مجلة الفنون المسرحية
خلخلة البياض وتعتيم في اللوحة الّتي ترسم
الانسان.
دراسة مونودراما الرسم بالعهر للمؤلف(عمار
نعمة جابر).
د. زينب لوت
توطئة:
يكتب المؤلف (عمار نعمة جابر) النص المونودرامي (الرسم
بالعهر) في أفق بياني تصاعدي يتسعُ للاحتواء الشعوري وفهم ذهنية المُتَّلقي في
توجيه الخطاب والتَّأثير في محيط التلقي، كما ينعكف التخاطب بين الأنا وذاتها
لتهشيم الحقائق وفتق مجالها وتفتيت ذلك الاحساس المخبوء المعدم، حيث يبحث الانسان
في الفن عن معالم مشتركة تكون مدفونه وفي حالة اندثار وتخفي للظهور إلى السطح لكن
يكون برزوها وجلاءها متصلاً بالعبقرية التي تجسد الخواء المجهول والفراغ الموحش
الأكثر ارتباطاً بالعالم المنعدم والموجود في نفس الوقت حيث تبلغ ذروة الجمالية في
إنتاج النص المونودراما عندما تلامس ما هو ملازم للخفاء أو ما يبحث بداخلنا عن فهم
دقيق وتصوير أدق خاضِع للمجاز البلاغي فيحتويه عالم المتَّخيل ويصُوغ بدائل الوجود بوجودية تتعلق بالعرض الانفعالي
الذي يحرك الذاكرة والفن في الأخير ليس هو ليس وليد لاوعي الكاتب بل هو استقراء
الفنان للاوعي المتلقي وتكوين نص يترجم هذا لاشعور ويستحضر دوافعه وصوره لذلك يكون
الارتباط في مونودرما ( الرسم بالعهر) صاخباً يحملُ نزيف إنسان رسمته اللوحة.
1- أنسنة اللوحة في
مونودراما (الرسم بالعهر)
استخدم الكاتب (عمار نعمة جابر) فكرة اللوحة كي يرسمُ
القوانين الاجتماعية ويُقيم البنيات المختلفة للتفكير السلبي المسيطر على الذهنيات
التي تسيطر على الأنظمة الفكرية والقيم فيرسم المحظورات والمحرمات و التصرفات
وقواعد الجماعة في تصنيف وتضيق وتشييد قوانينها وبواعثها وتسير مقاييسها حسب الرؤى
المحصورة والمتطرفة، والّتي وصفها بالزوايا الضيقة ، كما يضع الانحناءات وهو يتحدث
عن التكتلات اللونية والخطية فوق بياضها عبث يفوق قدرتها ويفتك مساحتها دون أن
يكون لها قرار الانفلات معادلة درامية بين النص وما وراء التقاطعات التي تضعها
الحركة في فضاء العرض تأويل مستمر يفيض بالمعاني حيث تكون اللوحة ضحية وفي نغس
الوقت تتحملُ ضحايا أفكار تحصرها الألوان والخطوط التي ترضى بوجودها داخل البياض "باتت القيم الفكرية للمصطلح الدرامي تضعنا أمام
انفتاح تأويلي لمحدودية الإشكالية اللغوية لذلك المصطلح ولأن المسرح بطبيعته
(إشكالي) لاشتغاله في قراءات لا حصر لها تنفتح على منافذ متعددة في ذهن المتلقي،
وهذا سر انسيابية المسرح وتجدده باعتباره مشروعاً متطوراً ومتغير الملامح"(محمود أبو عباس، المونودراما ، مسرحية الممثل الواحد، تجارب المونودراما في المشهد المسرحي العربي،
العبيكان الرياض، المملكة العربية السعودية ط/1، 2010، ص09) انتهاك اللوحة
هي انتهاك آخر للإنسان وانتفاء وجوده من خلال اختزال قيم حريته، واختلال الأشياء
من حوله حيث تتقاطع كيفيات الرؤية ولكنها تقعُ أسيرة ما ينجرف داخل الجماعة
الاجتماعية والجماعات الكونية المرتبطة في مسارات التقوقع الصلب أمام التغير.
2- مونودراما الرسم بالعهر:
تكريس الألفاظ الصادمة
للمتلقي تؤكد بعد الرؤية أو اختلاف المرئي بل يكون حالة استعداد للتصريح بوجود
اختلال ما في المصطلحات التي يكتنزها الانسان كما أنه تعمد الكاتب (عمار نعمة
جابر) زعزعة الصور العالقة والمتجذرة، وتحقيق بُعد تأملي أو تأمل للأبعاد في محور
أحادي، تُثير المونودراما فنياً بواقع الحركة التي يؤديها الجسد الواحد لتماثلات
متعددة ولمواقع مشتتة وحوار يتداخل ويتفاعل بدرجات متفاوتة بين الحزن والفرح
والأسى...، تصبح المشاعر قيمة تدريجية تتسرب فيها القيم الشعورية بالسخرية أو
الفكاهة أو الدرامية وأحيانا الحركية ما يعكس قدرة الموهبة التمثيلية ويحيل لعالم
الانسان بتناقضاته الظاهرة والباطنة والفن عامة يستتر خلف استبطان عميق للذات
ليصبح الظاهر الجمالي فوق الخشبة ويجعل المظاهر العامة أشكالاً ذات رموز تختلف عن
واقعها وتتشكل في الحوارات مع الأنا التي تعكس لوحة كثيفة الألوان لفنان يتحد
بعالمه "استطاع
الممثل تقليص المسافة ما بين انتقاله من شخصية إلى أخرى عبر الصوت والجسد"(سمير أغا حيدر، تنوع إداء الممثل في عروض المونودراما،
مسرحية بقعة زيت، أنموذجا، مجلة كلية التربية الأساسية، المجلد :24،العدد 200،
2018،ص.633) والذات في مجالها الذي
يختبر استعداداته في الاقناع والتوجيه او تحريك البؤر العالقة في ذهن
المتلقي(الجمهور) ومقاربة مسافة التواصل للخطاب الآني والفهم المحقق جمالياً وبصفة
تأثيرية لا تفسد أفق الانتظار، كما للكاتب (عمار نعمة جابر) تجربة خصبة في تدوير
النماذج بكثافة وبرمزية تقعُ في بلاغة العرض وتبليغ الخطابات بتنوعها وسلاستها.
3- خلخلة التعتيم وانزياح التفاصيل:
حين نحاول القبض على التفاصيل تبدوا اكثر زئبقية ومموهة،
حيث الجدل قائم في الحديث وفي أنصاف الحديث الذي يكون معلوما أو مستلزما عند
المتلقي"(لوحة بيضاء كبيرة في عمق المسرح، الرجل
يقف أمام اللوحة ويديه الى الخلف ، نحن نسمع حديثة فقط ، وظهره للجمهور طوال الوقت
، لا نعرف ملامحه مطلقا . تنتشر على جانبية طاولات عليها مجموعة من الفرش ،
والالوان ، وأدوات للرسم)" (مونودراما الرسم بالعهر)
تكتنف اللوحة الكبيرة منطقة تتشبع بواقع المؤلف (عمار نعمة) فتلامس
إنسانا يضيق عليه الكون ويعيد بناء قامات تتعالى من النماذج للأفكار الاجتماعية
وأشكال تصوير سُلطوية الحريات التي شبهها بالظلال والانحناءات الخاضعة لمواقف
الانسان وهي تعتيم هذه الحرية لتصبح اللوحة مثقلة بهذا العبء دون أن تكون لها قدرة
القرار بل تكمن في قدرة التّحمل فينقلُ أحساسها:" مرير أن يمارس على اللوحة المسكينة ،
أشكال السلطة ، وهي لازالت عاجزة عن القبول ، أو الرفض ، فسلطة هذا الظل تحيل
اللوحة الى ظل آخر جديد ، شبح يشبه الظل الأول . ببغاء يردد نفس الكلمات ، نفس
الألوان ، نفس الانحناءات . في النتيجة ، ستصبح نسخة من هذا اللون الرمادي ، من
هذا الشكل المتسلط ، تكرر ذات القصيدة التي القاها هذا الداكن"(مونودراما الرسم بالعهر) تتأزم اللوحات المكتنزة في مخيال الكاتب (عمار
نعمة جابر) لدرجة التضخم والتدافع الكبير لمآسي الانسان مع وجوده وتحس أنها حالة
تمزيق لشرنقة لا تزالُ تكبرُ معنا بمفهوم المؤلف وهو ما يشيره في المونودراما
متعالية الأصوات المتعددة الأدوار في ذات واحدة تجرِفُ مأساة الكائن حيث لا يكون
إنسانا بل هو اللوحة ذاتها في قوله: "حيث يحدد للوحة ما يجب أن تكون ، طوال سنين عمرها .
ما يجب أن تفعل ، وما لا يجب أن تفعل . ما يجب أن تلبس ، وما لا يجب أن تلبس . ما
يجب أن تأكل ، وما لا يجب أن تأكل . تحدد شكل التصرفات ، والمحظورات ، والمحرمات ،
والقواعد ، والأنظمة ، والجماعات ، و ، و" (مونودراما
الرسم بالعهر) تتسم المونودراما بإشكالية كبيرة تتخذ من عوالم البؤس
الثقافي مسافة تنظير للخطاب هو الحاجة السيكولوجية لإدماج الذات للقيود السلوكية
والعادات القاصرة والقارة كما يكشف مشهد
الأم المستضعفة " على اللوحة ترسم
الأمكنة بدون اختيارها ، فتتشابك التفاصيل بلا اختيار منها ، وتحدد فيها زوايا
العتمة ، ومناطق الضوء ، ومساقط الحياة ( يتحرك الى طاولة أخرى ، يلتقط فرشاة رسم
صغيرة ، يرسم شبح لعباءة امرأة ، بخطوط ضعيفة ) كل ما قد يكون في اللوحة من مواضع
الضعف ، وغلبة العاطفة ، ورهافة الحس . عادة ما تكون سببه عباءة سوداء بحجم الأم .
عالم مستضعف ، وسط السلطات المتقاطعة في اللوحة" (مونودراما الرسم بالعهر) الأمومة
تشخيص من عالم المرأة وحدود مواقعها، تتعدد الثنائيات في مونودراما (الرسم بالعهر)
بين الحصر والانفتاح، والموجب الذي ينمو في كنف السالب ويرتفع إيقاع اللغة لتمزيق
الكنه المستتر خلف المجهول من عبارة ( العهر) فهل هو العهر القصدي في محيلة
المتلقي؟ وما
مقصديته؟ وبذلك ندرك خلال عرض فكري كشف عهر يتصل بالسلوك الذي ينمو في وسط غير
سليم لكنه يؤثر سلبا في كل موازين الحياة، ومن ذلك تنتمي الايحاءات الخارجية الى العناصر المماثلة لها في الفكر لفتح
مجال تكوينيا في تجذيف الحقيقة التي تعبثُ داخل رؤيا العالم.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق