مجلة الفنون المسرحية
الكاتب كاظم اللامي |
قراءات في بانوراما الوجع العراقي
إنتظارات مرّة
دراسة ايساغوجية مسرحية
ليس المسرحُ حدثاً عابراً بل هو اسلوب حياة.. اوغيستو بوال .. مخرجٌ مسرحيّ برازيلي
كاظم اللامي :
القراءة الاولى
تسيد فقرة التأليف مصطلح "التناص" كما هو مثبت في بروكرام العمل (كتابة.. تناص مع "الصوت الإنساني" لجان كوكتو) هذا المصطلح الحديث الذي توقف عند عتباته الكثير من المفكرين والادباء والفلاسفة ولزمن ليس بالقصير .. ففي مقتبل ستينيات القرن الماضي شهد المنبر الادبي اجتهادا كبيرا بين أهل الإبداع في أجناسه الجمالية المختلفة غايته الوقوف على تلّة وصفية واحدة، موحدين رؤاهم باتجاه مصطلح (التناص) واخراجه سالما من الغرق في بحر الضبابية وعدم الفهم واللبس الذي شاركه فيه مصطلح (السرقة الادبية والفكرية) وإضفاء الشرعية عليه بشروط يمكن لنا استخراجها من أصل التعريفات الواضحة للنقاد والمفكرين للتناص والتي سنأتي على تفصيلاتها في خضم القادم من المقالة.
كما هو معلوم في بيبلوغرافيا التاريخ المسرحي ومنذ مائة عام أنّ "الصوت الإنساني" هو عمل مسرحي مونودرامي من تأليف الكاتب الفرنسي جان كوكتو مثلته النجمة المسرحية "بيرت بوفي" وهي صديقة حميمة لـ "جان كوكتو" كُتب العمل لها ومن أجلها، مع ملاحظة أنّ "الصوت الإنساني" حظي باهتمام المخرج السينمائي والسيناريست الإيطالي "روبرتو روسليني" حيث حوّله فيلماً، وكذلك المخرج الإسباني بيدرو إلمودوفار الذي استثمره في فيلمه "قانون الرغبة". مما يؤكد عالمية هذا العمل المسرحي الذي أغرى الكثيرين لإعادة تقديمه واستثماره فنيا فحققوا من خلاله نجاحا متميزا على مدى قرن من الزمان، واليوم أتى الدور العلمي والفني والجمالي على الدكتورة عواطف نعيم لتقيم تناصّا مع هذا النص السمين فكريا والمرادف لجوّانيات النفس الإنسانية والذي سجلت من خلاله تجربة فريدة لخصت لمرحلة مهمة مفصلية من تاريخ العراق نعيش تفاصيلها الآن بريادة اعترف بها الجميع للدكتورة بأنها أول من استلهم مسرحيا التظاهرات المشروعة للمواطن العراقي في مواجهة مميتة مع الفساد والظلم وكبت الحريات.
تجلى التناص هنا بمقاربات سيميائية ذات دلالات اجتماعية معينة مع بعضٍ من خطوطِ (الصوت البشري) الدرامية لا جميعها .. وللامانة لمسنا هذا التناص في خصوصية جزئية غاية في المحدودية أطرتها حقيقة انفراط الأحبة مبعثرين في المنافي .. في الغياب .. في الموت .. في العزلة .. العزلة التي أسست لعزلة أكبر سيدتها المرأة التي أضحت وسط ذلك الإنفراط أنينا يحز رقاب الطمأنينة.. مع تواجد علامة تناصية واضحة الدلالة متعلقة بالهاتف الذي تمثل كخيط نسيج محكم تحاك به الفرضيات الواقعية بأناقة درامية واضحة وله تناصه المثمر في جسد وبنية العرض عموما .. وبالتالي ليس هناك أكثر من هذا التناص ممكن لنا تأشيره في عمل "انتظارات مرّة" أما الحكاية وحركتها التصاعدية، والبوح الظاهر والمخفي المعبر عن واقع مُعاشٍ لا افتراضي، وكذلك اجتهاد الكاتبة في تفكيك الشخصية الواحدة وجعلها ثلاث شخصيات فاعلة، وأيضا مشهد الختام الذي لامس بل استحوذ على أناتنا في التواطئ النفسي مع اللعمل والذي اجاب عن كم التساؤلات الهائلة المستترة في اعماق العرض والتي قام المتلقي بتفكيكها الى عناصرها الاولية كعلامات بسياقات دلالاية تركيبية كشفت المعنى بتشكيل معنى اضافي متوالد نتيجة لاختلاف القراءات التي اكد عليها سوسير، كان كل ذلك وغيره صناعة محلية سيدتها الدكتورة عواطف نعيم.
قد يعتقد البعض أن ذكر جان كوكتو ضمن مفصليات الدعاية للعمل من خلال البروكرام غاية مبطنة اعتملت فكر الدكتورة بأنه أحد الإيجابيات المغرية لمتابعة العرض المسرحي من قبل الجمهور لما لصنيعة جان كوكتو العالمية "الصوت الانساني" من تعالق قوي مع الذاكرة المسرحية وهالة جمالية كبيرة لدى المتلقي تبرر استثمار إسم جان كوكتو من قبل فريق العمل.. لكن هذا السبب قد يجوز على غير عواطف نعيم التي كونت إسما مشعا كالذهب في كل أعمالها السابقة مع ما لها من جمهور كبير تجاوز المحلية. وليس هي من يتعكز على أسماء عالمية بهذه الخصوصية الدعائية لأنها هي بالذات إسم عالمي تسيد الجمال المسرحي منذ ان وطأت قدماها أول خشبة مسرحية إبّان شبابها ولن تحتاج لمثل هذا السلوك .. من لا يعرف الفنانة القديرة عواطف نعيم؟ التي شهدت لها الخشبات وشاشات التلفاز بعلو الكعب فكريا وجماليا ..
لو لم يذكر الصوت الانساني كنص متناص لتبادر الى الذهن أن التناص المقصود في حقيقته هو التناص الواقعي مع الهم العراقي العام.. وقد يكون تناصا مع أعمال أخرى لعواطف نعيم تميزت بسلسلة أوجاع احترفها المواطن العراقي في اجترار الأنين.. تناص مع تاريخ المسرح العالمي التثويري الذي أخذ على عاتقه تأصيل التغيير في الواقع راديكاليا .. ووفقا لما مر يتجلى التناص الذي قصدته الدكتورة عواطف نعيم كتداخل وتعالق سيميائي لا لفظي مع مقتربات تعنى بجنس الفجيعة التي اجتمع العالم تحت سقفها والتي صنعها الفقد والغياب .. كل ذلك ممكن له ان يفتح لنا أبواب تفسير وتأويل هذا المصطلح (التناص) الذي فتح بدوره الأبواب مشرعة أمام اللسانيين ليغوروا عميقا في طبقاته منذ ولادته في ستينيات القرن الماضي متناولين اشكالياته وما رافقها من رؤى تمثلت احداها بموت المؤلف والغاءه لكنهم في النهاية اتفقوا على مشروعية التناص المتوالد من سيميائيات الملفوظات المحاكة بنيويا ودلاليا، باعتبار ان كل نص هو مخلوق توالدي تفاعلي وتواصلي لم يخلق من عدم.. والفضل في شيوع التناص الحقيقي المشروع يعود لتبادل التجارب الادبية فيما بين الشعوب وبما اصطلح عليه في زمن ما بعد الحداثة بــ "العولمة" والتي تقودنا للمطالعة المكثفة لمنتجات الاخرين وازدحامها في تلافيف الذات الانسانية وذوبان البعض في الكل مما خلق تعالقَ النصوص فيما بينها بتوالد اميبي. وتعضيدا لكلامنا بمشروعية التناص المنافي للسرقة نورد هنا بعض الرؤى والأطاريح لكبار فلاسفة واساطين الأدب.
التناص في رؤية المفكر والناقد الفرنسي "رولان بارت" بمثابة البؤرة التي تستقطب إشعاعات النصوص الأخرى متحدة مع هذه البؤرة لتؤسس النص الجديد "المتناص" ومن ثم يخضعان في الآن نفسه إلى قوانين "التشکل" أو البناء وقوانين "التفكك" أي الإحالة إلى مرجعية ما أو إلى نصوص أخرى.
أما "جوليا كريستيفا" وهي أديبة بلغارية وعالمة لسانيات وهي مؤسِسة جائزة سيمون دي بوفوار فقد اعتبرت التناص أحد مميزات النص الأساسية التي تحيل على نصوص أخرى سابقة عنها معاصرة لها. واردفت قولها بعدم وجود نص خال من مدخلات نصوص أخري وقالت عن ذلك: إن کل نص هو عبارة عن "لوحة فسيفسائية" من الاقتباسات وکل نص هو تشّرب وتحويل لنصوص أخرى. ومن وجهة نظر "ميخائيل باختين" أن الکاتب يتطور في عالم مليء بکلمات الآخرين فيبحث في خضمها عن طريقة لايلتقي فکرة ما إلا بالکلمات التي تسکنها أصوات أخرى. ويري "فوکو" بأنه لا وجود لتعبير لايفترض تعبيراً آخر ولا وجود لما يتوالد من ذاته.
لنخلص في النهاية ان التناص عملية وراثية للنصوص بمجملها وهو ملتقى نصوص کثيرة بحيث يعتبر قراءة جديدة وهو ما نسميه بالتداخل والتعالق الروحي او التوارد التوأمي السيامي والفاصل بينهما بلا شك هو زمن الكتابة.. وللامانة ووفقا لقناعتي الشخصية لم يكن هناك تناصا بين الصوت الانساني وانتظارات مرة سوى الجو العام المتحدث بلغة الفقد والغياب.
القراءة الثانية
وفقاً لما للمسرح من سلطة روحية وقدرة تأثيرية سحرية هائلة لإنتاج قوى معرفية تعيد الفكر الى جادته ليأخذ مداه في إعادة صياغة الحياة بشكل جديد شهد العرض المسرحي }انتظارات مرّة { تجليات غامرة وعامرة بالجمال والمعرفة والدفع بتأويلات المتلقي باتجاههما فكريا بتبنيات فلسفية راديكالية رائدها البحث عن مظاهر الجور والظلم والفساد والقهر في المجتمع واجتثاثها نهائياً بمعية البحث عن مظاهر الالم والوجع ونكوص الانسان وانحساره كصانع للحياة في نفس المجتمع لاجتثاثها هي الاخرى من اجل مجتمع سليم معافى ،،، كل ذلك كان مصدره : د.عواطف نعيم المعروفة بنزعتها الدرامية الشعبية المنتقاة بواقعية سحرية من خلال رسمها الدقيق لمكونات الشخصية المسرحية التكاملية بمرجعياتها المختلفة الاجتماعي، والثقافي، والسياسي، والتاريخي ودور هذه المكونات في البناء الهرمي لإنضاج الحدث من خلال انفعال وتفاعل الشخصيات الخالقة والمكونة له وهي تبوح مسترسلة بحوارات مونولوجية فردية بصيغة مونودرامية وبدائرة تواصل لفظي تطهيري ضمن تواصل وجودي تحريضي مداره الأنا المستلبة،، هذا في الظاهر المفترض أما في الباطن الحقيقي فهي تجلد بعضها اي الشخصيات وبالتعيين بحواراتها بسياط لفظية تنتج خطوطاً من الإهتمام والإصغاء المشترك فيما بينها، وبتقاطع تشتبك فيه الهواجس في دائرة صراع موحدة، وتنحاز فيه العلامات باتجاه تذكية هذا الصراع المُنْتِج لزمنٍ، ومكانٍ مغايرين، لهما واقعية واضحة بمقتربات لا تغادر الذاكرة الجمعية الشعبية لتكون مُخْرَجات هذا الصراع في ختام العمل عرضٌ للمشكلة بمعية حلها .. لتؤكد الدكتورة عواطف نعيم في نهاية المطاف رغم استقلالية هذيان الشخصيات عما يحيطها بسرد فردي مؤكدة أي د.عواطف نعيم على ذوبان الفرد في الجميع لوجود مشتركات متعددة بين الشخصيات من جانجانب، وبين كل شخصية وذاتها، وبين الشخصيات عموما والجمهور الذي يجلس متسمرا وهو يتابع حياته مجسدة بالصوت والصورة .. وبشاعرية تنطلق من الهمس المشترك ولا غير الهمس لتحدث وتتفجر علامات ودلالات ابستمولوجية إثر ذلك مجالها ذات المتلقي الذي يكون على عاتقه ترجمة الفعل المسرحي بواقعية هو بطلها بمعنى رمي الكرة في ملعبه وعليه أخذ المبادرة في التغيير المرجو من المسرح باقتران مع لعبة (400بريد) في الاستلام والتسليم في مسابقات العاب القوى.
دأبت الدكتورة عواطف نعيم منذ ان عرفها الجمهور كأحد الركائز الاساسية في صيرورة المسرح العراقي دأبت على تبنيها بوعي منتشي، ومتحرر للمسرح السياسي باحتجاجية جريئة وشجاعة، تضع من خلاله النقاط فوق الحروف معلنة رفضها الواضح لكل ما يأكل من جرف إنسانية الإنسان وكرامته مع انحياز واضح الى فلسفة مسرح المقهورين وهي تبلور جهدها المسرحي الخلاق كعلامة فارقة منتقلة برشاقة المفكرين، هذا الإنحياز الذي أكدته أعمالها الكبيرة وهي تطرق بشدة على وعي المتلقي الإنسان (تحسب أنك جرم صغير وفيك انطوى العالم الأكبر) هي مراهنة واثقة وليست يائسة من قبل المخرجة على طاقات الإنسان المعرفية ومكنونات روحه المبدعة في القدرة على التغيير الإيجابي والذي من أجله وجد المسرح، مع إدانة واضحة للقوى الظلامية مصدرها قلمها الفذ وقدراتها الإخراجية والتمثيلية في جميع أعمالها من خلال سلسلة الوجع المهيمن على الروح كنتيجة فعلية للحروب المتعاقبة لبلدها العراق وهي تراه متخذاً لوناً خاكياً إشارة الى عسكرة المجتمع التي أكلت من جرف جماله وإبداعه وحياته وحريته. والأجمل من كل ذلك أنّ الدكتورة عواطف نعيم وإنْ أظْهرت شخصياتها وهي تنحني في خطواتها داخل بنية العرض نتيجة ضغط الهَمِّ المتراكم.. وقسوته.. والوجع المستدام.. ونكباته التي أرهقت الشخصيات واقعيا وافتراضيا.. وكذلك وإنْ بدت مفعولاً بها ومغيبة بشكل قسري،، لكنّ الدكتورة جعلت تلك الشخصيات اللاافتراضية تتجلى قافزة كحمم البراكين من رحم السكينة والاستسلام لتكون جبلاً يمازح النجوم متحولةً من مفعول به الى فاعل مؤثر قوي نشيط نتيجة الذي ذكرناه آنفا في مراهنة عواطف نعيم على حقيقة الإنسان التكوينية والكمالية والإرادة التي وهبها الله له في تحويل الخسارات والهزائم الى انتصارات مخلدة وهذا ما هو متحقق في تبني الإتجاه المسرحي السياسي والبريختي بمقتربات فلسفية مسرحية مع مسرح المقهورين لتخلق لنفسها واسمها وتاريخها مسرحاً أوسع فكراً واشمل معنى وأكثر جمعاً لعناصر التأثير وأبلغ قدرة على التغيير بمسمى حداثوي واقعي أسميته (مسرح الضوء) الذي يبدد كل الظلامات بمختلف اتجاهاتها بدءً من أصل الفعل المسرحي الجمالي الطارد للقبح الذي تسيد الكثير من العروض الهامشية للغير وانتهاءً بفكرها الإبداعي المحرض على زحزحة كل ظلامات الواقع المر الذي يعيشه الفرد والجماعة على حد سواء .. وهي في كل ذلك تنحو منحى الإصلاح التدافعي بطريقة تدافع كتل الضوء لطرد الظلامات ، ونزولا عند العقيدة العرفانية (الحسنات يذهبن السيئات) والجيد يطرد الرديء.
القراءة الثالثة
هوية العرض عنوانه والعتبة الاولى في اختزال كل المعاني والدلالات السيميائية الذاهبة باتجاه بلورة الانطباع العام وتمفصله في الذهن الكاشف عن بنية العرض وموضوعه وهذا ما شكله عنوان العرض من توهجات فكرية ساهمت في تهيئة المتلقي للغور اركيولوجيا في بنية العرض الدلالية مولدا معانِ مهمة ساعدته على تقبل ما شاهده بيسر دون لبس او تأويل مضاد.. هناك انتظارات مريرة تشكلت كفأر خرافي يأكل منسآت ارواحنا نتيجة لفصول القهر العديدة التي ألمت بذواتنا حيث كان يتسرب من بين فجوات اسنان هذا الفأر الخرافي ثمة تساؤلاتمن صنع آلامنا: وماذا بعد هذا الانتظار؟ مالذي سيحدث؟ مالذي سيتغير؟ لذا ياتي الجواب من أصل مرارة الانتظار باللاشيء باللاجدوى .. ولشدة هذه المرارة ولانها لم تعد تستساغ مطلقا كان لابد لها من مواجهة بالرفض والقول (لا) لا للانتظار مقعيين في خانة الخوف والوجل ننتظر نهايتنا مستسلمين لقدر يصنعه الاخرون لنا وفينا .. وبمجرد أخذ المبادرة في الرفض ذابت كل الموانع التي كانت تحجرنا في خانة القطيع الراضي بقسمه والمتحول نتيجة لهذا الرفض الى ذات انسانية حقيقية تمج كل هذا الفساد المستشري وكل هذا الجبروت الخانق انها ثورة العنوان المسرحي التي تبنتها توجهات الكاتبة والمخرجة الدكتورة عواطف الفذة نعيم.
القراءة الرابعة
بوهج فلسفي تمردي وتحريضي على تبني الجمال في الطرح المسرحي والثورة الجادة في تأصيل تفاصيل وتقنيات هذا الطرح مع تأكيد قصدي على حقيقة مطلقة مفادها ان المسرح ليس وسيلة للترفيه فحسب بل هو مجالا واسعا للتغيير نحو الافضل والاجمل في كل مرافق الحياة .. ووفقا لما قلنا آنفا أطلّ العرض المسرحي (انتظارات مرّة) علينا محملا بالرصيد المتراكم من التجارب النوعية في المسرح، على مستوى الكلمة، النص، والمعالجة المسرحية، وما تقتضيه خشبة المسرح من متلازمات فكرية ومادية متلاقحة بنيويا متخذة تشكيلة بانورامية تستعرض التجربة العراقية المجترّة لتراكامات الآلام باستثمارها كتوهجات وتوجهات فلسفية برزت كحجرِ زاوية في تمظهرات العرض المسرحي "انتظارات مرّة" مقتضاها : أنه تأتي علينا ساعات خارج أسوار الخوف نُقَشِّرُ فيها صورنا المُقَمَّطَة بقماط سلطوي لا يبدو منه رأسٌ للحقيقة سوى شيء مبهم، لننفض بقوة غيبية هذه الأقمطة بعيدا ونعلن وبشجاعة عن زئبقية الفرح الذي ما إن تمسكه بقلبك حتى تنبري الحرب منزلقة تتسيد واجهة الحياة بسلسة مواجع بتواطئ مع عقيدة : "أنّ خشبة العرض هي صيرورة وجودنا في الماضي والحاضر والمستقبل" لينفعل هذا الوجود بمراجع : سـوسـيولوجية،، ســياسية،، ايديولوجيـة،، تاريخيــة،، تلتحم مع بعضها لتشكيل التجربة الذاتية للرباعي المتجانس (الكاتب،، المخرج،، الممثل،، الجمهور) ومن علق به ابداعيا من فنيين وغيرهم.. هذا الرباعي الذي عُرِفَ بتجربته الذاتية المرّة في معايشة قسرية الحرب ولبس رداء مأساتها، فهم كانوا حطبها المتوهج وجربوا وتعايشوا مع خساراتها التي أكلت من جرف وجودهم كذوات مثمرة.
لو أنّ احدهم صفعنا بسؤال هو في حقيقته كمزمار الحاوي لإخراج رأس الأفعى من السلّة واستلال ألسنتنا من مخابئها، بالتأكيد سينفجر بركان الحكي من افواه يابسة ستحكي وتحكي وتحكي حتى ينقطع النفس، مع سيل من دموع ساخنة تلسع حرارتها ضمائر الانسانية .. ولكن ما هو هذا السؤال الذي سيفجر ذوات الحكواتية اصحاب التجربة؟؟؟
- ماذا تعني لكم الحرب؟؟؟
الحرب اسد هصور لاك بين فكيه اعمارنا الغضة.. وقتل احلامنا وهي تتوسل تحقيقها على ارض الواقع بوطن تصنعه ضمائرنا وسواعدنا لا وطن تصنعه (حلاوة النصر) التي شبعنا من أكلها فأمرضتنا وهي تُقَدَّمُ لنا نهاية كل هزيمة مسلفنة بأوهام الإنتصارات حيث لا عبارة تتسرب لوعينا الجمعي سوى ((يا محلى النصر بعون الله)).
أي نصر هذا الذي يخسر المنتصر فيه كرامته، شخصيته، ثرواته، اعمار ابناءه، أخلاق مجتمعه، مكتسباته التاريخية والحضارية .. الحرب بنت كلب كما قالها صغيرنا وكبيرنا ولم نعرف معنى الانتصار فيها طيلة حروب القرن العشرين وحتى الان في 2019 إلا في الشعارات والخطابات الحماسية للزعيم الأوحد المؤيد المسدد بالله. لنخرج في نهاية المطاف بحقيقة أحادية متفردة أن النصر في مفهوم الأنظمة الشمولية محصور بدلالة واحدة، وهي بقاء هذا القائد مبتسما بفم اشدق، متسيدا رقابنا حتى قيام الساعة ملوحا بيد كالساطور وهو يحيي ذواتنا المنحنية امام سلطانه أن لم نهتف له بالروح بالدم فالنهاية أثرٌ بعد عين.
هناك اقمطة حاكت عراها حول الانسان ارادت الدكتورة عواطف تعريتها ازاحتها مسرحيا طلبا للحرية من خلال ثلاث قصص لثلاث نساء الخطيبة والزوجة والجدة وهنا نُؤشر انقلاب فكري اخراجي على سمة الشخصية الواحدة في "الصوت الإنساني" حيث جَزأت الشخصية الواحدة في منتج جان كوكتو الى ثلاث شخصيات في منجزها "انتظارات مرة" وهو سلوك اخراجي يشي بعمق الفلسفة المسرحية لضخ الدم المنفعل في شرايين العمل بخلق حبل سري يجمع الوجع المتعدد للنساء الثلاثة هذا اولا ولقتل رتابة الشخصية الواحدة ثانيا ولبث الحياة في الحبكة وهي تدور على الشخصيات الثلاثة مع بعد باتافيزيقي يتمثل بحكاية داخل حكاية وبمسرح داخل مسرح اشارة الى تفاعل الشخصيات الثلاثة بشروط الشكل والهيئة العامة للمسرح كوجود مكتمل من خلال الممثل والجمهور وتحت شعار "احكي واشاهد" باعتبار الانسان كائن ناطق ومستمع ومتفاعل مع محيطه العام.
هؤلاء النسوة اللاتي نقلْن صورة المرأة العراقية التي لا يمكن تمثلها الا وهي بثوب حداد يخفق في المدى .. حيث استطاعت الدكتورة عوطف نعيم ككاتبة ومخرجة للعمل ان تزيح هذه الاقمطة الثقيلة المتمثلة بالخوف وحيرة الإنتظار هاتان الصفتان اللتان لازمتا الشعب المستكين طيلة عقود فارهقت ما به من قوة، حيث سافر بنا العرض عبر الزمن من خلال ثلاثة اجيال او ثلاثة مراحل زمنية رائدها الحروب العوراء .. السفرة الاولى كانت مع فتاة شابة مقبلة على الزواج من خطيبها حسن الذي تكرر اسمه مع المرأتين الأخريين كعلامة ودلالة على وحدة الموضوع في توجهات الحسنيين الثلاثة كرجال جعلهم القدر في موقع المسؤولية للدفاع عن ارض الوطن .. أطلت علينا الخطيبة الشابّة التي ادت دورها شيماء جعفر وهي تتواصل بحديث شيق محاك بيد من حرير عبر الهاتف مع حسن والذي وعدها بمجيئه وعودته من ارض المعركة قريبا لاتمام الزواج لكن الاتصال انقطع عند نقطة درامية متوهجة عدت كحبكة داخلية لمشهد ضمن مجموعة مشاهد وهو مايميز انطلاقات عواطف نعيم المسرحية التي لا تنتهي.. حيث تَعْمَد الى خلق مجموعة حبكات موزعة في بنية النص تبني وتؤسس للحبكة الرئيسية في العمل كل ذلك من اجل الحفاظ على الايقاع بتصاعد لذيذ يغني الحدث ويقوّم الشخصيات ويعطيها الفرصة لفرض وجودها بفاعلية مهيبة مع وخزات تنشيطية للمتلقي للإحاطة بما يجري أمامه.
هذا الانقطاع في الاتصال الهاتفي فتح سجلا كبيرا لمراجعة الخسائر التي تحدثنا عنها والتي هي من ثروات الحرب الطبيعية.. ومما اغنى هذه اللحظة واججها دراميا هو هذا القلق الذي صورته الفنانة شيمياء جعفر بمعية صمتها المتقطع بين حيرة سؤال وحيرة توقع قاتل لجواب يعد كالقاضية لها وهي تستعلم عن حسن ليأتيها الجواب من عامل البدالة بقول فصل ينهي اجترار الاسئلة "اين حسن .. لم انقطع الاتصال .. مالذي جرى لحسن .. لماذا لا يرد على سؤالي .. متى يكون زواجنا .. هل فعلا سيتزوجني حسن" واتى الجواب المنتظر باستشهاد حسن بشظية اخترقت رأسه واستقرت فيه .. لحظات الصمت هذه التي رسمتها عواطف نعيم واتقنت تجسيدها شيماء جعفر اثناء اتصالها الهاتفي وانقطاعه أغنت مفهوم الدراما الذي انتقل ايساغوجيا في هذا العمل في سياقات تركيبية من الدلالة على الحركة فقط إلى الدلالة على الحركة والسكون ومن الدلالة على الكلام والحوار والصوت فقط الى الدلالة على الصمت مع انفعال عكسي بدلالة السكون والصمت على حقيقة مفهوم الدراما.
كان لجواب عامل البدالة باستشهاد حسن بشظية اخترقت رأسه تشكيل حقيقي لشظية اخرى من صنع الجواب او الخبر وهي بطولة معهودة لعامل البدالة في كل اتصالاته ابان الحرب وهو يبعث اخباره المميتة على الدوام ونتيجة لذلك تخترق شظية الخبر رأس الخطيبة ليكون سياميا مع رأس خطيبها .. هذا الرأس الذي رفضت تلك الفتاة ان يحتض داخله غير صورتها وحقيقتها كحبيبة وخطيبة مما ولد لديها خيبة كبيرة وعتب لذيذ لخطيبها حسن....
- كيف هان عليك ان تشاركني مكاني ومملكتي في رأسك بقطعة حديد ساخنها اسمها شظية ..
اااه كم استفزتني هذه الغيرة الأنيقة التي احكمت عراها في قلب هذه الفتاة وهي تُشكل عليه استقبال رأسه هذه الشظية الغبية التي اتخذت من النعت المؤنث صفة لها وكأنها تقول أي الفتاة
- انت لي وحدي انا ..من تكون هذه الشظية؟ حتى تفتح لها رأسك لتستقر فيه
وفي رأيي المتواضع ان الدكتورة عواطف كانت ذكية في تناص (الغيرة) لبطلة جان كوكتو مع بطلتها الخطيبة المكلومة في جزئية الشظية.
حسنا فعلت المخرجة باستثمار الوسادات وخاصة مع شيماء جعفر من خلال تعاملها معها بوضعيات مختلفة اغنت الموضوع حيث اعطت فكرة ما بعطش نسوي للحظات حميمية مع الحبيب لحظات سرقتها الحرب وداسها قطار العمر .
كان للهاتف المستخدم في اتصالات شيماء جعفر وهو من النوع القديم بسماعة وسلك ومزول للارقام وبشكل متعارف معهود دلالات مشرقة بالعزلة والوحدة والجنون تلمسنا نحن المتلقون جانب من هذه العزلة بحق وحقيقة ونحن نمسك هواتفنا الخلوية، كما أعطى دلالة زمنية معينة وان اشتبكت فيها المسميات الزمنية المترادفة مع حروب مختلفة لكنها ومن خلال السياق والنسق الدرامي وطبيعة الحوار وسيميائياته تم تحديد الواقعة حيث كانت في حرب الخليج ذات الثمان سنوات. وما ميز هذه الفتاة هو عشقها للسلام وتأكيدها على تبني الحوار في فض كل ازمة يمر بها الوطن بعد ان انقطع الاتصال بخطيبها مما دعى المخرجة لاستثمار هذا الانقطاع والذهاب باستراحة جميلة بتمرير بعض الانطباعات والرؤى لمجمل الحياة التي نعيشها باشارة من شيماء جعفر لبعض التفجيرات الحاصلة هنا وهناك وتواجد الاختلاف السياسي والاجتماعي والذي كان رأيها فيه بقولها (ليش ما تكعدون وتتفاهمون وتحلون مشاكلكم بهدوء) وهو الامر الذي يحيلنا بتداخل زمني ومكاني تميز به العمل بين الشخصيات في حواراتها وكأنها شخصية واحدة عاشت كل هذه الاحداث المختلفة بنفس واحد لكن باقنعة مختلفة على اعتبار ان الخلافات بين ابناء الوطن الواحد مازلت تدب فيها الحياة ويتوهج لظاها مع كل تغيير سياسي.
بعد ان عجزت شيمياء جعفر عن تكذيب عامل البدالة وخبره بشأن خطيبها حسن وبعد تمام يقينها باستشهاده احتالت على نفسها بكذبة مفضوحة تعتاش على كذبة اخرى تواطئها في الحلم وتختلف عنها في التقنيات من صنع ذاتها المكلومة مفاد هذه الكذبة ان حسن لازال على قيد الحياة وهي اشارة الى رغبة مستدامة عند الجميع بان العراق بخير وسيكون بخير وسيبقى بخير رغم نيران الفجيعة التي أكلت الاخضر واليابس فلجأت الخطيبة الى مواصلة القبض على سماعة الهاتف وهي تنزوي في اقصى عمق المسرح متبنية الانتظار كحل لكل هذا الوجع وهو برأيي فعل اتخذته نتيجة الخوف .. الخوف من سلطة اكبر ربما او الخوف من الاعتراف بانها فقدت خطيبها والذي سيقود الى وصفها بزوجة شهيد هذه الصفة الثمانينية التي لوثت سمعة نساء الشهداء كاجراء نفذته الحرب وسياسة الدولة وهو مازال اجراء حقير يقوض المجتمع ويقتل جدوى الشهادة. هذا الخوف الذي جعلها ان لا تتصارح مع الجمهور وترفض وجعها ومن كان له الدور الاساس في صناعته،، ولقدراتها كأنثى بلا حول ولا قوة،، ونتيجة لتفاهة سنن المجتمع عمدت الى الخنوع في اعماق الذاكرة الانسانية معللة قلبها بالانتظار .. في هذا السياق الدرامي الذي نطالعه عند عتبة شيماء جعفر يقفز امام رؤانا تساؤل لا يخلو من قصدية تعنى بالجنس البشري.. اين صوت الرجل وما حقيقته على الطرف الاخر؟ اراه مخنوقا يمتهن الغياب ...هل هو حقيقة متشحة بالظلال ام وهمٌ مخادع من صناعة نون النسوة؟ ما مدى ايمان الدكتورة عواطف نعيم باهمية صوت المرأة وهو يعلو خانقا صوت الرجل .. بروز صوت المرأة وغياب صوت الرجل بهذا الشكل يدعونا للاعتقاد بان خير من يتحدث عن الالم هو المرأة وهي خير ممثل للمآسي وتفاصيلها .. لكن غياب صوت الرجل يجعلنا ننتفض بالقول ان الحكاية ربما كانت كذبة اختلقتها المرأة لتقضي على اخر انفاس الزمن والوقت الثقيل الذي تصارعه في وحدتها بابتداع حكايات مزيفة تتلوها على اسماع الجمهور الذي وجدت به خير شريك لمؤامراتها بقتل الوقت وهو يصيخ السمع بانشداد ملحوظ.. ونزولا عند هذا الاشكال اجد ان اكبر الكاذبين هم اصحاب الصوت الواحد الصوت المونودرامي احادي النغمة لذلك تراها أي الخطيبة بعد تعبها وارهاقها تكف عن الكذب بحواراتها الاحادية فتعمد الى الانكفاء على نفسها بنظرات حزينة في اللاشيء لكنها تبقى تتابع بوعي آخر لما يدور حولها داخل اسوار الخشبة متحولة كمشاهدة ومتفرجة على حوار تلفوني آخر لشخصية اخرى وهذا ما درجت عليه الشخصية الثانية التي مثلتها الفنانة سوسن شكري بعد ان تلقت خبر استشهاد زوجها من قبل عامل البدالة ومن خلال الهاتف الذي كان من نفس النوع السابق المرافق لشيماء جعفر باشارة الى تقارب تقني وزمني بينهما بتوقع ان تكون الاولى في حرب الثماني سنوات والثانية اما في حرب الخليج الثانية ابان الواحد وتسعين او في حرب داعش.. اختلفت الوانُ الهاتِفَيْن وتعدد الألوان في هذه الجزئية اشارة الى تعدد جهات الوجع وتعدد مصادره وتعدد شخصياته وكذلك اشارة صريحة لفسيفساء الوطن من المكونات المختلفة من الشمال الى الجنوب والتي اعتصرها القهر بتناسخ عجيب لادواته القمعية..
تجاورت حيثيات حياة الخطيبة والزوجة بنفس لغة المأساة لكن بتمايز معين، كانت عواطف نعيم في اشاعة هذا التمايز في جسد العرض ذكية بمراعاة عمر الشخصية ووجودها الاجتماعي من خلال طبيعة الشخصيات وما تناثر عنها من افعال حيث لاحظنا تمايزا بين شيماء جعفر وهي تتحدث مع خطيبها بحركات وافعال فيها بعض النزق الشبابي وبايحاءات جنسية تؤكد عمر الشخصية وعشقها للحياة وبين الشخصية الثانية التي وجدنا فيها اعتدادا ورصانة وقوة مع تأكيد للعمر من خلال اسقاطها عند دخولها الخشبة لاواني الطبخ وهو دليل عظم المأساة التي ارهقتها مع تقدم بالعمر ناسبته كثيرا ممتلكات سوسن شكري العمرية والجسدية والادائية.. ومع هذا الاختلاف في العمر وطبيعة الشخصية وأناتها واختلاف طريقة الاستشهاد لزوجيهما الاول بشظية والاخر نتيجة لتفكيكه قنبلة موقوتة الا انهما اتفقتا على نفس الحل بتواطئ له مبرراته النفسية والوراثية نتيجة للخوف المهيمن على الروح والذي هو الحالة العامة التي كان يعيشها الفرد .. فلم تكذب الشخصية الثانية "سوسن شكري" خبرا فلجأت الى عمق المسرح ممسكة بسماعة الهاتف مواصلة الاتصال بشخص لا وجود له "عامل البدالة" ربما استشهد هو الاخر لذا لن يكون هناك جواب في قابل الايام سوى الووو .. الووو .. الووو .. طوووط .. طوووط .. طوووط.
وهنا احب ان اذكر معرجا على فكر المخرجة الكبير واستثمارها لجغرافية المسرح الذي احتضن العرض رغم محدوديته وعدم وجود الفضاء المناسب له وهي حالة عامة يعاني منها الكثير من مسارحنا كما يعرف الجميع لكن المخرجة قفزت بأريحية فوق هذا الاشكال مستثمرة ذلك الحيز الجغرافي المتواضع بإقعاء الشخصيتين المنتظرتين في عمق المسرح وهي علامة سيميائية بدلالة ثقافية اجتماعية حاذقة بانزواء المجروحين في خانة النسيان وان بدتا ظاهرتين امامنا تحت انوار المسرح.. مع اشراقة يجب ان لا نغفل عنها باتجاه ادانة المجتمع للمجتمع ادانة ذاتية من جنس الفعل هذا المجتمع الذي لم يتحمل مسؤولياته بتخفيف كم الالم الذي نال هذه الشريحة من النساء المثخنات بالفقد مع حقيقة لازمت الشخصيتين مفادها الهروب المستمر بمعية اخر ذكرى لمن فقدوا وهو الهاتف.. الهروب من مجتمع اعلن قسوته مع اول كلمة الله اكبر واول شهيد قاتلَ بالنيابة في حروب لا ناقة لنا فيها ولا جمل وهو القاسم المشترك الاوحد في كل حروبنا والذي اعلن عن نفسه كحقيقة ثابتة .
الانتقالة الكبيرة للحدث والمفارقة الدرامية للعرض بشكل عام والثيمة العالية القيمة التي طفت على السطح كإعلن وجود هي لحظة دخول شخصية الجدة التي جسدتها الفنانة الكبيرة سمر محمد والتي رتبت اوراق العرض المبعثرة حينما تلقت خبر وفاة حفيدها وابن بنتها التي ماتت بين يديها لحظة ولادة طفلها الذي كبر واصبح بعمر السابعة عشر حيث أُبلغت باستشهاده في ساحة التحرير مطالبا بالحرية ونبذ الفساد والظلم .. وهنا لابد لنا من الاشارة الى زمن الكتابة للشخصية الثالثة الذي واطأ زمن السرد والذي بدوره واطأ زمن العرض وهذا دليل على تلاحم المسرح مع قضايا الجمهور واستجابته لهول الأنين الشعبي برفض الظلم والفساد وتجسيد هذا الانين مسرحيا مع ملاحظة دقيقة يجب الالتفات اليها وهي تحمل على اجنحتها فكر الدكتورة المتقد حينما جزأت الشخصية الواحدة وجعلتها ثلاث شخصيات راعت في ظهورهم انسياب الزمن "العمر" بخط قطري متخذا شكلا بيانيا بمعادلة رياضية (الفرق بين مربعين) عندما جعلت الاولى خطيبة جندي تطورت بعدها لتصبح زوجة ضابط ثم تطورت عند الذروة لتصبح جدة ثائر مما يدل على ذكاء الدكتورة الدرامي الذي يرمم الشخصية بإقناع مميز.
الملفت للنظر بتميز الشخصية الثالثة عن الشخصيتين الاوليتين يتجلى بسياقات عدة توزعت ما بين الفكري والواقعي والنفسي عكست اختلاف التوجهات العامة لعراقي الامس عن عراقي اليوم وعكست طبيعة الولاءات الذاتية للرجل وسبب استشهاده فيما مضى عن سبب استشهاده في الزمن الراهن كما عكست عن طبيعة نون النسوة وتوجهاتها الوطنية واختلافها عمن سبقها. هذه الاختلافات بين الماضي والحاضر استقيناها من التالي من المفارقات وكأن العرض وضع امامنا كما تفعل المجلات بصفحتها الترفيهية لاكتشاف الفوارق بين صورتين معروضتين للجمهور تحت عنوان جد الفروقات السبعة بين الصورتين.
تواجدُ الهاتف النقال بيد الجدة عكس الهاتف القديم بيد الخطيبة والزوجة كعلامة زمنية تقنية وضعتنا في الزمن المناسب المحصور بالعشر سنين الاخيرة والذي سيتحدد بالزمن الحالي المعاش من خلال استشهاد الشاب في التظاهرات في ساحة التحرير مع بروز علامة مهمة مكثفة المعنى مجالها أن خطيب الاولى وزوج الثانية كانا يقاتلان دفاعا بالنيابة عن مسميات مختلفة بلا وعي بلا رغبة تم جرهما لحماقات لا ناقة لهما فيها ولا جمل ، كان الموت لديهم قسري مجبرين عليه مع رغبة مؤكدة بان يكونوا في استشهادهم اخر القتلى عكس الحفيد الذي انتفض من اجل المطالبة بحقوقه المسلوبة واحلامه المنهوبة وحرياته المذبوحة على محراب الديمقراطية المزيفة مع رغبة حقيقية لاسترجاع حقوق الجندي والضابط اللذان سبقاه في الموت المجاني ، فكان موته رغبة حتمية بنيل الاستشهاد طالبا اياه يريد به وان علا تل الجماجم ان تحقن دماء من يأتي بعده.. وان تُحفظ كرامة جدته بعيش كريم وان ينتهي مسلسل الموت لكنه استشهد برصاصة قناص بإشارة ذكية ومهمة لخسة القتلة مع توثيق لحقيقة استشهاد اغلب الشباب في ساحة التحرير بهذه الطريقة الجبانة.. والامر الاخر والمهم وهو الذي نصب نفسه كخيمة حافظة لجماليات العرض مع تمتعه بالإحاطة بهدف وغاية العرض عموما.. تمثل هذا الأمر بخروج الجدة عن المألوف وتحررها من الخوف والانتظار اللامجدي وادانتها للاستسلام المذل الذي لازم الخطيبة والزوجة فيما مضى مستقية موقفها من طبيعة استشهاد حفيدها الذي ناقض استشهاد من سبقه لذلك اعلنت ولائها للوطن بكلمتها المدوية " جايه.. بعد ما انتظر.. جايه لساحة التحرير"هذه الكلمة التي استحوذت على مناهج الثورات العالمية بأسرها مع استحواذها آذان وظمائر النسوة المقعيات في عمق المسرح مما فجر فيهن الفعل الثوري الذي كان يؤكد عليه بريخت بتعبيره "الشرارة الاولى" مما دفعهن للخروج وبنفس الطريقة وبنفس العبارة الدرامية الثورية الخالدة والتي عجز الكثير من المقعيين عن قولها "جايه.. بعد ما انتظر.. جايه لساحة التحرير" .. انتقلت الشرارة من الجدة الى الزوجة الى الخطيبة بتتابع عكسي لظهورهن الاول مع تحفيز الاجيال الماضية بأثر رجعي وبالتالي انتقال تلك الشرارة الى القاعة والى الجمهور الذي اندفع متفاعلا وهو يعلن اعجابه بالعرض الذي ارخ لحقبة مهمة من تاريخ العراق الحديث والذي زج بنا روحا وجسدا في خضم ساحة التحرير حاملين اعلامنا مترنمين بهتاف "سلمية .. سلمية .. نريد وطن.. نريد وطن" .
القراءة الخامسة
حسنا فعلت المخرجة باختياراتها التمثيلية حينما اشركت الفنانة الكبيرة "الجوكر" سمر محمد سر نجاح ايما عمل تشارك به لانها اضافة حقيقية كحضور مثمر له ثقله الواضح دراميا لما تمتلكه من ادوات تمثيلة مميزة تشي بالحميمية مع المشاهد الذي يأنس بصوتها ذي النكهة المحببة المختمر في الذاكرة كعلامة ابداعية ارخت لنجاح العديد من منجزات الفن العراقي.. وكذلك كان لتقاطيع وجهها الحادة قدرة لخلق كاريزما امرأة قوية تحملت كل جنون الحياة وبوؤسها حيث طابق واقع دورها تلك الكاريزما المتحولة مع كل دور تتقمصه.. اما الفنان القديرة "سوسن شكري" ذات التاريخ المتوهج ابداعيا لم تقل قدرة وفاعلية على انضاج العمل بدور مهم يسجل لها فيه كعلامة وايقونة جمالية رغم كم الحزن الذي علا تقاطيعها وهي تطل علينا باتصالها الهاتفي مع زوجها .. وايضا هنا حسنا فعلت المخرجة بإسنادها هذا الدور المهم للفنانة سوسن شكري لما له من سيميائيات رومانسية هادئة وواضحة ولما له اي الدور من مساحة كبيرة في التشكل وصناعة المعنى لدى المتلقي من خلال اداء كبير متجدد فاجئني وفاجأ الجمهور رغم تقدم العمر والذي استطاعت فيه سوسن شكري ان تنافس وبقوة الممثلتين الاخريين من اخذها على عاتقها مسؤولية اعادة المتفرج لسني وجعه الاول من خلال تشكيلاتها الحركية التي نقرت على صندوق الذاكرة الجمعية ومنها غنائها الاغنية المحفورة في ذاكرتنا الحربية "واحنا مشينا للحرب" مع مسيرها العسكري الذي اوقعنا في حيرة كبيرة دعانا لدعك عيوننا للتأكد من ان الذي امامنا الممثلة سوسن شكري ام جندي عراقي متدرب عسكريا بشكل محترف وعلى يد امهر العرفاء .. اما الممثلة الثالثة الشابة شيماء جعفر والتي اعدها بحق مفاجأة العرض وسر نجاحه لما ابلته من بلاء حسن تمثل في بثها العديد من العلامات وهي تنزاح بدلالات ثقافية واجتماعية حاضرة في خبايا فعلنا الخيالي والمؤولة لدينا بمعاني شاهقة اججت فينا الرغبة بمشاركتها فعلها الجمالي على نفس الخشبة وهي تتحدث وتتحرك بانفعال مع السينوغرافيا بمختلف عناصرها برشاقة الطيور فعشقنا كل ما لامسته يداها من الهاتف الى الوسادة الى الضوء المتساقط فوق عينيها لتحثنا جماليات فعلها اللغوي والجسدي والنفسي الى تبنيات واقعية عند مثابات الحدث وهو يتمحور بين الشخصية وفضاء المسرح كالوجود الاخر الغير مرئي لخطيبها او الوجود الاخر لعامل البدالة حيث دفعت بنا لاحداث لغط في صالة المتفرجين كردود افعال على ما قدمته من اداء يستحق التصفيق لسنين حتى تأتي عواطفا اخرى لتصنع مجدا اسمه شيمياء جعفر. حقيقة واقعة لا غبار ولا لبس فيها ان الميزانسين الضابط لعناصر العرض بمختلف اشكالها ومهمامها اتى نتيجة حتمية للرسم الدقيق للمخرجة لما هو متوفر لديها من عناصر مسرحية بنسبة معينة وبنسبة مهمة لما عكسه ابداع الممثلات وهن يتنقلن بإداء انفجاري وانفعالي مكتنز مشفر وبرشاقة واضحة دليل لياقة بدنية لها قولها الفصل في نجاح اكثر الاعمال المسرحية فضلا عن اللياقة اللفظية الانتقالية بين حدث واخر..وتعضيدا لما قلنا نورد خطاب ستانسلافسكي (ينطلق خط الميزانسين من تحت قدمي الممثل) كتشكيل حركي متعارف على اعتبار انه أي الممثل مجمع الرؤى والافكار للمؤلف والمخرج وهو سيد العرض وصيرورته الحركية هي ما نعنيه بالتنظيم المعماري للمشهد او الميزانسين ونضيف نحن (ينطلق خط الميزانسين من تحت قدمي الممثل أي نعم ومن بين شفتيه ايضا ومن خلل احساسه نزولا عند كون الممثل كائنا فاعلا ومتفاعلا مع المحيط وهو المسؤول الاول والاخير عن خلق العلاقة التنظيمية بين عناصر العرض المسرحي ونخلص للقول ان الميزانسين حقيقة الممثل اولا واخيرا.
القراءة السادسة
بالتعريج على سينوغرافيا العرض لابد ان نشير الى حقيقة مهمة لازمت الادوات المسرحية للمخرجة بؤرتها حقيقة أخرى تشكلت اوتوماتيكيا بعرفانية الحلاجين بعبارة "اسقاط الاضافات من الكمال" فكان كل شيء على المسرح باطنا وظاهرا يتصف بالاناقة انطلاقا من الديكور الشحيح الذي لازمه الكمال بعراقية صادقة عكست البيئة المناسبة للحدث كما كانت المخرجة حاذقة في توظيف الاليات الدرامية الحديثة في تضمين رسائلها المشفرة كنوع الهاتف في التسلسل الزمني مثلا مع لُمعات نفسية ارتكزت في البساط الشعبي والوسائد الملغزة بإيجاء رمزي لطلب الراحة بعد زمن ارهق الارواح قبل الاجساد .. مرورا بالأزياء العادية الجميلة المسترسلة ببساطة ممتعة بتناسب واضح مع طبيعة وعمر الشخصية .. فضلا عن الموسيقى التي استوحيت بقصدية إغراقية من الموروث الشعبي العراقي الذي عَلَتْ فيه نغمات الوجع وهو فعل جمالي ودرامي درجت عليه المخرجة عواطف نعيم في جميع اعمالها لما له من تاثير فلسفي واضح في بلورة الحدث مع مزاج ذاتي انيق تميزت به روحها العراقية الاصيلة في التبنيات المحلية للموروثات الغنائية. اما الاضاءة التي كانت متوهجة يكاد ان يكون بدرجة فيضية مع كثافة لونية في اغلب اوقات العرض والتي دفعت بنا سيميائيا نحو اليقين بوضوح توجهات العرض بلا مواربة في اعلان الرفض التام لكل سلبيات هذا الوطن والرغبة الكبرى في جعله وطنا امنا يحتضن الجميع لا وطنا لفئة على حساب فئة اخرى كل ذلك باضطراد رياضي فيزيائي نفسي ايحائي كمية الضوء مدعاة للوضوح والقائدة لوضوح الهدف والغاية في اعلان الرفض لكل سلبيات الوطن المستحدثة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق