مجلة الفنون المسرحية
ميلودراما انهيار عمارة تكشف فساد رجل أعمال مُستهتر
فيصل عبدالحسن - العرب
الميلودراما المغربية تعرّضت إلى صراعات السلطة والمال والانتهازية السياسية والفساد في أعمال بعض السياسيين بطريقة "كُونوا أقل سوءا من فضلكم".
المعروف عن الميلودراما، ولعها بنقل المبالغات المأساوية، ونقلها للمشاهدين، على أنها حقائق لتستثير تعاطفهم مع أبطالها. ومسرحية “توقيع” المغربية قالت ما يقوله الواقع من أن صراع الخير والشر سيستمران في المجتمعات، مهما حاول البعض وضع حواجز لمنع الخير من الانتصار في النهاية.
الرباط – استطاع العرض الميلودرامي المغربي “توقيع”، الذي عرض مؤخرا على مسرح محمد الخامس بالرباط بتمويل من وزارة الثقافة المغربية، أن يؤكد نجاحه على صعيد الحضور الجماهيري، حيث سجل نجاحا كبيرا للشباك، مماثلا لنجاحات المسرح الكوميدي في الكثير من المدن المغربية.
والمسرحية من إخراج المغربي محمود الشاهدي، وعن نص لعصام اليوسفي بالاشتراك مع زكريا لحلو، ومن تمثيل كل من هاجر الشركي، وسيلة صابحي، محسن مالزي، زكريا لحلو، وأمين ناسور. وفيها نقلت الميلودراما المغربية من المبالغة عرضا عن تناقض المصالح بين الأفراد بأمانة فنية عالية.
سيرة مُستهتر
"توقيع" ميلودراما مغربية طُعّمت بالمسرح الملحمي ومهازل داريو فو |
قدمّت المسرحية بسبعة وعشرين مشهدا، نقلت خلالها وقائع إدانة رجل أعمال “حمزة” (مثل دوره زكريا لحلو)، متهم بالتسبّب بانهيار عمارة سكنية على ساكنيها، وينتهي العرض بنهاية ميلودرامية تدعو للتأمّل، والتفكير بالمفاضلة بين الخير والشر.
وتدور المسرحية حول براءة وإدانة حمزة في الوقت ذاته من قبل طرفين، فهو بريء، كما يعتقد بالرغم من أنه تسبّب بإنشائه لعمارات سكنية بمواد غير مطابقة للمواصفات إلى انهيار واحدة منها فوق رؤوس ساكنيها. لكنه يرى أن ذلك من الممكن أن يحدث في الكثير من الدول. وهو قضاء وقدر، وليس بمقدوره منعه، أو دفع المنيّة عمّن مات بسبب الحادثة، فكل من مات قضى بأجله المحدّد.
وفي المقابل، يحضر الطرف الثاني، الذي يمثل السلطة القضائية، التي تؤكد إدانتها لحمزة بهذه الحادثة، لكن حمزة يعتبر الإدانة أتت لأسباب سياسية لا أكثر بسبب تصريح له للصحف الأجنبية في رحلة استجمام له قضاها في الخارج عن فساد صفقة تجارية للحكومة، وأن تصريحه ذاك، هو السبب الحقيقي لتحريك الملاحقة القانونية له بسبب حادثة العمارة المنهارة.
سيرة حمزة في المسرحية تدلّ بما لا لبس فيه عن استهتاره بحيوات الناس من حوله، فهو لا يهتم بمَنْ قضى نحبه تحت ركام العمارة المُنهارة، بل ولا يهتم أساسا بمن يحيط به من أفراد عائلته.
وأول أولئك المتضررّين من الأقربين، زوجته المحامية “سكينة” (مثلت دورها وسيلة صابحي)، التي تستعيد قصة زواجها منه، لتأكيد انتهازية هذا الزوج، فقد اختارها، لأنها ابنة جنرال، ليمهّد له بهذا الصعود في السلم الاجتماعي. وحالما أنجبت له طفلا معاقا حتى هجر بيته، وصار على علاقة وثيقة مع ابنة عم زوجته “كنزة” (مثلت دورها هاجر الشركي)، وهي تعمل مديرة أعمال لشركات فنية وأخرى اقتصادية. هجر حمزة زوجته وابنه المعوق، وتركهما يعانيان الوحدة وسخرية كنزة من الزوجة المخدوعة.
يُحجّج حمزة إلى زوجته بأن سبب ابتعاده عن بيته يعود لانشغاله بأعماله، وهي لا تراه إلا حين يعود في المساء متعبا أو مخمورا ووقتها لا يطيق أحدا. ويدخل على الخط “طارق” (مثل دوره محسن مالزي)، مسؤول حكومي كبير، وهو صهر حمزة، وصاحب فضل عليه في بداية عمله السياسي، وأخ كنزة ابنة عم زوجة حمزة.
وطارق بدوره، لا تهمه أمور البلاد بقدر اهتمامه بنفسه ومصالحه ومنصبه الحكومي، علاوة على عقد الصفقات، شعاره الدائم أنا وبعدي الطوفان، فهو يبحث عن استفادة قصوى من اعتقال صهره حمزة، ومحاولته عقد صفقة معه بالتوقيع على إقرار بأن تصريحاته السابقة حول فساد الصفقة التجارية، كانت بدوافع شخصية ولا تمت للواقع بصلة. وحين سأله حمزة عن المقابل، أخبره أنه يعده بأن يجد من يساعده لينال عقوبة مخفّفة.
بريخت وفو
سيرة البطل تدلّ بما لا لبس فيه عن استهتاره بحيوات الناس من حوله، فهو لا يهتم إلا بنفسه، غير مبال بمن قضى حتفه تحت ركام العمارة المُنهارة |
يحضر في المسرحية “الشرطي” (مثل دوره أمين ناسور)، وهو الشخصية الشعبية في العمل، ابن الشعب الذي يخدم الحكومة، ولا يهمّه إلا تنفيذ أوامر رؤسائه بحرفية، فهو لا يتعاطف مع الذين يسجنون أو يُطلق سراحهم، فهم كلهم سواء، تحدّوا الدولة وعلى الدولة أن تدافع عن وجودها، وتفرض هيبتها على المواطنين سواء داخل المعتقل أو خارجه. وبالرغم من محاولة حمزة المتكرّرة لإيجاد ثغرات في شخصية الشرطي ليستميله، إلا أنه لا ينجح.
وبعد جهد كبير وبكيد السياسي ومناوراته مع الشرطي تعرف حمزة على شخصيتين داخل شخصية الشرطي؛ الأولى لشرطي معتدّ بنفسه وعمله ومنفّذ جيّد للأوامر، حتى لو كان تنفيذها يأتي بالضّرر عليه شخصيا، وهو الذي لا يهمه إن كان سجينه مسؤولا حزبيا أو وزيرا أو مهما تكن درجته في الحياة المدنية، فكل من يؤتى به إلى السجن فهو سجين، وعدو له، لا يبادله الودّ ولا يقدّم له معروفا على الإطلاق، إذ يصبح المعتقل في ذهنه شخصا مشبوها تكرهه الدولة حال اعتقاله، وكل من تكرهه الحكومة، فهو يكرهه. والمعتقل في كل الأحوال خطر على الشعب، كما الأرهابيين.
أما الشخصية الثانية في الشرطي، فهي شخصية الرجل المتدين، الذي يؤدي واجباته الدينية بكل حرص في المعتقل، ويضع طاقية الصلاة على رأسه، وفوقها “كاسكيتة” الشرطة، وفي أوقات الصلاة يخلع “كاسكيتة” الشرطي لتظهر طاقية المصلي على رأسه. ينبذ الإرهاب الأصولي بكل أشكاله، وتساهم شاشتا عرض فيديوي على جانبي خشبة المسرح في عرض أخبار الإرهاب، ويحلم أن يصير واعظا في أحد المساجد بعد تقاعده، متزوج من زوجتين ويكافح لإعالتهما مع خمسة أبناء.
“توقيع” ميلودراما مغربية طعَّمت بالمسرح الملحمي ومَهازل داريو فو، وهي تعيد طرح ثيمات المسرح الملحمي لبرتولد بريخت حول السلطة والحرية، وخصوصا مسرحيته “أوبرا القروش الثلاثة” (إنتاج 1928)، التي تناولت الفساد السياسي بألمانيا في ثلاثينات القرن الماضي بصورة غير مباشرة، وطالبت بالأخلاق بعد الخبز. وكذلك بما فعله الكاتب المسرحي اليساري الإيطالي داريو فو في التسعينات، فهو عمل بذات ثيمة مسرحية “اسرق أقل رجاء” (إنتاج 1989)، التي انتقدت من خلال الهزل فساد السلطة وشطحات الحكّام.
وتعرّضت الميلودراما المغربية أيضا إلى صراعات السلطة والمال والحب والعائلة والانتهازية السياسية والفساد في أعمال بعض السياسيين بطريقة “كُونوا أقل سوءا من فضلكم”، وانتهت نهاية ميلودرامية، بموت حمزة المُضرب عن الطعام في معتقله، رافضا إلى النهاية التوقيع على ورقة فيها استعطاف واعتذار عن تصريحه السابق.
وفي المحصلة، لم تكن مسرحية “توقيع” محايدة عندما تناولت مشكلة فساد بعض رجال الأعمال، فقد اختار مؤلفها ومخرجها الفقراء ليدافعا عنهم، ومن يعتبرناه طرفا مظلوما منهم، ممّا جعل المسرحية تنال رضا الجمهور وإعجابه.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق