تصنيفات مسرحية

الثلاثاء، 31 ديسمبر 2019

صورة الإنسان المعاصر في مرآة الظلام في مسرحية "سكون" للمبدع التونسي نعمان حمدة تدخلنا إلى الأعماق المخبأة بالصمت

مجلة الفنون المسرحية

صورة الإنسان المعاصر في مرآة الظلام في  مسرحية "سكون" للمبدع التونسي نعمان حمدة تدخلنا إلى الأعماق المخبأة بالصمت


محمد ناصر المولهي - العرب

مع الأزمات التي يعيشها الإنسان المعاصر وخاصة منها النفسية والذاتية، تلك البسيطة التي لا يسمعها أحد في ظل ضجيج العالم المحتدم، صار لزاما على المسرح الغوص أكثر في أدق المشاهد والتفاصيل لتعرية ما يعانيه هذا الإنسان، لا لعلاجه بل لكشفه. وهذا ما حتم انتهاج وسائل فنية أكثر دقة وسلاسة.

قدمت أخيرا بقاعة الفن الرابع بتونس العاصمة مسرحية “سكون” من إنتاج مؤسسة المسرح الوطني، نص وإخراج المسرحي التونسي نعمان حمدة الذي تشارك التمثيل فيها مع الممثلة أميرة درويش.

والكثيرون يعرفون نعمان حمدة كممثل أكثر من عمله في الإخراج والكتابة رغم إخراجه لأعمال هامة مثل مسرحية “K.o”، لذا كانت “سكون” اكتشافا للممثل والمخرج حين يتحدان.

الدخول إلى الذات
“أتنفس بمشقة، أفرك عيني، أحدق عبر غشاوة من نعاس، على المخدة ثمة بقع داكنة أخمن من طريقة تنفسي أن مصدرها أنفي. شاربي الأيسر متيبس بأثر التخثر والدم لا يزال رطبا داخل التجاويف. أجفل متنبها، أرفع رأسي، وخلال برهة يعود نبضي إلى الهدوء. من موضع الشمس في شباك الغرفة أدرك أني تأخرت على كل حال”، هكذا يبدأ الكاتب السعودي عزيز محمد روايته “الحالة الحرجة للمدعو كـ”.

ونحن بصدد تناول مسرحية “سكون” لنعمان حمدة، يعاودني هذا المقطع من رواية عزيز محمد، فكلا البطلين؛ بطل عزيز محمد وبطل مسرحية نعمان حمدة، يستيقظ فجأة، مثل غريغور سامسا بطل كافكا المتحول، البطلان الجديدان يتشاركان في أن كليهما كان الدم في وجهيهما، لكن الفرق بينهما أن الأول سيقصد مكانا معلوما، وتقوده الشمس إلى الخارج، أما الثاني فتقوده الشمس إلى العتمة، وكأننا بصدد التعري أمام الضوء الذي يقتحم أعماقا سحيقة في الداخل الإنساني.

تبدأ المسرحية من مشهد تحكيه الشخصية، مشهد شاطئ وناس وأمواج وجو مضيء، لكن تنسحب على مراحل لتصل إلى وجه الرجل، وجهه بالدم، يحكي لنا أن هناك مسمارا مغروسا خلف جمجمته، شق رأسه وواصل الغوص في رأسه إلى أن بلغ لسانه، وهنا يتوقف العالم الخارجي، تتعطل اللغة التواصلية ويجد الرجل نفسه في مكان مظلم، وهو لا يدري كيف وصل إليه أو ما الذي جاء به إلى هنا.

إنها لعبة المكان، التي رسختها إضاءة هادئة لرواق في يمين الركح، رواق ليس موجودا بالنسبة إلى الشخصية، حيث لا تتجه إليه، بل هي محاصرة في اللامكان واللازمان، وتريد الخروج، لكن إلى أين؟ وكيف؟ هذا ما لم يتوضح، إلى أن خفتت رغبة الرجل في الخروج خاصة مع دخول امرأة لتشاركه اللعبة. ولتخرج العمل من منطقة المونودراما.

من العتمة إلى النور
من العتمة إلى النور
المرأة كان دورها محوريا، حيث كانت تعرف كل شيء عن الرجل تستنطقه وتغوص في أعماقه، حيث تختلط عوالم غريبة يحكيها لنا، لكنها تتهمه بقتل صديقه الجميل، الذي كان الجميع يحبّه، وهذا ما ينكره الرجل، لكنه لا ينكر فرحه بموته.

علاقة الرجل بالمرأة علاقة غريبة، لا هي جنسية ولا هي أمومة ولا هي علاقة جسد أو فكرة أو صراع، بل هي علاقة اتحاد، وكأن المرأة هي الرجل ذاته؛ عمقه المتجسد أمامه.

لا حكاية واحدة للعرض، ولا حكاية كرونولوجية ولا شخصيات واضحة ومحددة ولا خرافة، فقط وضعيات ومشاهد كلامية أشبه بفلاشات، في كل مشهد يرويه الرجل أو المرأة يمثل جزءا من هواجس نفسية، ومشاهد جسدتها المونولوجات والحوارات بشكل شعري.

الحركة رغم قلتها كانت هامة في الانتقال بنا من حكاية إلى أخرى، الرقص على الجدار أو باستعمال المصدح والميكروفون، أو بشبكة من الخيوط، كلها أضفت شيئا من كسر للرتابة التي قد يقحم فيها العرض جمهوره، حيث لا بهرج ديكور، اعتمدت السينوغرافيا على البساطة فقط، كل ما يهم هو الكلام، الكلام الذي كان أغلبه مسجلا، فيما اكتفى الممثلان بالأداء الحركي. في ترافق مع موسيقى حُلمية وكابوسية هادئة وصاخبة.

ملامسة العبث
المسرحية عبارة عن مونولوجات مكتوبة بعناية شعرية ودقة في التصوير حيث الكلام هو دفة العرض
المسرحية عبارة عن مونولوجات مكتوبة بعناية شعرية ودقة في التصوير حيث الكلام هو دفة العرض
تقترب مسرحية “سكون” من مسرح العبث في بعض ملامحه، مثل الغرفة المغلقة وعدم وجود أسماء أو ملامح محددة للشخصيات وسيطرة الظلمة والوحشة والقلق والخوف على الشخصيات وغياب الحكاية الخطيّة أو الجانب الوعظي والمعالجة المباشرة للقضايا.

وهذا النمط المسرحي الذي كان نتيجة لدمار الإنسان الأوروبي المادي والنفسي ما بعد الحرب العالمية الثانية، يستعاد اليوم بأشكال أخرى، لا تسعى إلى العبث في ذاته بل تستخدمه وسيلة كشف، فلا نرى مثلا في “سكون” تركيزا كليا على التكرار الذي يعتبر من أعمدة المسرح العبثي. كما أن دور المرأة ليس ثانويا، بل هو متواز مع دور الرجل.

تعبث مسرحية نعمان حمدة بالخطيّة الزمنية، تتجرأ على اقتحام أشد مناطق الإنسان وحشة وظلاما، الإنسان المعاصر الذي يعاني في المجتمعات الحديثة من التمييز والاستلاب والاحتقار وعدم الاهتمام به ذاتا تستحق الآخر، تمتد اليد إليه فلا تجد إلا التجاهل، لذا تمتلئ الذوات بالكراهية والحقد والألم والمعاناة والعنف والخوف والقلق وغيرها من المشاعر المتناقضة المدفونة كلها تحت غطاء الصمت الذي يكسره نعمان حمدة بداية من مشهد المرآة التي يرى فيها كل شيء ويكتشف انها غير موجودة ليتحول الظلام والجسد إلى المرآة.

وربما كان لأداء نعمان حمدة دور البطل في المسرحية وقيامه بالإخراج في ذات اللحظة أمرا بالغ الدقة، فإن أعطى للعمل زخما وطاقة جيدة، فإنه في أحيان كثيرة كان محل ضعف، حيث غيّب حضور المرأة، التي كان أداؤها وكأنه يلهث خلف أداء البطل رغم ما لها من مفاتيح في تحريك العرض كلما ركد في مونولوجات متتابعة وسكون، لكن أداءَ المرأة أداءٌ في جسد ذكوري متيبّس أضعف من زخم الحركة التي كانت مصطنعة.

لقد أقحم العرض جمهوره في حالة “سكون” لمتابعة تأملات وذكريات ومونولوجات الرجل، لكنه لم ينج من الرتابة التي يخلقها عادة جو المونولوج، ورغم جمالية النص العالية وشعريته العميقة إلا أنه لم يخلق إيقاعا متحركا يخرج بالمتفرج من مشهد إلى مشهد ومن حركة إلى حركة، ويخلق له نوعا من الحركة التي تكسر الرتابة. وتبقى محاولة الغوص في الأعماق أمرا بالغ الدقة نجح نعمان حمدة في تجسيده كممثل له تجربة وبصمة خاصة، ونجح فيه كمخرج تلاعب بالأداء والنص والضوء والحركة.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق