مجلة الفنون المسرحية
حب رايح جاي .. كوميديا عائلية تحلم بلم الشمل العربي..
ابراهيم الحسيني - مسرحنا
تجربة جديدة ومحاولة جادة في تقديمها للكوميديا من دون إسفاف أو إبتذال يقدمها العرض الكوميدي “حب رايح جاي” من إنتاج المسرح الكوميدي لمديره الفنان إيهاب فهمي ومن تأليف سامح عثمان وإخراج لياسر صادق،والذي يعرض يوميا علي المسرح العائم (فاطمة رشدي) فالعرض يعتمد علي حدوته بسيطه عن علاقة حب بين شاب وفتاة يريدان الزواج لكن جد الفتاة واسمه “صادق القول” يشترط علي الشاب المتقدم للزواج شرطا غريبا وهو أن يقوم هذا الشاب بدعوة كل أبناء هذا الجد، وعددهم 22 ولد، لكن الشاب يجد هذا العدد كبيرا جدا لذا يسأل الجد أن يخفضه له فهو لا يستطيع أن يقوم بدعوة كل هؤلاء والتأكيد علي حضورهم جميعا، يستجيب الجد ويخفض عدد المدعوين من أبنائه لثلاثة فقط.
نماذج تتخطي نفسها لدلالة عامة:
وهنا تبدأ الرحلة يصطحب الشاب فتاته ويبحث عن أول الثلاثة داخل المدن المصرية، ويجده بالفعل، لكنه لا يستطيع دعوته لأن هذا الإبن متورط في العديد من قضايا النصب والتربح من الجميع، أي أنه ووفق التعبير الشعبي “فهلوي” ينصب علي الجميع في محاولة إبتزاز نقودهم بأي شكل وبأي طريقه، وبالتالي لا تهمه دعوة الشاب ولا دعوة الجد، وهو ما يصيب الشاب المتقدم للزواج بالإحباط لكن هذا الأمر لا يثنيه عن مواصلة رحلته، لذا يذهب للجنوب باحثا عن الأخ الثاني أسمر اللون، جنوبي اللكنه، يرتدي ملابس لها خصوصية بيئة الجنوب بعكس نموذج الأخ الأول العصري في لهجته وملابسه وشكل معيشته، وهناك داخل مجتمع الأخ الثاني نتعرف علي مفردة أساسية مقابلة “ للفهلوة “ تتميز بها عائلة الأخ الثاني وهي مفردة “الكسل”، فهذا الأخ وعائلته يتميزون بالكسل الشديد جدا مما يضيع معه كل الفرص التي من شأنها مساعدتهم علي العيش أو التحسين من مستواهم، لذا نجد أن رفض هذا الأخ لحضور مراسم العرس بسبب كسله الواضح هو النتيجه التي يحصل عليها الشاب وخطيبته.
أما الأخ الثالث فهو كاذب، مدع، متلون، نجده يمارس الكذب ليل نهار في قناته الفضائية الخاصة، ودائم السباب في كل إخوته من حوله، لا يوجد له ضمير مهني أو إعلامي وهو ما يجعل الشاب وخطيبته هما من يرفضان حضوره لمراسم زواجهما خاصة بعدما يشترط عليهما أن يكون هو المدعو الوحيد من بين كل إخوته وسيتكلف بكل أعباء الزواج بسبب ذلك.
إلي هنا تنتهي فكرة لم الشمل، وبالرغم من هذا يوافق الجد علي إتمام الزواج بدون حضور أحد من أولاده، وهذه الفكرة بشكل عام بكل تداعياتها نستطيع أن نلمح بسهوله ما ترمي إليه بسهولة، فالجد يمكنك أن تعرف أن الجد العربي الأول، وعدد أولاده 22 ولد تعني عدد الدول العربية، واقتراح الجد بدعوة هؤلاء جميعا ولم شملهم هو إقتراح دائم علي الأقل لدي الكتاب والفنانين بالرغم من صعوبة تحقيقه علي مستوي الواقع السياسي الذي يفرق أكثر مما يجمع .
وبالرغم من بساطة الطرح الفني والفكري الذي يعتمد عليه عرض “حب رايح جاي” إلا أنه يثير العديد من القضايا الهامة، لعل أولها يخص هذا الطموح الطوباوي للم الشمل العربي وإعادة إحياء القومية العربية كحلم مفارق للزمن وهو الأمر الذي لم يعد يقدم الآن فنيا إلا علي استحياء، وثانيها يخص شكل تجسيد مصر في رجل وليس كأنثي كما درجت عليه العادة في الكثير من أعمالنا السابقة، سواء كانت فنية أو تشكيلية أو غنائية، وثالثها اعتماد العرض علي نص مغاير لطبيعة نصوص سامح عثمان، وفكرة المغايرة هنا ليست حكم قيمة بالرفض أو بالقبول، ولكنها مجرد توصيف لشكل كتابة النص المسرحي المعتمد علي بنية تقليدية لها بداية ووسط ونهاية، وخطوط صراع واضحة ومنطلقة للأمام، وهو ما يعني إعتماد نوع كتابي مختلف عن طبيعة نصوصه السابقة.
تكامل:
أما ما يخص فكرة التكامل العربي فهناك سعي دائم لدي الكثير من الكتاب والفنانين لتضمين تلك الفكرة لأعمالهم كحلم من أحلامهم وكرغبة لأن يقوم الفن بعمل وحدة ما فشلت فيها السياسة، لكن الثابت تاريخيا أن كل محاولات هذه الوحدة لا تنجح دائما لأسباب كثيرة ـ ليس مجالها هنا ـ ربما تنجح ـ بنسب صغيرة ـ علي المستوي التجاري، الإقتصادي، الفني، أو علي مستوي محبة الشعوب لبعضها، لكن تخفق في تحقيق أية نتائج علي المستوي السياسي .
والمتأمل للنماذج الثلاثة التي أوردهم العرض يستطيع بسهولة التعرف علي أن الأخ الأول يجسد مصر، وأن الأخ الثاني يمثل دولة أفريقية مجاورة، أن الأخ الثالث يمثل دولة عربية أسيوية تنتهج سياسات معادية للكثيرين في الفترة الأخيرة، وقد أوضح العرض جانبا من بوقها الإعلامي الضخم الذي يروج لأفكار معينة دون غيرها، واكتفاء العرض بهذه النماذج الثلاثة دال جدا وكاف للتعبير عن استحالة هذا التجمع، وبقاء حلم الوحدة معلقا كما هو حاله دائما ..
مصر كرجل :
دأبت أعمالنا الفنية منذ بدايات القرن العشرين علي تصوير وتجسيد مصر في الأعمال الفنية علي أنها سيدة، ومر شكل هذا التجسيد بمراحل متعددة بدأت بتجسيد مصر علي أنها سيدة فلاحه، كما يصورها بعض أفلام الابيض والإسود في بدايات السينما المصرية، وكما جسدها تمثال محمود مختار “نهضة مصر”، ثم تطور شكل هذا التجسيد لتصبح مصر إمرأة مثقفة ومتعلمة ومسئولة عن تربية جيل، وهي رمانة الميزان في محيطها، وبالتالي تغيرت الملابس والوظيفة بالنسبة لهذة المرأة المعبرة عن مصر، كما ظهر في العالم منذ عدة سنوات كتابا مهما لروث بارون عنوانه “ مصر كسيدة “ Egypt as a woman وهو موجود ومتاح علي الشبكة العنكبوتية ونجد الكتاب يعتمد نفس طريقة التفكير التي تصور مصر كسيدة، هذا في حين خالف العرض كل هذه التصورات المسبقة وقام بتصوير مصر كرجل، وأظهر هذا الرجل بمواصفات عصرية، وبصفات تناسب مجتمع اليوم تقوم علي منطق “التكسب بالمحايلة” وتعتمد شخصية “اللص خفيف الظل” الذي ينصب علي الجميع ويتكسب قوت يومه بأي طريقة كي يستطيع العيش، وهي للأسف نظرة لها ما يقابلها داخل الواقع بشكل أو بآخر.
اختلاف :
وهذا النص الكوميدي الذي إعتمد عليه العرض المسرحي للكاتب سامح عثمان يتجه صوب منطقة مختلفة في الكتابة المسرحية تعتمد في طرحها لأفكارها علي نص كوميدي له بنيه درامية تقليدية بالمخالفة لطبيعة نصوصه المسرحية السابقة والتي كانت تعتمد في بنيتها علي وحدة المشهد، وعلي فكرة تجاور المشاهد إلي بعضها لتقديم حالة مسرحية تختلط فيها الكثير من المناهج الكتابية الجديدة التي تستفيد من تيارات مسرح الصورة، مسرح ما بعد الحداثه، ونوعية هذه الكتابة تعتمد هي الأخري في متنها علي حدوته ونص حكائي لكنه يعتمد فكرة سرد هذه الحدوته من خلال التقديم، التأخير، وكذا تداخل الأزمنة، وبالتالي لا توجد بنيه دراميه حاكمة، وغالبا ما ينتهي النص المسرحي بانتهاء ما يشغل بال الكاتب من أفكار ومشاكل اجتماعية، وفي “ حب رايح جاي” لم يتخل عثمان عن أفكاره لكنه تخلي عن البنيه المشهدية التي كان يعتمدها قبلا، وبهذا يضيف طريقه أخري إلي أشكال كتابته تعتمد السهولة في طرح معانيها.
عناصر متجاورة ومتكاملة :
والعرض بشكل عام يقف في منطقه وسط ما بين إتجاهين، يتوسط تيار عروض الشباب التي تميل في البحث عن المتلقي النخبوي، ولا تنساق من الجهة الأخري وراء إسفاف القطاع الخاص المعتمد علي توليفة : الغناء، الرقص، الإستعراض، فبالرغم من وجود الثلاثة عناصر هنا إلا أن المخرج يا سر صادق وظفها بشكل جاد وبهارمونيه وبساطه شديدة، ورسم خطوط حركة تتناسب وكل شخصية حسب متطلبات دورها، أما الديكورات لمحمد هاشم فكانت من أهم العناصر التشكيلية داخل العرض، كانت مبهجة ومعبرة، تنتقل بك بسلاسه ما بين مشهد وآخر، فمنزل الجد، له شخصية عربية تميل في بعض موتيفاتها للتراث العربي وخاصة الإسلامي، وهذا بخلاف المقهي ومنزل الأخ الأول، وهكذا فالتنوع أثري الشكل ومنحنا جمالية خاصة، إضاءة الفرن حاولت هي الأخري مواكبة سرد الحدوته من دون اللجوء للتشكيلات والتكوينات التي رأيناها قبلا في عروض إبراهيم الفرن،الملابس هي الأخري لدينا الهواري كانت بألوانها وبمناسبتها للشخصية جيده ومتناسقه ولعل أكثر الشخصيات التي أزعجتني ملابسها هي شخصية الشاب المتقدم للزواج ـ ميدو عادل ـ فمثلا في المشهد الأول أفسدت ملابسه ( الحذاء الضخم ذو اللون البني ـ البنطلون الجينز والذي دخلت أطرافه للحذاء ـ الجاكت القماشي المفتوح والمدلي لأسفل أكثر مما يجب ..) كل ذلك لم يكن مناسبا لملابس الراقصين ولا لملابس خطيبته ـ دنيا عبد العزيز ـ والغريب في الأمر أن جميع الممثلين إلتزموا بتغيير ملابسهم لأكثر من مرة داخل العرض بينما هو ظل بهذه الملابس طوال العرض مع بعض التغييرات البسيطه وغير المعبرة .
بقية العناصر من إستعراضات لعلاء أبو ليلة والأغاني لدعاء عبد الوهاب، والألحان لوليد الشهاوي منحتنا قدرا يسيرا من البهجة، فالكلمات عادية ومعلقة علي الحدث الدرامي معظم الوقت ولم تضف له بالرغم من جماليات الموسيقي، والإستعراضات كانت عاديه ولم يكن بها شيئا متجاوزا للعادة أو مختلفا.
التمثيل:
تناغمت مجموعة من العناصر التمثيلية الجيدة لعل أهمها الفنان أحمد صيام بأدواره الثلاثة التي أداها لنماذج الأخوة الثلاثة، فقد وفق إلي حد كبير في ذلك الفصل بين الشخصيات ومنح كل واحدة من الثلاثة طعما خاصا ومميزا، فمن الكوميديا الصارخة ككلمة وكحركة وموقف في نموذج الأخ الأول والحركات الرشيقه إلي نموذج الكوميديا الهادئه والمعتمدة علي الكلمة فقط في نموذج الأخ الثاني إلي الجدية التامة في نموذج الأخ الثالث والتخلي عن الكوميديا، ميسرة هي الأخري تجاوبت كثيرا مع الحالة الكوميدية للعرض وأضافت لها كثيرا بتلقائيتها الشديدة، دنيا عبد العزيز كانت متمنكه من أداء تفاصيل دورها بما يتناسب ووضعيتها كخطيبه، مرحه، شقيه، قادرة علي الإمساك ببعض اللحظات الكوميدية، أما ميدو عادل فبالرغم من كونه ممثلا حقيقيا وقادرا علي إمتلاك كل ما تمليه عليه الشخصية الدرامية أيا كانت إلا أنه لم يكن مهيأ بالقدر الكافي للتمثيل الكوميدي خاصة كوميديا أحمد صيام، أما الثلاثي فاطمة عادل، محمد حسني، محمود فتحي فكانوا بمثابة روح العرض الكوميدية بخفة ظلهم الكبيرة وخلقهم لكل هذا المرح المصاحب لوجودهم علي خشبة المسرح.
وأخيرا فالعرض هو وجبة كوميدية حقيقية من دون تقديم أية تنازلات فنية من قبل مخرج يعرف ما يقدمه وكاتب لا يتخلي عن طموحه في كتابة أفكار كبيرة كـ “لم الشمل العربي، قيمة الحب في حياتنا” وما إلي ذلك، بالرغم من اعتماده علي متن حكائي سهل وبسيط ومفهوم لكل الناس.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق