مجلة الفنون المسرحية
عرض مسرحي لرواية "مصيدة الفئران" لآغاثا كريستي |
المسرح في الرواية وتضخيم السرد المشهدي
عواد علي - العرب
البنية الدرامية في النص الروائي تفعيل لحضور الشخصيات والأصوات ومحاولة لإقصاء السارد عن سيرورة الحدث
تتداخل الأجناس الأدبية بشكل جلي بين الرواية والمسرح، باعتبارهما جنسين أدبيين لم يكفا منذ نشأتهما المبكرة عن مدّ جسور التقاطع والتلاقح بينهما، فقد أمدّت الرواية المسرح بعناصر سردية تتصدر مَشاهده، كما اخترق المسرح الرواية بعناصر درامية تكسر رتابته، ومع ذلك لم يدمّر أحدهما خصوصية الآخر، أو يلغي استقلاليته الإبداعية وتميّزه النوعي.
يلجأ بعض الروائيين، في سياق تداخل الأجناس الأدبية، إلى تقنية العرض الدرامي في سرد أحداث رواياته، من خلال استعمال الحوار وجزئيات الحركة، فينجم عنه تضخّم نصي يبرز تلك الأحداث في لحظات وقوعها المحددة، الكثيفة، المشحونة، ويعطي القارئ إحساسا بالمشاركة الحادة فيه، وكأنه فعل مسرحي تتحاور فيه الشخصيات وهي تتحرك، وتمشي، وتفكر، وتندهش، وتتأمل.
وتُعرف هذه التقنية بـ”المشهد”، وتشكّل محاولة لإقصاء السارد عن سيرورة الحدث، أو تحييده وتهميشه، أو إخفائه وراء الشخصيات لتبدو “وكأنها تعبّر بتلقائية عن نفسها على مسرح الأحداث تماما مثل المسرحية”، كما يقول بيرسي لبوك، وتهدف إلى تعطيل زمن السرد أو توقيفه مدة بحسب تودوروف. ومن النادر جدا أن نجد عملا روائيا حديثا لا يستخدم فيه الروائي هذه التقنية.
"سميرة وحمدي".. نص حداثي لتوفيق الحكيم عمره جاوز النصف قرن |
ويعتقد بعض النقاد أن للمشاهد الدرامية دورا حاسما في تطوّر الأحداث، وفي الكشف عن الطبائع النفسية والاجتماعية للشخصيات، ولذلك تعوّل عليها الروايات كثيرا، وتستخدمها بوفرة لبثّ الحركة والتلقائية في السرد، وكذلك لتقوية أثر الواقع فيه.
وقد قام أحد النقاد العرب بإحصاء المشاهد في بعض روايات نجيب محفوظ، مثل “القاهرة الجديدة”، فوجد فيها 33 مشهدا حواريا متنوعا (حوارات أفقية ورأسية وواصفة وحوارات داخلية)، كما بلغت المشاهد الحوارية في الثلاثية مئة وأربعة وثمانين مشهدا حواريا متنوعا.
مؤنس الرزاز منح في روايته "جمعة القفاري: يوميات نكرة" السرد المشهدي حيزا كبيرا من مساحة الخطاب الروائي
لكن بعض الروائيين أفرط في تضخيم هذه التقنية، ضمن محاولات التجريب الروائي، أو تفعيلا لخاصية حضور الشخصيات والأصوات في النص، إلى درجة ابتلاعه كله، أو تحويله إلى جنس هجين، أو عمل درامي، أطلق عليه توفيق الحكيم مصطلح الـ”مسرواية”، ومثّل له بعمله “بنك القلق”، وكأنه أخذ بنصيحة هنري جيمس للروائيين “مسرحوا.. مسرحوا..”، بمعنى اكتبوا مشاهد، لأنه، حسب رأي جيمس لا يمكن تصوّر رواية تقتصر على السرد البانورامي، في حين أننا نستطيع أن ندع مجالا للشخصيات كي تروي نفسها بنفسها، استثمارا للأصول الأرسطية المؤسّسة للدراما من أجل فهم العنصر الدرامي في الرواية.
مثال على ذلك، إلى جانب نص الحكيم، “قبعتان ورأس واحد” لمؤنس الرزاز، و”أنت طالع” لمحمود جمال الحديني، و”لقاء مع ملك الموت” ليوسف جاد الحق، و”صندوق زجاجي” لكريم الهزاع، و”العصفورية” لغازي القصيبي، و”كل من عليها خان” للسيد حافظ، و”ركبان الموت” للكاتب الكويتي عادل الرشيدي، و”الكومبارس” لناصر عراق. لكني سأكتفي في الأسطر الآتية بالوقوف على نموذجين فقط للروائي الأردني مؤنس الرزاز.
مؤنس الرزاز
منح مؤنس الرزاز في روايته “جمعة القفاري: يوميات نكرة” السرد المشهدي حيزا كبيرا من مساحة الخطاب الروائي، فليس ثمة مشهد واحد يخلو من هذه التقنية، بل إن بعض المشاهد برمتها عبارة عن سرد مشهدي طويل نسبيا، ويمكن النظر إليها بوصفها نصوصا مسرحية قصيرة من ذوات الفصل الواحد، لكونها تتّسم بكل مواصفات الخطاب المسرحي، كشكل الكتابة، والاسترسال في الحوار، والعلامات المسرحية (وصف الحركة التي تبدر عن الشخصيات، وإيماءاتها، وحالاتها النفسية)، وتوافر الحبكة، والأزمات، والذروة، وغير ذلك.
كما في المقطع الذي يجري في غرفة بأحد الفنادق بين بطل الرواية وعروسه ليلة الدخلة، وهو جزء من مشهد يغطّي أربع صفحات في الرواية، وكذلك المشهد الذي يحمل عنوان “جمعة يشم الهواء” الذي يحتل ثماني صفحات.
ووسّع الرزاز في روايته “قبعتان ورأس واحد” في السرد المشهدي ليطال جسد النص كاملا، باستثناء الاستهلال. وقد أثارت أيام نشرها إشكالية التجنيس مرة أخرى، فعدّها الرزّاز نفسه رواية، وقرأها بعض النقاد بوصفها “مسرواية”، في حين نعتها نقاد آخرون بأنها “مسرحية ذهنية”!
أما الناقد يوسف جاد الحق فقد عدّها، في المقدّمة التي كتبها لها، بأنها ليست جنسا روائيا خالصا تنطبق عليه مواصفات النص الروائي، حسب التعريف التقني المحدّد والمتعارف عليه لهذا الجنس من الأدب، ذلك أن الحوار المكثّف والمباشر بين الشخصيتين المحوريتين في النص هو الغالب على الحيّز الأعظم من صفحاته، بحيث يكاد الحوار يطغى على السرد الذي هو، في العادة، العنصر الأكثر حضورا في الرواية.
تدور أحداث النص في بناية قديمة تقطنها جماعة من السكان المستائين من واقعها ومن تصرفات المسؤول عنها، إلّا أن اثنين من السكان (الأعور والأصلع) اللذين يقطنان في طابق واحد منذ عشر سنين، تخطر في بالهما فكرة تصفية ذلك المسؤول، بحجة أن البناية ليس فيها ملجأ يقي سكانها من القذائف في حال نشوب حرب، وكذلك لأنه، أي المسؤول، بخيل لا يدير التدفئة المركزية إلّا ساعة واحدة في اليوم، ويرسل شخيرا مزعجا في الليل يسلب النوم من أعين الأطفال والعجائز، وينتهك العدالة الاجتماعية.
يتّفق هذان الشخصان على قتله، ويتعاهدان على أن يكونا حزبا واحدا، وإعدام كل من ينحاز إليه من الجيران وجبة إثر وجبة. وما إن ينفّذا اتفاقهما حتى يسيطرا على البناية ويدعوان سكانها إلى الاجتماع في شقة المغدور ليتعارفوا ويحتفلوا، لكن سرعان ما ينشب الخلاف بينهما، ويحاول كل منهما القضاء على الآخر، الأعور بالمسدس والثاني بقنبلة يدوية، ليفرض سيطرته المطلقة التي تحقّق له الامتيازات وصناعة القرار.
ومع تطوّر الحدث الدرامي يتبادل الأعور والأصلع دوري القوة والضعف، ويكشفان عن هويتهما الطبقية: الأعور يمثل الطبقة الفقيرة المعدمة القادمة من القاع، والأصلع يمثل الطبقة الأرستقراطية المترفة، وبين هذا وذاك تمثل سمراء، إحدى القاطنات في البناية، دور الأغلبية الصامتة على قاعدة “معهم معهم عليهم عليهم”.
أحد النقاد قام بإحصاء المشاهد في بعض روايات نجيب محفوظ، مثل "القاهرة الجديدة"، فوجد فيها 33 مشهدا حواريا متنوعا
لكنها تخرج عن صمتها بعد أن يطفح الكيل، وتصرخ غاضبة مشمئزة ممّا يجري، ومن دور الإعلام الغربي، الذي جاء ليصوّرهما، في قلب الحقائق، وتسخير ما يحدث لصنع مادة إعلامية تشد المشاهد الغربي على حساب تشويه الإسلام ووصمه بالإرهاب، ويظهر سكان البناية مستضعفين مغلوبين على أمرهم لا حيلة لهم، لأن قوة السلاح أقوى من الكلمة، وإن حاولوا في بعض اللحظات أن يرفعوا رؤوسهم ليقولوا “لا”.
مشاهد حوارية
تتوزّع تلك الأحداث على أربعة مشاهد حوارية واستهلال يجمع بين الوصف والحوار، ويمزج بين عدة أصوات تمثل سكان البناية، وهي تروي، بأسلوب ساخر، الورطة التي وقع فيها الأصلع والأعور وندمهما لأنهما كانا يجهلان بعضهما.
فالأول لم يكن يعرف أن الأعور لا يرى الحياة إلّا من زاوية واحدة، وبلون واحد لأنه لا يملك سوى عين واحدة، والثاني لم يفكّر حين تواطأ مع الأصلع في أنه لا يعرف الدهشة، لأن الإنسان العادي يقف شعر رأسه حين تدهمه الدهشة، أما الأصلع فمحروم من نقمة الدهشة المفضية إلى الفلسفة!
ورغم غرابة المحمول الدلالي لهذا الاستهلال، فإنه يكاد يشكّل خلاصة مكثّفة لما سيحدث في النص، ويصادر حق القارئ في اكتشاف مجرياته واستنطاقه.
مثل الاستهلال يشكّل عنوان النص؛ “قبعتان ورأس واحد”، عتبة سيميائية تختزل أطروحته ومرماه، فهي توحي بمدلول قصدي مفاده استحالة الجمع بين اتجاهين متنافرين، أو طبقتين مختلفتين على رؤية واحدة، أو موقف موحد.
وهذا ما نتج عن اتفاق شخصيتي الأعور والأصلع، فكلاهما أراد أن يستحوذ على الرأس، الذي هو علامة رمزية تشير إلى السلطة، يقول الأعور في المشهد الثالث (ص 100) “انقلبت الأمور الآن إلى صالحي. معك حق. المسؤولية في بلاد ما قبل الرأسمالية والتاريخ والعمارات القديمة التي لم تقم على أسس عصرية أميركية.. رأس لا يحتمل قبعتين. أنت الضحية الآن”.
الإسقاط السياسي
"رائحة حرب" مستلهمة من رواية للفلسطيني أكرم مسلّم |
إن الإسقاط السياسي على الواقع العربي واضح على شخصيات النص وفعله الدرامي، ويعكس إحباط مؤنس الرزاز ويأسه وسخريته المريرة من القوى السياسية اليسارية واليمينية في العالم العربي (يختزله هنا في البناية وسكانها) التي تسيطر على كراسي الحكم عبر الانقلابات والعنف الدموي والثورات المزيّفة، ولا تخجل من الحديث عن الديمقراطية رغم أنها ذات نزوع استبدادي.
وتعميقا لهذه السخرية يتمثّل في صياغة الفعل الدرامي للنص وحواراته نهج الواقعية السحرية بغرائبيتها، وبعض السمات العامة التي قام عليها مسرح اللامعقول، ومن أهمها قلة عدد شخصيات المسرحية التي غالبا ما تدور أحداثها في مكان ضيق أو محدود جدا، فها هنا تدور في شقة القتيل مسؤول البناية، ودور المرأة الذي يكون دائما أقل أهمية من دور الرجل (سمراء تبدو كالدمية في يد الأصلع الذي يأمرها دائما بخدمته، وكذلك زوجته التي يطردها خارج الشقة بعد سيطرته على البناية).
والشخصيات، كذلك، تكون مجازية مستعارة أكثر منها كائنات حية، ويتحوّل أغلبها إلى رموز يشار إليها بالصفات (هنا الأعور والأصلع)، فضلا عن السخرية والتهكّم، والميل إلى العزلة واللايقين والنزوع الفردي.
وأخيرا التجانس الذي يبدو أمرا ظاهريا فقط بين البشر، أمّا في العمق، فإن ثمة شرخا كبيرا يفصل بين كل واحد منهم.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق