مجلة الفنون المسرحية
دينامية المسرح في ظل الجائحة… فعل استمرار وليس انحسار
*نور الدين الخديري
في قولة الشاعر المسرحي الإنكليزي وليم شكسبير، دعوة صريحة إلى اعتبار الحياة مسرحا كبيرا، فيه يمثل الناس رجالا ونساء أدوارا متعددة، ورغم أن الحياة نفسها ليست هي المسرح منقولا إلينا عبر أيقونة الجسد، وعبر كل المكملات الفنية والجمالية، التي ينطبع بها فن المسرح في بعده المعاصر، إلا أن مؤثر الواقع في الحياة له بأسه المباشر، أو اللامباشر على الفكر والفن ومنه المسرح، فلا يمكن القول إن هذا الأخير يشتغل أو يحيا بمعزل عن شروط قيامه الوجدانية والاجتماعية والفكرية، الراشحة بقيم الديمقراطية، التي تجسر له سبل الانطلاق إلى الآفاق التي تحقق له الفاعلية والاستمرارية والخلود.
ففي صلة المسرح بالواقع يمكننا استحضار الراهن الوبائي الكوني، الذي يعيشه العالم منذ مارس/آذار الماضي، وما أعقبه من هزات زعزعت كل الأصعدة، خاصة الصعيدين الاقتصادي والاجتماعي، هذه الهزات التي كشفت العديد من الاختلالات والأعطاب التي تعرفها البنى الاقتصادية والاجتماعية والسياسية للمجتمعات المتضررة من الوباء التاجي كوفيد 19، ولأن هذا الواقع الذي تفشى سريعا في أوصال المجتمعات وأودى بحياة عدد كبير من المواطنين، كان لا بد له من إسعافات طبية أولا، وتدابير وترتيبات احترازية واستباقية ثانيا، تستدعي استنفار كافة الطاقات والقوى الحية في هذه المجتمعات لدرء تفشي العدوى بين الناس، وفي هذه المعركة تجند الأطباء في الصفوف الأولى، غير آبهين بمخاطر الوباء، أو أنهم بوعي كبير منهم عملوا على تحديه والنضال في مواجهته، والحد من انتشاره، كما أن باقي الجبهات الأخرى كانت مسنودة لطاقات وكفاءات أخرى، لا تقل أهمية، كل من موقعه، كالتعليم، والأمن، والسلطات المحلية، والفكر والثقافة والفن، وقوى المجتمعات المدنية، دونما نسيان الأحزاب والقوى السياسية، التي رغم تعارض أيديولوجياتها، إلا أنها توحدت ضد العدو البيولوجي الواحد.
لكن هذه العلاقة غير المتكافئة أو غير المتجانسة بين المسرح كفن، والحجر كتدبير صحي احترازي، جعلتنا نرى الحياة منكفئة على ذاتها، حياة تفتقد إلى حيويتها المعهودة، وشيء طبيعي أن تتبدى بهذا المنظور الاستثنائي الذي تعطلت معه الحركة في مختلف المناحي، ولأن الإنسان هو الفاعل والمحرك لدورة هذه الحياة، فهو يعيش في أسوأ حالاته هو الآخر في ظل الحجر، الذي شرع في مصادرة حريته ليس في القول، ولكن في الحركة والتفاعل الحي، وفي التجمعات البشرية، التي تضفي على هذه الحركة بعدها الاجتماعي العام، ولعلنا في هذا نمثل بالمسرح، الذي أصبح في ظل الحجر فعلا معطلا، أو أنه مسرح مع وقف التنفيذ، أو لنقل إنه مسرح تحايل على زمن الحجر، وأبدع زمنه الخاص في زمن استثنائي خاص.
في هذا الزمن الموبوء، انفلت المسرح عبر المواقع الاجتماعية المتعددة، وانسلخ من انكفائيته إلى الظهور الافتراضي، فكان يعيش حياته بتمظهرات أخرى تكفيه حاجته، وتعلن عن اختراقه الواقعي لزمن الحجر، بما أن التواصل اليوم أضحى تواصلا عن بعد، ليس لأن المسرح مجبول على هذا البعد، ولكن لأنه يعيش زمنا طارئا، فهو يتكيف وفق الزمن الذي ينتمي إليه، فكان المسرح عبر هذه الوسائط، وكانت اللقاءات الافتراضية تناقش القضايا المسرحية الحارقة، وأضحى التواصل يستحضر البعد الحضاري للفعل المسرحي، كما أصبح المسرحيون يتأملون من داخل بيوتهم راهن الفن المسرحي من المحيط إلى الخليج، ويستقرئون أوضاعه وأحواله، رغم ضيق الحجر، ورغم موانع التجمعات، بل ربما كان تأملهم في شؤونه وقضاياه طيلة زمن الحجر دفعا قويا لتطويره وتخصيب عوالمه، لأن العبرة تكون أحيانا في المابعد، وليس دائما في الماقبل، لذلك تكون الخواتيم هي المنتهى، الذي يضحك فيه المسرح ومعه المسرحيون عامة، كما يعبر عن ذلك المثل الفرنسي.
إن المسرح كفعل إنساني خالد، لا يمكن أن يصمت، أو ينحسر مهما كانت الظروف والطوارئ، ومهما تقلبت عوادي الزمن، لأنه ببساطة فعل محاكاة غريزي في الإنسان، كما ألمح إلى ذلك أرسطو، يسعى من خلاله إلى التعبير عن حاجاته النفسية والاجتماعية والعقدية التي تمكنه من فعل الوجود.
فبإطلالة على التاريخ البشري الطويل، نجد الإنسان قد شهد فيه عدة أوبئة، وعايش عددا لا يستهان به من الحروب والثورات والقلاقل، والهزات الكبرى، لكنه تغلب عليها بفعل العقل أولا، وبفعل التعايش الإيجابي مع هذه المتغيرات ثانيا، ولأننا نؤمن جميعا بفعالية العقل البشري، فإننا لا نختلف في ما يفرزه هذا العقل من خلق إبداعي وفني وفكري وثقافي، به يستطيع صد هذه الأوبئة، وهذه الحروب والتصدعات، وبذلك يعتبر الفن المسرحي أحد أهم هذه الإفرازات العقلية، التي تقدم رؤيتها للعالم، من خلال ما يجري في الواقع من متغيرات، وتحولات، وطوارئ مختلفة ومتعددة. ولأن الفعل المسرحي ظاهرة بشرية تتبدى في مختلف البلدان والمجتمعات، وتعيشها وتحياها الشعوب الحضارية، فإن هذه الظاهرة الفنية العريقة، لا يمكن أن تصبح نسيا منسيا تحت وطأة الحجر الطارئ، أو الوباء العارض، لأن الأبقى للظاهرة وليس للعارض، ولأن الغلبة للقاعدة وليس للاستثناء، فالزمن المسرحي يستطيع بفعل تاريخيته المتجذرة، وبحكم خلفيته الفكرية، أن يخترق كل طارئ وعارض، كما يستطيع أن يتكيف مع مختلف المحيطات والبيئات، مادام فنا وإبداعا عقليا، يحاكي الواقع وينتقده، ويحاول التأثير في حاضره، واستشراف مستقبله.
ولأن المسرح بهذه الخصوصيات، وبغيرها التي ينماز بها عن غيره من الفنون، فهو قادر على الخلق والإبداع، ما دام يرتكز على الفكر البشري، الذي يسعفه التخييل على اقتراف عوالم جديدة، وصناعة أحياز وأفضية أخرى تنزاح عن الواقع، الذي قد يكون موبوءا إما حقيقة أو مجازا، يقول عبد الكريم برشيد في»الرحلة البرشيدية»: «إسمعوا رحلتنا اليوم يا رفاقي هي رحلة افتراضية، وسفرنا هو سفر افتراضي، والمدينة التي أدعوكم إليها هي مدينتنا الممكنة، وهي مدينة افتراضية، وكل ما فيها افتراضي أيضا.. وهي موجودة بقوة الخيال وبفعل السحر الحلال.. وأقول لنفسي إنني أهرب مني إليّ، وأبحث عن مدينة بحجم مسرح، وأبحث عن مسرح بحجم مدينة، وأبحث عن مدينة بحجم الدنيا».
لذلك لا خوف على المسرح من الحجر، إنه زمن عابر، لا يقاس عليه، والمسرح فن خالد، يظل قاعدة لا يمكن تجاوزها، أو القفز على رصيدها التاريخي الحافل بالمنجزات الفكرية التي أنجبتها العبقرية الإنسانية، خاصة في العصور التي شهدت معالم الحضارة في أبهى صورها، بدءا من المجتمع الإغريقي القديم إلى عصر النهضة، إلى الامتداد. ماذا لو لم يكن المسرح؟ هل كان بالإمكان أن نوثق لهذا الزمن الوبائي الطارئ، لكي تطلع عليه الأجيال القادمة؟ هل كان بالإمكان أن يكون التاريخ وحده كفيلا بلملمة وقائع الوباء ومخلفاته وانعكاساته المختلفة على بني البشر؟ وكيف ستتم محاكاة هذا الواقع فنيا عن طريق المسرح؟ لا شك في أن الحياة ستفتقد صورتها الفنية التي تعكس حركيتها، وتعكس بعدها الآخر الذي يزكي امتدادها واستمرارها، فبالفن نرى الحياة مختلفة، ونراها أجمل، ونحلم بكونها هي تلك المعبر عنها بواسطة الفن، وليست هذه التي نحياها في الواقع المعيش، خاصة إذا ما افتقدنا فيها الأشياء التي نحب، أو التي نسعى إلى تحقيقها، ولذلك نفتش عنها في العروض المسرحية التي تطفئ فينا هذا الغبن الذي نستشعره، وبالتالي يجعلنا هذا الفن المسرحي نقبل على الحياة ونرتضيها بحلوها ومرها، لأننا نكون في حضرة المسرح الذي يجذبنا إليه في شبه إدمان.
لقد عمل المسرح على التوثيق للوباء، كان ذلك منذ فجر التاريخ البشري، في القرون الأولى قبل الميلاد في بلاد الإغريق، حين أطل علينا الشاعر المسرحي الغنائي العملاق سوفوكليس بمسرحيته الأسطورية «أوديب ملكا»، التي ضمنها حادث الطاعون، الذي حل بمدينة ثيبة، التي وجد فيها الملك أوديب نفسه حاكما عليها، بعد وفاة الملك «لايوس» وبعدما قتل أوديب الحيوان الوحشي «أبو الهول»، فقد تمت مكافأة أوديب بحكمه لمدينة ثيبة، ما جعله يتزوج من «جوكاستا» التي لم يكن يعلم أنها أمه، كما أنها لم تكن تدرك أنه ابنها. هذا الوباء الذي كان بإيعاز من الآلهة التي لعنت فعل الزواج، ما أسفر عن اكتشاف البطل أوديب لحقيقة زواجه من أمه، وإنجابه منها، فكان القصاص تراجيديا بفقء أوديب لعينيه ونفيه لنفسه خارج البلاد، بينما انتحرت أمه واضعة حدا لحياتها.
فوباء كوفيد19، لاشك سوف يثمر عددا من المسرحيات الناطقة بواقع الظرف الوبائي الكوني، خاصة أن زمن الحجر كان يكبل حرية الفاعلين المسرحيين من حيث الاشتغال الفعلي في المسارح ودور العروض المسرحية، وفي كل الميادين التي ينشط فيها المسرح، حتى في الساحات العمومية الكبرى، صحيح قد تكون معايشة الوباء ليست بتلك الحدة التي تصير في المابعد، إذ لابد من منح الذات هامشا من الزمن لاختمار التجربة الإبداعية، وإكساب هذه الذات مسافة مناسبة عن زمن الوباء الفعلي، لصالح الزمن الإبداعي الذي لا يأتي بالضرورة متوازيا مع ظرفية (الحادث) الوباء. لذلك يظل المسرح فعلا محرضا على الإبداع المستمر، الذي يتغذى على الأحداث الكبرى، والمحطات الأكثر وقعا على الإنسان، ولطالما كان هذا المسرح مرآة عاكسة للحضارة الإنسانية، وكان بمثابة الوعاء الفكري والثقافي والإبداعي الذي يتواشج مع البحث التاريخي في قضايا التوثيق لهذه الوقائع الإنسانية في مختلف المناحي والأصعدة، مع وجود الفارق.
عموما يمكن القول إن المسرح كفعل إنساني خالد، لا يمكن أن يصمت، أو ينحسر مهما كانت الظروف والطوارئ، ومهما تقلبت عوادي الزمن، لأنه ببساطة فعل محاكاة غريزي في الإنسان، كما ألمح إلى ذلك أرسطو، يسعى من خلاله إلى التعبير عن حاجاته النفسية والاجتماعية والعقدية التي تمكنه من فعل الوجود.
٭ باحث مسرحي مغربي
----------------------------------------------
المصدر : القدس العربي
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق