حنان مبروك - العرب
تقاوم الأعمال الفنية التونسية للصمود أمام أزمة فايروس كورونا التي أضرّت بالقطاع الثقافي عامة، وتتمسّك الأعمال المسرحية التي أنتجت في آخر سنة 2019 بأي فرصة لتلتقي بجمهور الفنّ الرابع علّها تهوّن حالة الجمود ووقعها النفسي على الفنانين والجمهور على حد سواء، وعلّها أيضا تنعش قليلا الجانب المادي بعد أن دمّرت الأزمة الصحية العالمية ما تبقى منه.
تونس – يلتزم المخرج المسرحي التونسي نزار السعيدي بمنهجه البحثي ومقارباته التحليلية لظواهر المجتمع التونسي في مسيرته المسرحية، فبعد مسرحية “ناس” (2012) التي غاصت في عالم المهمّشين، ثم مسرحية “سوس” (2015) التي بحثت في إشكالية العنف، والتي تلتها مسرحية “أنتليجنسيا” (2017) برصدها دور “النخب” أو النخبة في المجتمع، ها هو يواصل النبش في أعماق تونس وعوالمها فيجعل من “قصر السعادة” دراسة مسرحية لانتشار آفة المخدرات في المجتمع باعتبارها آلية سهلة لصناعة وهم السعادة.
“قصر السعادة” عمل قُدّم مؤخرا ضمن عدد قليل من المهرجانات التي تُقاوم لتستمر ببرمجة تونسية متحدية تداعيات فايروس كورونا على الحركة الثقافية في البلاد، وهو عمل مسرحي من أداء الممثلين التونسيين حمودة بن حسين وعلاءالدين شويرف وجمال ساسي وآمال الكراي وفاطمة عبادة وانتصار عويساوي وسينوغرافيا فاطمة العتروس وتدريب صوتي وموسيقي لرانية الجديدي وكوريغرافيا لملاك زويدي وملابس عبدالسلام الجمل وإضاءة علي الهلالي.
وهم السعادة
نزار السعيدي يسعى إلى تحريض الجمهور على تفكيك دوافع استهلاك الإنسان للمخدرات والتمسّك به
تحكي المسرحية رحلة طالبة دكتوراه في علم الاجتماع تعدّ رسالتها البحثيّة عن الإدمان وخطورته على المجتمع، فتلتقي في مركز لعلاج الإدمان بحالتين تحاول الطالبة من خلالهما إنقاذهما من براثن الإدمان وفهم الأسباب والدوافع وراء تعاطيهما للمخدرّات، وهما حالة “شبيب” تلميذ الباكالوريا، ابن العسكري والمحامية، الذي تمرّد على ضوابط والده في المنزل ليصنع لنفسه عالما حرّا يكون فيه صاحب القرار والاختيار، فيما تتجسّد الحالة الثانية في عجوز مدمنة بسبب انحراف زوجها الذي تسبّب في ضياع أبنائها وتشتّتهم بين مغتصب وعاهرة وجهادي.
وفي اختيار الحالتين المختلفتين بشبكاتهما العلائقية وما تكشفه من سلسلة مترابطة من شركاء الإدمان والتمرّد يحاول نزار السعيدي أن يقدّم نماذج عن قصص كثيرة للإدمان في المجتمع التونسي، ويسعى إلى تحريض الجمهور على تفكيك دوافع استهلاك الإنسان المكثّف للمخدرات والكحول والتمسّك به وفق ظروف كل حالة على حدة.
في هذه المسرحية، نقف على مفارقة جليّة منذ أولى عتباتها، العنوان، حيث أنه باللغة العربية “قصر السعادة” لا يحمل المعنى ذاته بالفرنسية Illusion (وهم)، وهو ما يجعل المتفرّج أمام فضاء للتساؤل حول العنوانين سواء بمحاولة البحث عن مفهوم “الوهم” أو بفكّ لغز العنوان العربي، فالقصر يعتبر بنيانا يحيلنا حتى من منظور تاريخي على السلطة والجاه والقوة في حين تبدو السعادة في العمل حاضرة بمفهومها الفلسفي، والجمع بين المفردتين هنا قد يكون جامعا أو مفرقا، فالقوة وتجلياتها قد لا تنتج إنسانا سعيدا بل شقيا في بحثه عن السعادة، والقوة قد تردع الإنسان أيضا عن تشبّثه بوهم كاذب.
أما نص العمل المسرحي فقد وضعه أيضا المخرج نزار السعيدي، عبر تبني الفكرة ثم ارتجالها في وضعيات درامية تقوم على التفاعل بين الممثلين والمخرج لصياغة الشخصيات والأحداث والمسار الرئيسي للعمل ليتم إثر ذلك صياغة النصّ النهائي.
قبح العالم
سخرية من عالم قبيح
في “قصر السعادة”، يكون للممثّل الحرية المطلقة في أن يشتم قبح العالم وينظم فيه قصائد رثائية، فيكشف عورة الكذب والنفاق وتلوّن الإنسان أمام نفسه وعائلته والمجتمع وبالتالي تلونه أمام الوطن.
وأمام هذه الصدمة الفكرية، يدرك المشاهد حقائق موجعة، كان ينكر وجودها حقا في المجتمع بهذه الحدة والعنف والخطورة، فتدفعه إلى التساؤل حول مدى صدق الإنسان في عيش حياة تشبهه وتطابق قناعاته وترضي روحه العطشى للتقدير والاحترام والحب.
إنه أمام فرصة اكتشاف أن السبر والعوايد (العادات والتقاليد) هي السبب في الإدمان وربما الدنيا والدين هما السبب.. أو التاريخ والمجد.. أو الأب.. والمعلّم أيضا سبب.. والبوليس (الشرطة) كذلك.. والحاكم (السلطة) سبب أيضا.. لكنّه يكتشف أخيرا أنه قد لا توجد أي طريقة أخرى لفهم الإنسان وسبر دواخله إلاّ من خلال الفنّ، فهو أمام عمل فني يذكّره بأهمية علم الاجتماع في فهم ودراسة وتحليل ظواهر المجتمعات.
فرصة اكتشاف عالم الإدمان، أسبابه وتداعياته
تمنح “قصر السعادة” المُشاهد نهايتين، وله أن يختار ما يُريد بينهما، لتكون النهاية الأولى مشرقة وباعثة للأمل، حيث يقرّر “شبيب” المدمن أن يخوض تجربة العلاج وهو في السّجن، وتشجّعه الباحثة على خوض التجربة.
أما النهاية الثانية، فبدت مظلمة، حيث تقرّر العجوز الانتحار متخلصة من الجسد الذي أرهق روحها، لتنتهي الحكاية، أو هكذا يُخيّل للمُشاهد، بعد أن يُلقي الممثلون تحية الختام.
لكن السعيدي وطاقمه يشعلون الأضواء مجدّدا ليتواصل التمثيل على الخشبة وفق تقنية “الفلاش باك” السينمائية، في استرجاع لأحداث المسرحية وأبطالها، لتأتي النهاية هذه المرة متّسقة بالواقع أكثر من الأولى.
فيظهر شبيب في السجن وقد تعرّض إلى التحرش فالاغتصاب ليقتل مغتصبه، والباحثة لم تعد تزوره وكأنها تخلّت عنه وعن رسالتها تجاهه، في حين تعترف العجوز بقتلها لزوجها قبل قرار الانتحار، وبينهما تعرف الباحثة حالة من التشظي النفسي فتدمن بدورها المخدرات لتقترب أكثر من عالم الإدمان والمدمنين.
وإن يبدو “قصر السعادة” عملا غير بعيد عن انشغالات السعيدي التي برزت في أعماله السابقة على صعيد المضمون أو على المستويات الجمالية والفنية، فإنه يعتبره “حلقة أخرى من مراحل البحث في صياغة الجسد المسرحي وتطوير آليات توجيه الممثل، إنها مغامرة جديدة في مساءلة الفعل الجمالي وإعادة تشكيله لخلق المعنى في إطار ما يُطرح في المسرح العالمي”.
والسعيدي يؤمن أن كلّ مسرحية هي مجال للبحث لاكتشاف علل المجتمع من خلال أدوات المسرح، فكانت “قصر السعادة” محطة بحث في علّة الإدمان، أسبابها وتداعياتها على الإنسان ومحيطه.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق