع هذه القدسية في الأداء الجسدي والصوتي حركات الزوجة المصاحبة لأغنية عراقية تدل على السمر لكونها تأتي لتوقظ (حنون) من نومه ، إذ تجلس فوق العربة و(حنون) تحتها في تابوته ، وبعد أن تتأكد من انه ميت تبدأ بأداء حركات عزائية عراقية من خلال طقس (لطم) على الموتى والمصاحبة لها بعض المقاطع الصوتية باللهجة الشعبية العراقية حيث تتقدم إلى أمام المسرح و(حنون) خلفها وحينما تنتهي من أداء المقطع الصوتي تتبادل الأمكنة مع (حنون) ، حيث تستمر هي في الخلف بالحركات الأدائية وحنون يعلق على المقاطع الصوتية ويتكرر هذا الفعل الأدائي ثلاث مرات ، ففي المقطع الأول يعلق (حنون) بأنه فقير ولا احد يسأل عليه، ثم يسرد قصته في الماضي وعمره الذي ضاع بين (الخنادق والبنادق) ، وفي الثانية يقول : من يسأل عن حفنة السنين ضيعتها حياة الجنرالات والانكسارات ، أما في الثالثة يسرد حكايته مع الطيبة والسذاجة التي أوصلته إلى ما هو عليه فهو ليس لديه أعمام يسألون عنه ولا إخوة يقفون معه ، بعد ذلك تدخل إيقاعات خليجية لتدلل على أن أخوته (العرب) قد تخلوا عنه وتصاحبها طريقة الرقص البحرية.
ثم يبدأ مشهد عرض الملفات الثلاثة واستجواب شخصيتي (منكر ونكير) له ويصاحب هذا المشهد استخدام الدخان والشاشة الخلفية تعرض مشهد السماء الملبدة بالغيوم ، إذ يضعون كل من (منكر ونكير) سجلين في يدي (حنون) ويتقدمان إلى أمام المسرح ثم ينسحبان إلى جانبي المسرح وتبدأ الشاشة الخلفية بعرض المشاهد الثلاثة ، فالأول يبدأ بعرض قصة حنون مع معلمه الأول ، وهذا المشهد يدخل فيه الخطاب ما بعد الكولونيالي من خلال الإشارة إلى الكلمات المتقطعة والأداء القلق الذي يستخدم معه قطعة مستطيل مغطاة بقطعة قماش ابيض لاستخدامها كسبورة في الدرس الذي يتناول فيه (حنون) موضوعة الدار والدور وترديده لكلمات القصيدة التي تقول (عش هكذا في علو أيها العلم فأننا بك بعد الله نعتصم) إلى مقطع (إن احترمت فان الشعب محترم ، وان احتقرت فأن الشعب محتقر) ،وكذلك فأن (حنون) يرفع قطعة المستطيل إلى الأعلى وتحويله من سبورة في بعض المقاطع إلى علم ، ويعود ليؤكد المعلم بحركات تقطع حوار (حنون) وتضع المستطيل أمامه بشكل طولي وطرح السؤال عن (ماذا نعني بالدار ؟) ويجيبه (حنون) نعني الوطن ويعيد السؤال المعلم ويأتي الجواب مرة أخرى من (حنون) بأن الدار وطن فأن كانت الدار مؤجرة يعني انك تعيش في وطن مؤجر في إشارة إلى أن الوطن الذي فقدت فيه رائحة النفط وسياساته ليست بيد أبنائه فهم لا يملكون أرضه فهو وطن مؤجر وصاحبه هو من يسير أموره السياسية والثقافية وهذه إشارة أخرى لتدخل اليد الداعمة من الخارج في تشكيل صورة الوطن الجديدة ، ويؤكد هذا المعنى (حنون) ، ومن ثم يرفض الإستمرار فيه من خلال مشهد (خيال الظل) الذي يؤديه (حنون) و (المعلم) الذي يطالبه بكتابة جملة (القناعة كنز لا يفنى) والتي يرفضها (حنون) ويخرج من مشهد خيال الظل إلى خارجه إذ يعترض بأنهم يريدوننا أن نقتنع بهذه التفاهات التي يسمونها حياة ، والخروج من هذا المشهد له دلالة ما بعد كولونيالية برفض أن يكون جزءاً من الصورة الجديدة وفضائها الكولونيالي. ويستمر أداء (حنون) الرافض لدعوات المعلم بالسكوت حتى لا يعرض نفسه إلى الخطر ، لكن (المعلم) ينتهي به المطاف في مقبرة جماعية ويخاطبه حنون بكلمات (موت هكذا في علو أيه المعلم ، فأننا بعدك باسم الله نقتل).
أما في الملف الثاني فينتقل المشهد بـ(حنون) إلى ويلات الحروب التي خاضها ، إذ يبدأ المشهد بعلاقته مع العريف الذي يردد شعارات التدريب في إيقاع صوتي مصاحبة لصوت الصافرة و(حنون) يرقص على إيقاعها ، وكأنه طائر مذبوح يرسل إلى المحرقة في طريقة أدائية تقدم إليه الملابس العسكري التي يجبر على لبسها من قبل العريف ، ويسرد (حنون) في هذا المشهد الويلات التي يتعرض لها أبناء الوطن ويؤكد بأنه ليس في الحرب منتصر وان المستفيد هو سائق الأجرة الذي ينقل النعوش إلى الأمهات ، وكذلك النجار الذي يصنع النعوش ، ومن ثم يطلب من (حنون) أن يموت في سبيل الوطن ويرد (حنون) لماذا لا نعيش من أجل الوطن؟ ويوجه العريف سؤال آخر لـ(حنون) لماذا لا تموت في سبيل الله ؟ ويرد السؤال (حنون) بالقول ، هل يحتاج الله إلى موتي كي يعبد ؟) ويبدأ الغضب على العريف الذي يمسك (حنون) من قميصه ونطاقه من الخلف ويحركه أمامه مثل دمية وهو يوجه إلى الموت على أنغام موسيقى أنشودة (احنه مشينه للحرب) وفي إيقاع (مارش) يؤدي (حنون) والعريف السير نحو الحرب ونحو الموت ، وتنتهي بموت العريف الذي ضحى بحياته من أجل رفعة الجنرالات ولم تبقى من (حنون) سوى ملابسه العسكرية التي يعلقها على أعواد عربته التي هي شاهدة على مأساته.
وفي الملف الثالث مشهد انتهاء الحرب وفرح (حنون) ورقصه على إيقاعين مختلفين الأول مصاحب لآلة المزمار في دلالة على مناطق شمال وغرب العراق ، والثانية على آلة (الخشبة) للدلالة على شرق وجنوب العراق ، ويقطع هذا الفرح بانتهاء الحرب شخص يمثل المرحلة الجديدة وهو يتكلم باللغة الانكليزية ويخضع (حنون) لتفتيش من قبله في عرض يؤكد على إعادة مأساة سجن أبو غريب وتعامل الأمريكان مع العراقيين في طرق التفتيش والتحقيق، وفي نهاية كل مشهد تفتيش يلتقط مع (حنون) صورة في إشارة إلى أن في ظاهرة الحدث شيء وفي باطنه شيء آخر كون هذه العلاقة بنيت بين الطرفين على وفق منطق القوة ، وعلى وفق هذه العلاقة يطلب من (حنون) أن يدخل في لعبة جديدة هي عبارة عن صندوق وله فتحة من الأعلى ، ولها قوانين محددة هي في أن تدخل إصبعك في مكان فيه لون بنفسجي وهنا يرمز إليه (حنون) بأغنية (البنفسج) العراقية التي يؤديها مع الشخص الجديد وهي إشارة إلى الانتخابات ثم يطلب من حنون إلى وضع ورقة في الصندوق ، وهنا يسأل حنون (ماذا استفيد أنا من هذه اللعبة ؟) ويأتيه الجواب (بأني أنا سوف احكم وأنت ستكون محكوم) ويردد هذه العبارة بصوت عالٍ وهستيري فيه أمر لـ(حنون) بالقبول بالأمر الواقع مقابل إعطاء وعود بحياة مرفهة ، وبعد ذلك يتم التنصل من الوعود التي قطعت له ، وهنا يحاول أن يلحق بالشخص صاحب الوعود الذي يخرج من المسرح ويتبعه حنون بعربته.
تظهر في خلفية المسرح ملفات حنون الثلاثة وتعود العربة إلى المسرح ولكن الذي يسحبها هو (محمد البوعزيزي) الذي يرتدي اللباس التونسي وغطاء الرأس الذي يلبس في تونس لتدخل مرة أخرى شخصيتاً (منكر ونكير) وهما يضعان سجلي (حنون) في يد (البوعزيزي) في إشارة لتشابه الملفات ، ثم يضع (البوعزيزي) الملفات في العربة ، يخرج من المسرح وتظهر في الشاشة مشهد سينمائي يدور فيه حوار بين (حنون) و (البوعزيزي) حول الأوضاع العربية إذ يشير (حنون) إلى إن الأوضاع تحولت إلى فوضى وقتل إذ يقول: (أردنا خبزاً لنعيش فأعطونا رغيف معجون بالدم بأسم الشعارات المزيفة) ، وكان جواب (البوعزيزي) هو أيضاً لم يحصل على حقوقه اتجاه من أذلوه وحرق نفسه بسبب ذلك وصادروا عربته وحرق نفسه لذلك ، ويتفقان (حنون) و (البوعزيزي) على ان الحرية والديمقراطية زائفة في البلاد العربية ،حيث يدور هذا الحوار في (دولاب الهواء) في إشارة لكونهما في عالم أخر ، وفي نهاية حديثهما ينادي (حنون) على زوجته بأن لا توقف صوت العربة، لأنها تمثل الأصالة وإيقافها يعني القضاء على أصالة هذا البلد ،والتي تعد جزءاً مهماً من تراثه ،وتظهر الزوجة في أداء جسدي ،وإيقاع حركي سريع تحاول فيه تحريك عجلتين في جانبي المسرح وتمسك بالحبل وتقدم وسط الجمهور في إشارة إلى تحميل رسالة حنون من المسرح إلى الجمهور من أجل المحافظة على أصالة وتراث الوطن، وتظهر الزوجة وهي تسحب العربة في شوارع بغداد في الشاشة الخلفية وتنظر إلى المكان الذي كان يقف فيه تمثل رئيس النظام السابق وترى فيه (حنون وعربته) وكأنها تحلم بأن يخلد المواطن في هذا المكان، وفجأة ينقطع البث في إشارة إلى نهاية الحلم.
إن خطاب مسرحية (العربانة) يدخل في صورة البحث عن البديل الثقافي والاختلاف الثقافي الذي هو في مقابل التمثيل الثقافي الكولونيالي وإرادته في الساحة الثقافية العراقية ، فصراع (حنون) وتأكيده على الخلاص من الجسد المسيس والخاضع وسرده للأحداث الذي عمل المخرج على إثارة تساؤلات عن أزمة الهوية التي عانى (حنون) لأنه رافض الانتماء الكولونيالي بصورة المختلفة سواء كان بأدوات محلية كما في شخصيتي العريف والسياسي أم بأدوات مباشرة ممثلة في الاحتلال الأمريكي للعراق.
-------------------------------
المصدر : موقع الفرجة
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق