تصنيفات مسرحية

الأحد، 5 يوليو 2020

الشعر ضرورة مسرحية في رؤية نصية حداثوية مسرحيات الخباز الأربعة أنموذجا / عدي المختار

مجلة الفنون المسرحية

الشعر ضرورة مسرحية في رؤية نصية حداثوية مسرحيات الخباز الأربعة أنموذجا 
كل شيء في خدعة

أنا وعرشي

وهذا الزيف المترهل في هوامش لا تنتهي

خدعة،

خدعة

حتى صرت أخشى

أن أموت لا كما يموت الناس

خشيت أن اخدع الموت

أو يخدعني فمت قبل الموت

( مسرحية الخدعة)

لعل أكثر ما يميز الشعر هو انه البوح الذاتي المتأمل الذي غالبا ما يكون في أعلى درجات الوعي لدى الشاعر فيجتاحه مباشرة او يكون في اعلى درجات التخيل الفنتازي فيدخل دخول الفاتحين الى حيث المسكوت عنه في ذاتية موضوعية من التأمل , وهذا مايجعل الشعر متفردا او شاعرية هذا الشاعر لها بريق مما سواه من الشعراء،هذا الموضوعي المسكوت عنه تأمليا يعد وهج كل قصيدة شعرية , الا انه يختلف في الفعل الدرامي المسرحي بالتأكيد الذي يحتاج – أي الفعل الدرامي- إلى إيصال الأبعاد الاجتماعية والثقافية والنفسية جميعها بحزمة واحدة وبدقائق عرض محددة وفق مقياس ملل المتلقي وضجره ومدى وعيه في الترجمة الآنية لكل ما يراه ويسمعه من فعل درامي وبوح شعري وهذا ما يجعل العملية الشعرية في المسرح تواجه الكثير من المصاعب ولعل أهمها مدى تقبل المتلقي لذلك النسق الإبداعي (( المسرح الشعري)) والإقبال على مشاهدة نماذج منه،ولعل هذا ما أكده وذهب أليه الكاتب أبو الحسن سلام في مقالة منشورة له تحت عنوان (التعبير المسرحي الشعري بين التأمل الذاتي والانفتاح على المعنى) حيث يقول (إذا ارتبط البوح التأملي الذاتي بشخصية مسرحية بعينها بما يتناسب مع أبعادها الاجتماعية والثقافية والنفسية وفي الحدود التي لا تستغرق من المتلقي للعرض المسرحي الشعري إلاّ زمن ترجمتها ترجمة معنوية فورية والواقع يكشف عن استحالة ذلك في تلقي الصورة الشعرية حالة تبتلها التأملي الذاتي إذ أنها عندئذ تحتاج إلى زمنين أحدهما لفك شفرة الغلاف الذهني للصورة الشعرية في حوار الممثل (أولاً) تمهيداً للترجمة المعنوية لتلك الصورة من جملة تعبيرات الشخصية على لسان ممثلها، (ثانياً)على اعتبار أن الأصل في عملية الإرسال والاستقبال في العرض المسرحي هو حالة الحضور الآني الذي يفترض ترجمة المتلقي الفورية لخطاب الشخصية المسرحية المحمول وجدانياً على لسان الممثل. وهو أمر يبدو متعذراً أمام الصورة الشعرية الدرامية المصطبغة بالتأملات الذاتية التي يشكل بوح الشخصية القناع الذي ينسرب من ورائه بوح الشاعر نفسه محمولاً على لسان فكر الشخصية،وهو أمر يلزم التلقي بكل مستوياته وطاقاته باستغراق زمنين وصولاً إلى معنى الخطاب الجزئي:

-         أولهما: لفك شفرة الصورة المركبة من الصورة الذهنية إلى الصورة المعنوية

-         ثانيهما: اكتشاف الدلالة طبقاً للمتوسطات القرائية (متوسطات التلقي)) ووفقا لماذكر سلام كان لابد من استحداث نسقا جديدا ضمن نسق المسرح الشعري وهو الشعر المسرحي الذي يكون فيه الشعر الدرامي ضرورة من ضرورات العرض والإقناع  وان تكون الصورة الشعرية اساس دراما الفعل وهي هنا لا تعلن نهاية الطاقة الانفعالية وموتها لصالح الطاقة التأملية الفكرية بل أنهما يعادلان الأخر بعملية توازنية مدروسة بما يتيح للفعل الدرامي ان يتجسد بطريقة درامية حقيقية من خلال لغة شعرية تتجلى فيها عناصر التصوير الشعري الدرامي للأحداث في العمل المسرحي.

وبناءا لما تقدم فأننا نستطيع أن نجزم بان المسرحيات الأربعة التي أصدرها الشاعر والكاتب المسرحي علي حسين الخباز  بدءا من (الصراع) و(عتبات الندم) و(محاكمة حميد ابن مسلم)  وانتهاءا بمسرحية (الخدعة) كان في جميعها تتجسد المغايرة بأبهى صوره ليعلن بنصوصه تلك نهاية زمن الخوف من المسرح الشعرية والتوجس من هروب المتلقي عنه بعيدا اوعدم استساغته له .

فقد أعلنت هذه المسرحيات إن تلك المخاوف  قد ولت وحان الأوان للتنظير (بضرورة الشعر كفعل درامي) يعلن عن زمن البوح الدرامي الشعري ويلامس المسكوت عنه في ذهنية المتلقي بعيدا عن مطبين مهمين ألا وهما:

أولا- النخبوية الفجة والخطابية الشعرية في الإلقاء والأداء والتجسيد للفعل الدرامي أو شعرية الحدث

ثانيا- المباشرة والسطحية المغلفة بالإيقاعية الموسيقية كبديل عن الإيقاعية الشعرية التأملية.

إن مسرحيات الخباز علي الأربعة، يعتريها البوح التأملي الموضوعي وتجتاحها أفعال درامية لشعرية الحدث المباح عنه وسط زحمة ضجيج المتخيل في عقلية المتلقي، اتسمت جميعها بالاجتراحات الإبداعية المبتكرة من ناحية النسق والصياغة وتوظيف المفردة وانسيابية اللغة والأحداث وفخامة الطرح واللغة العالية جدا، وليست الصعبة طبعا على عقلية وثقافة الجميع بل كانت كالسهل الممتنع في القول والفعل فكانت الأقرب للجميع دون استثناء .

الإيقاع ألتشويقي للأحداث في الخطاب والبناء الهرمي للأعمال الأربعة كان حاضرا وبقوة ولم يخفت ولع المقتفين اثر نهايات الصراعات المسرحية في الإصدارات الخبازية الأربعة،كان كل شيء ممتلئ في النصوص المسرحية ومكتنز بالثقة النابعة عن عقلية إبداعية ممتلئة بكل معارف الوجود ولها خلفية متخمة بالاكتفاء المعرفي من كل مسارات التدفق البلاغي المحبب،لا بل إن كتاباته المسرحية هي حفر وتنقيب في المخيال الجمعي للشعر، والتوهج المحترف في الأدب، وجهر معلن للخزين المعرفي، ودقة عالية الجودة للابتكار الصوري الذي تراه في كتابات الخباز، وهذا يحسب له ولا لغيره .

تجده  يبتكر الصورة والتأويل والتساؤلات في كلمة تارة أو في لحظة صمت كان حاذق جدا في وضعها بالمكان المناسب من الصراع الدرامي تارة أخرى، فتتحول لسؤال أو تأويل أو صورة تحمل أكثر من معنى في صلب ثيمة العمل أو متطلبات العرض المسرحي فهو يجسد التأويل الشعري في فعل درامي لا يقل عن شعرية الشعر في حدثيته.

إن هذا التفرد والاشتغال الإبداعي الساعي نحو اجتراح مناطق وعوالم جديدة غير تلك التي جاء بها الأولون فأنها مساع واشتغالات تجعلك أمام ظاهرة كتابية جديدة في مجال الكتابة المسرحية للنص الحسيني وفق النظريات الحديثة للمسرح الحسيني .

راح الخباز يخط له عنوانا ويعبد له دربا جديدا وخطا متفردا في كتابة النص المسرحي الحسيني الذي كان ولا يزال -أي النص الحسيني- لم يتخلص بعد من المباشرة والتكلف والتصنع في الأداء وبالسطحية والتاريخية النصية للكتابة حتى بات كل ما كتب للحسين (عليه السلام) من نصوص مسرحية وما يعرض من أعمال مسرحية خلال كل تلك السنوات للشيعة فقط لا غيرهم دون أن تتحول إلى نصوص تصل بحبكتها وخطابها ومضمونها للعالمية،وهذا تحديدا ما فهمه الخباز جيدا وعرف  جدا هول استمراره،فعمل بصمت دون الإعلان عن ما يخطط له على تأسيس خطاب مسرحي اجزم انه بعد سنوات سيكون مرجعا إن لم يصبح مدرسا في الكتابة المسرحية الحسينية، ذلك لأنه كتاباته المسرحية الأربعة  تحيل الواقعة الحسينية إلى خطاب أنساني عالمي شعري جماهيري /نخبوي، يصل للجميع من خلال الحبكة الدرامية واللغة الشعرية العالية والتي تفرد بها الخباز دون سواه في أن يجعل الشعر ضرورة مسرحية في النص عكس ما يطرح في إقحام وتطويع وترويض  الشعر للنص لا بل تجد لديه الشعر هو محور الحركة والصراع في الكتابة والعمل، حتى إن خلت أي مسرحية من مسرحياته من تلك الشعرية الدرامية أصبحت نصا خطابيا وليس مسرحيا،فهو يحيل الخطابية والنمطية في المسرح لفعل شعري محسوس،بهذه الطريقة لعب الخباز لعبته وأسس لشيء لابد أن يلتفت له الكتاب والنقاد والمهتمين في مجال تطوير نظريات المسرح الحسيني.

إن الخباز استطاع وبكل جدارة أن يخرج عن إطار المألوف ويتمرد على السائد والمنتج المبستر الوافد ألينا كنظريات وأسس معلبة مع العلبة الايطالية وكسر زجاج (القسمة والنصيب) في عرائس كتاباته المسرحية الأربعة وعمل وناضل وبكل اقتدار وثقة بان يحدث المغاير في معايير السائد ونجح في ذلك حتى أحال رتابة ونمطية وملل ما كان سائد في الكتابة إلى مساحات من الهيام والتحليق بلا أجنحة في فضاءات التجدد والحداثة في الخطاب البديل والنمط والمدرسة البديلة التي يطرحا الخباز كنموذج لتطور النظريات والحفريات في مشروع كبير انطلق من ارض كربلاء المقدسة ولن ينتهي أبدا إلا بعدما يكون مشرعا تأسيسيا لخطاب مسرحي حسيني عالمي.

ان الخباز يجسد في جميع أعماله الآم أل بيت النبوة الأطهار على امتدا طول الألم من الكوفة للنجف وكربلاء،دون أن يقدم الخباز في أعماله المسرحية كلها وثائق تاريخية تسجيلية بل يجسد التاريخ بحذافيره دون المرور بمروياته بحذافيرها،يتحسس الآلام والوجع ويشعرك بهما دون أن يقدم لوحات خطابية لصفحات تاريخية وثائقية،هو يسير على هامش كل تلك الأحداث ويراها وينقلها بلسان البوح التأملي وعقلية الوعي المعرفي بخطاب لا حدود له أو جمهور محدد .

 إن مسرحيات (الصراع - عتبات الندم - محاكمة حميد ابن مسلم ) كانت محاكمات تأملية مابين الخير والشر داخل كل إنسان لذلك هي مسرحيات الممثل الواحد الذي ينشطر لممثلين أو لممثل وصوت،مسرحيات الصوت الداخلي الآخر في شخصية العمل،مساحات للبحث عن مناطق الصحوة في داخل تلك الشخوص،مسرحيات النادمين والناقمين في ذات الجسد الواحد وان اختلفت الإيقاعات الداخلية لتلك الشخصيات وهو بذلك يؤمن بمقولة الأمام جعفر الصادق (عليه السلام) التي يقول فيها (يعطي الله أعداءه بعض صفات أولياءه )، لذلك يرى الخباز إن داخل كل نفس بشرية جلاد وضحية،ظالم وعادل، خير وشرير  ووفق ذلك كان يحرك دفة الصراع في مسرحياته،باستثناء مسرحيته الأخيرة (الخدعة) التي يصور فيها عنفوان ألطف وأخلاقية النصر والهزيمة مابين كربلاء الشهادة وقصور الخديعة في الكوفة والشام،واستطاع الخباز بإصداره الأخير أن يحيل الوثائق والمرويات من الم نمطي مستهلك في التقديم والكتابة إلى متعة وتشويق وانسيابية عالية رغم طول الخطبة الزينبية التي اشتغل عليها الخباز  بحرفنة إبداعية حتى جعل القارئ أو المتلقي لا يشعر بها .

إن رقي الكلمة وتفرد النهج وسمو المنهجية وجودة الاشتغال تجعلنا نرفع القبعات له،فهو اثبت عبر خبازياته الأربعة بأنه داهية لا بل كاهن الخطاب الجديد للكتابة في المسرح الحسيني وسيتحول إلى مرجع ومدرسة كبرى إن وفرت له الظروف اللازمة حتى يمتد بتأسيساته نحو بناء جيل جديد من الكتاب عبر الإصدارات وجلسات الحوار  وورش العمل، لأنه يؤسس لأفعال درامية شعرية جديدة يكون فيها الشعر بؤرة الصراع والفعل الدرامي ومحركه .

وختاما لابد أن نهمس بأذن من لا يعرف علي حسين الخباز  أو من يعرفه ويصعب عليه أن يقرأ أفكاره،بان الخباز علي يخدع حتى الخداع كي لا يموت كما يموت الناس،حتى الموت لا يتوانى في خداعه طالما هو ماض نحو الق النزف الإبداعي،خاف الخباز ويخاف أن يغادر الدنيا وهو في منتصف الطريق الذي رسمه لنفسه سعيا للوصول للكتابة الإبداعية المتنورة في بحور عشق آل البيت الأطهار (عليهم السلام)، يخاف أن تنسل النهاية خلسة إلى الخباز الصغير الحالم والهائم في صبا العشق الإبداعي والمتمترس في تلك الصلعة الكهنوتية التي يختبئ ورائها فضاء من التنوير والشاعرية والإحساس والعذرية والابتكار لذلك افتتحت هذه الورقة بمقاطع شعرية تتحدث عن خداعه للأشياء والموت حتى،هذا هو الخباز فمن عرفه فقد عرفه ومن لم يعرفه أنبأته به والله على ما أقول شهيد.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق