قراءة في كتاب "المسرح والهوية : جمالية التعالي
والمحايثة " للدكتورة فوزية البيض
حسن يوسفي :
تعتبر الدكتورة فوزية البيض فاعلة ثقافية وجمعوية وسياسية وأكاديمية ، بصمت ، منذ أكثر من ربع قرن، على حضور فاعل وازن ومنتظم في المشهد الثقافي المغربي، عبر الواجهة الإعلامية تارة، وعبر الواجهة الأكاديمية تارة أخرى، لاسيما من خلال اهتمامها بالمسرح وعوالمه.
فعلاقتها
بأب الفنون راسخة وممتدة في الزمان، حيث ساهمت بالكتابة فيه وعنه من خلال مقالات
صحفية ، ودراسات متفرقة، لتتوج هذا المسار الحافل بكتابين هامين عن المسرح المغربي
بالفرنسية ، أحدهما عن الهوية في المسرح المغربي، والثاني عن المسرح الجامعي
بالمغرب.
الكتاب
الأول ، الذي هو محور حديثنا في هذه القراءة ، بعنوان " المسرح والهوية :
جمالية التعالي والمحايثة "، يندرج ضمن صيرورة البحث المسرحي الجامعي بالمغرب
، والذي انصب اهتمامه على المسرح المغربي
بالدرس والتحليل.
فبفضل
التحولات الإيجابية التي عرفتها الجامعة المغربية بانفتاحها على مجالات بحثية
متصلة بالفنون عموما، وبالمسرح على وجه الخصوص، وبفضل الدينامية التي عرفها البحث
المسرحي فيها، والذي جعل من المسرح المغربي بتاريخه وأعلامه وتجاربه وحساسياته
وتحولاته المتصلة بجوانب الكتابة والفرجة والنقد موضوعات للاشتغال الأكاديمي، برزت مجموعة من الإسهامات
العلمية الوازنة في هذا الباب لباحثين وباحثات تعد فوزية البيض واحدة منهن.
وهنا يجدر
بنا أن نسجل أهمية الحضور القوي للباحثات المغربيات في مجال البحث المسرحي
ومساهماتهن المثيرة للانتباه في محافل مختلفة من مهرجانات وندوات ولقاءات مسرحية،
بل إن منهن من توجت في مسابقات عربية حول البحث المسرحي على الصعيد العربي.وفوزية
لبيض تندرج ضمن هذه الكوكبة التي تؤشر على حضور المرأة في مجال البحث الأكاديمي
حول المسرح.
أما بخصوص
الكتاب ، فهو، مساهمة في كتابة تاريخ المسرح المغربي ، وقراءة لبعض تجاربه ، من
خلال اختيار متن مسرحي يتموقع في الفترة مابين 1990 و2002.وهو متن تم اختياره ، من
وجهة نظر الباحثة، باعتباره يمثل أطيافا
مسرحية ، أو بالأحرى اتجاهات واضحة المعالم والقسمات في المسرح المغربي ، وهي :
- المسرح التجريبي من خلال "بروميثيوس 91 أو بغداديات
" للمرحوم محمد الكغاط (1991).
- المسرح
الثالث من خلال " رجل إسمه الحلاج "للمسكيني الصغير(1996).
- المسرح
الاحتفالي من خلال "امرؤ القيس في باريس" لعبد الكريم برشيد (1997).
- المسرح
الشعبي من خلال " جحا وشجرة التفاح " للطيب لعلج (2001).
- المسرح
الشامل من خلال " أبوحيان التوحيدي " للطيب الصديقي (2002).
هذه النماذج
تم اختيارها من أجل الاشتغال عليها للأسباب التالية :
- تمثيليتها وتأثيرها في المشهد المسرحي المغربي.
- جمعها بين الأشكال المسرحية الأوروبية والتراث
العربي.
- تجسيدها لتيار أو مدرسة مسرحية مميزة.
وقد انصب
اهتمام الباحثة على محاورة هذا المتن المسرحي، قصد الإجابة على مجموعة من الأسئلة
المركبة والشائكة منها :
- ماهي العوامل المحفزة على العودة إلى الماضي في
الكتابة المسرحية المغربية؟
- هل تجسد "العودة إلى الأصول " بحثا عن
الأصالة، أم تعبيرا عن عجز للانخراط في ماهو كوني ؟
- هل يمكن اعتبارها
شكلا من أشكال النكوص، أو ردة فعل إزاء المثاقفة المسرحية ؟
- هل هي تعبير عن رهان ثقافي ، أو مسايرة لموضة ، أم
عدوى عاطفية في أوساط المثقفين ، أم جمالية فرضتها الصيرورة التاريخية؟
- لماذا اختار هؤلاء المسرحيون استلهام التراث
الثقافي المغربي العربي الإسلامي؟ هل لكونه نموذجا ،أم مجرد مرجع بسيط ،أم ملاذ
احتموا به ضد اختراق الآخر الغربي وسمو ثقافته ؟
للإجابة على
هذه التساؤلات في علاقتها بالمتن المسرحي المدروس،اختارت الباحثة فوزية البيض أربع
زوايا لمقاربتها ، يمكن تلخيصها في مايلي :
1- الزاوية
المعرفية :
هنا حاولت الباحثة أن تكون وفية للمنطلقات العلمية
للبحث الأكاديمي ، واختارت الجمع بين بعدين في المقاربة: أحدهما تاريخي محض يستعيد
منعطفات المسرح المغربي وصيرورته وسياقاته المختلفة ، والثاني أنثربولوجي تجسد في
القيام بتحليل النصوص المسرحية في علاقتها بالأصول التي تمتح منها متخيلها
وعوالمها.
2- الزاوية الذاتية الوجدانية :
هنا تبدو الباحثة متماهية مع موضوعها ومنخرطة فيه
وجدانيا بشكل عميق، لأنها – على الصعيد الذاتي – تعتبر البحث في المسرح المغربي
إعادة اكتشاف لذاتها ، وتعبيرا عن رغبة شخصية في سد ثغرة في البحث المسرحي المغربي
تتمثل في تقديم صورة ناصعة للآخر بلغته ( وهي هنا لغة موليير ) عن المسرح المغربي.
3- الزاوية النقدية السجالية :
نلاحظ بين ثنايا الكتاب بروز وجهة نظر الباحثة حول
بعض الظواهر والاختيارات الكبرى التي سار فيها مسرحنا المغربي،حيث تعبر عن موقفها
النقدي منها، و الذي يسير في اتجاه الخوض في بعض القضايا التي أثارت سجالا ساخنا
بين الفاعلين في المسرح بالمغرب . من ضمنها قضايا الموقف من التراث الفرجوي وطريقة
تعامل المسرحيين الهواة معه ، وارتمائهم –حسب الباحثة- في أحضان الآخر، ثم الموقف
مما سمته بالنزعة المثقفية أو الأدبية أو النخبوية للتجارب المسرحية الأولى في
المغرب، بسبب التعاطي المفرط مع الريبرتوار الغربي، مما سبب خلق هوة مع الجمهور
المسرحي المغربي.
في هذا
الإطار تتحدث فوزية البيض عما تسميه
الانطلاقة الخاطئة ، أو الولادة المجهضة في تاريخ المسرح المغربي ، بسبب
هذا النزوع التغريبي .
4- الزاوية الاستشرافية :
نلاحظ في هذا الجانب بروز القوة الاقتراحية للباحثة
بخصوص مسار المسرح المغربي، حيث تركز على ضرورة الاهتمام به أكثر مستقبلا ، لاسيما
من زاويتي التأريخ والتوثيق.
وعليه ، ولكل
ما ذكرناه هنا ، نعتبر أن كتاب "المسرح والهوية :جمالية التعالي
والمحايثة" لفوزية البيض إضافة نوعية
للبحث المسرحي حول التجارب المغربية ، حاولت صاحبته بلورة منظور خاص إزاء منعطفات
المسرح المغربي، ومساءلة بعض أبعاده الجمالية والأنثربولوجية بحس نقدي وسجالي، مما
أضفى على الكتاب دينامية خاصة تدفع قارئه إلى محاورة صاحبته في أفكارها
واستخلاصاتها ومقترحاتها. ونعتقد أن هذه خاصية إيجابية في الكتاب تضفي عليه نوعا
من الحيوية التي يحتاجها البحث المسرحي، حتى لا يبقى حياديا إزاء قضايا المسرح
المغربي.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق