مجلة الفنون المسرحية
عرض جي بي أس GPS من الجـزائــر منحوتات صاخبـة وفرجة جمالية
بـقـلـم : عـبـاسيــة مـدونــي – الــمهرجانات العربية
في ظلّ فعاليات مهرجان المسرح العربي في دورته الثانية عشرة (12 ) بالأردن والمنظم من لدنّ الهيئة العربية للمسرح ، انفتح الجمهور على العرض المسرحي جي بي أس ( GPS) من المسرح الوطني الجـزائــري ، تصميم وإخراج " محمد شرشال" .
العرض المسرحي من أول مشاهده إلى آخرها جاء ذا زخم دلالي وسيميائي مكثّف بالعلامات والأيقونات التي تحمل المتلقي على التفكّر والتأمل ، وإعادة طرح الأسئلة ، وسط تقنيات اعتمدها المخرج تمزج ما بين السينما والمسرح ، بإيماءات وحركات وإيقاعات مدروسة بدقّة هدفها كان إيصال الأفكار وعديد الرسائل المشفّرة ، التي تجاوزت لغة الخطاب والحوار المكثّف المتداول ، فكان " البونتومايم" حاضرا مع دلالات الجسد والأصوات وإيقاعات الموسيقى .
جي بي أس صراع الأفكار ، صراع العلاقات ، صراع المبدئ وصراع الحريات ، صراع الزمن والوقت ، صراع المكان ، وصراع الغايات ، صراع الانتظار المضني دونما ملاحقة المحطة الأخيرة من عمر ضاع بين ، بين ، صراع .
شخوص تنتظر منذ ولادتها ورؤيتها النور الخلاص ، خلاص تجسّد في قطار يفوتهم ، ويفوتنا كمتلقين ونحن نترقب الآتي لنستقل محطّة الطرح الجرئ بلغة الجسد ولغة الإيقاع ولغة تكاثف وزخم الأيقونات بالعرض ، لنستقل محطة الشيخوخة تلكم المرحلة الفارقة بالعمر ، لنعيد ترتيب الأولويات .
وفي تصميم العرض ، نحى المخرج منحى المشاهد المنفصلة لضرورة إبداعية حملت المتلقي إلى عالم الفرجة والكوميديا الساخرة ، متّكئا على قدرات فريقه من الممثلين في الحركة ، والإيقاع وتمكّنهم من فيزياء الجسد وفضاء العرض .
الممثلون كانوا على شاكلة الدمى تارة ، وآليين تارة أخرى ، وفق التحولات التي اقتضاها مسار العرض في رؤيته الإخراجية وطرح الفكرة ، والأقنعة التي رافقت كل شخصية بدلالاتها ، فالعمل المسرحي عكس زخما من الحركات والأصوات ، والشفرات ذات العلامات التي تحملنا على التأويل والطرح والتساؤل ، بخاصة وأن المخرج اعتمد تجارب عالمية بدت واضحة من خلال مشاهد العرض واشتغاله وتركيزه على الممثل الذي بدوره حمل فلسفة وطرحا وجوديا بأسلوب إبداعي ومبتكر ، فكل شخوص العرض تخوض حربا طابعها التمرد ، والانسلاخ من سطوة نحّاتها فهي أيضا تبحث عن الخلاص لتغدو طبيعية وتمارس كل طقوس الوجود بخيره وشره ، فكل العوالم هشّة إلى أن تقرّر أن تولد من جديد وتكشف عوالم أخرى دفينة في النفس البشرية .
الفرجة الجمالية كانت حاضرة بعرض " جي بي أس" للمسرح الوطني الجزائري ، اتّسمت بالإبهار والدقة في الطرح ، والصور الحية ناحتا من خلالها المخرج الحركة على الركح ، ضابطا الإيقاع العام لدى الممثلين .
السينوغرافيا من الإضاءة ، الألوان ، الماكياج ، الأزياء والموسيقى كانت فسيفساء حيّة على الركح ، وكانت نوتة العرض التي يحتاجها أي متلقي للتناغم والانصهار ، مع الحفاظ أو بالأحرى ملامسة كل الوعي والإدراك لدى الممثلين ومدى حرصهم على التحكم بإيقاع العرض الذي جاء دليلا قاطعا على تمكّنهم وكمّ التدريبات التي تلقوها لإنجاز هذا العرض مع جمالية ونسق واعي ، إذ أن فيزياء الجسد في التشكيل الحركي كانت حاضرة بقوة لتشكيل صورة فكرية ووجودية ودلالية بإيماءات ورمزيات وظيفية .
فعرض " جيب ي أس" كان كتابة إخراجية من نوع آخر ، فقد أربكنا العرض واستفزّنا لنقف عند كل صورة مشهدية ونطرح الكثير من الأسئلة ، وذلكم هو المسرح الذي يتماشى والذائقة الجمالية والروحية والفكرية ، فالعرض لم يكن مجرّد عرض وإنما كان حياة أخرى عايشناها بكل تفاصيلها ، وحقائقها المغيّبة وجدلياتها .
وعليه ، فإن عرض جيب ي اس جاء عرضا ليحمل لنا أجوبة وجودية ما نزال نبحث عنها ، وملامسة الحقائق المرهونة بكثير من العلامات والدلالات والإيحاءات
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق