مجلة الفنون المسرحية
تجارب المخرج مهند هادي / عواد علي
ربما يمكننا الحديث عن تحول في المسرح العراقي ما بعد الاحتلال الذي مثل بداية حقبة أخرى من التراجيديا العراقية والصراعات والحروب والقتل والدمار، كل هذا تفاعل معه المسرح بطرق جديدة ومبتكرة تكشف عن هول المعاناة برؤى فكرية ومقاربات فنية تجريبية، فتحت المجال واسعا أمام المسرح العراقي ليدخل أكثر القضايا تعقيدا متخليا عن علوية الخطاب إلى خطاب أكثر واقعية ووعيا وحدة.
قبل أربعة عشر عاما، فاجأ مهند هادي، المدرس السابق في معهد الفنون الجميلة ببغداد، ثم الممثل في الفرقة القومية للتمثيل، الوسط المسرحي العراقي بأول تجربة إخراجية له حملت عنوان “حظر تجوال”، وهي من تأليفه أيضا، وإنتاج الفرقة القومية.
اتسمت التجربة بصياغة غير مألوفة في تناول موضوع محلي ساخن أفرزته مرحلة ما بعد الاحتلال في المجتمع العراقي، وجسدت معاناة الشريحة الأكثر تضررا فيه، شريحة المهمّشين في قاع المجتمع، المعرضة إلى الموت المجاني في واقع لا تزيد قيمة الإنسان فيه عن قيمة حشرة. وقد وصف بعض النقاد هذه التجربة بأنها تنتمي إلى مسرح الغضب، وسخرية تخلق حصانتها ضد الاستسهال، وعرض مدهش يصنع من الوجع فنا، ويصور آلام شعب كامل، ويغوص في جراح ضمير البلد.
قدم هادي في “حظر تجوال” حكاية اثنين من المهمشين في بغداد خلال الاحتلال: صبّاغ أحذية (مثّله رائد محسن)، وماسح سيارات (مثّله سمر قحطان) تُركا في الشوارع يغتالهما الموت في كل ساعة، يودّعان نفسيهما في الصباح على نية عدم التعرض إلى مكروه، ويمضي الواحد منهما ليلته في انتظار عودة الآخر سالما، وزجاجة من العرق على مائدتهما تزيح عن كاهلهما الهموم والأوجاع وربما تساعدانهما على النسيان، وصولا إلى صباح اليوم الثاني لتتكرر الحكاية نفسها.
مشرّدان لم يُحسبا حتى في التعداد العام للسكان، يلتقيان عند إعلان حظر التجوال بعد طول عذابات ومفارقات حياتية، ويحرص العرض على متابعة تفاصيلها، حيث تجمعهما غرفة صغيرة يفترشان فيها بطانية قديمة، ويقتسمان رزقهما اليومي نتيجة لضياعه أحيانا كثيرة، فضلا عن أن مهنتهما من المهن غير المرغوب فيها حتى ممّن يمارسونها، لكن لا بد من القيام بها.
التوظيف السيميائي البارع للسينوغرافيا في عروض مهند هادي يؤدي دورا كبيرا في الانتقالات من مشهد إلى آخر
إنهما من تلك الشريحة التي تخسر دائما، ويتميزان عن أقرانهما بعفة النفس ورفض أعمال النهب والسلب، التي شاعت بسبب الاحتلال، رغم حضورهما الدائم في الشارع، وهما أيضا الأكثر عرضة للقتل أو الهلاك بفعل ذلك، يجسدان لنا ظاهرة الموت المجاني، لا للإنسان فحسب، بل لكل مرافق البنية التحتية التي تستهدفها المفخخات والعبوات الناسفة، والقنابل، والأسلحة الأخرى.
الجميع مدان في العرض والجميع ضحية، ولذا عمد الإخراج إلى لعبة تبادل الأدوار بين الممثلين بذكاء، متكئا على السينوغرافيا التي اقترحت فضاء تعبيريا يشير إلى كونه بيتا شبحيا مسكونا بالقلق والرعب والفقر.
مسرَحَ العرض، ببساطته وتقشف سينوغرافيته، هول ما يعيشه الإنسان العراقي من يوميات مترعة بالشظايا والأشلاء تحت الاحتلال، لكن من دون بكائية أو تفجع مفتعل، بل بسخرية رفيعة خلقت حصانتها ضد الإسفاف والاستسهال. وكان من مزاياه أيضا ذلك التطبيع بين النص الشعبي والتجريب، فقد خلق مزاوجة فنية بين حداثة الشكل والصياغة الدرامية من جهة واللغة المحكية من جهة أخرى، بين الحرفية الإخراجية وتلقائية الأداء، كما يقول الناقد محمد حسين حبيب.
وإثر نجاح هذه التجربة، التي شاركت في أكثر من مهرجان مسرحي عراقي وعربي، قدم مهند هادي تجربته الثانية الموسومة بـ”رحلة الهبوط”، ثم الثالثة “قلب الحدث”، فالرابعة “مخيم”، فالخامسة “رائحة القهوة”، فالسادسة “في قلب بغداد”، وهي صياغة ثانية لـ”قلب الحدث”، حيث توسّع في تناول قضايا محلية لتطول عمليات التهجير والإرهاب والاضطهاد الذي تتعرض له المرأة.
رحلة الهبوط
كتب هادي نص “رحلة الهبوط”، مزاوجا إياه مع نص “خبز يومي” للكاتبة الألمانية جيزينا دانك فاخت، وأخرجه لتياترو دمشق لفنون الأداء (2008)، ومثله الممثل العراقي إياد الطائي، والممثلة الألمانية إيفون ألبرس بلغتين، عربية وألمانية. وقد حاول فيه تقديم نموذج لرجل وامرأة في غرفة، أو ما يشبه الملجأ، عابرا الأماكن إلى أزمنة أخرى، في مداورة ذكية لإيجاز البشر، جميع البشر في رجل من عراق الدموية المفرطة، وامرأة من أرشيف “جبهة بلا رحمة” ربما كانت ضابطا في جيش الفوهرر.
تواصلت مؤدية العرض ألبرس مع الجمهور بلغتها الفرنسية، عبر حضور كوميدي ساخر مع أداء إياد الطائي بلغته العربية، دون أن تكون اللغة عائقا دلاليا أو معرفيا بينهما، وأعادا إلى الأذهان أجواء موجة الأفلام الكوميدية الخفيفة التي سادت ألمانيا في تسعينات القرن الفائت، والتي ركزت على العلاقة بين الرجل والمرأة.
وقدم المخرج معظم لوحاته بأسلوب المايم، ثم العودة إلى الجمل الخطابية المنفردة، والتي لم تذهب نحو تصعيد درامي معين، فهي جمل صوتية محض لا تنتمي بالضرورة إلا إلى سياقات الشكل الذي أراد هادي صياغته لمعرفة ما يجري خارجا، فالبشر خارج الغرفة يأكلون بشرا آخرين، الرعب، والقتل، والفظاعة. وهذا ما جعل من الممثلَين مثالا استثنائيا للبقاء على قيد الحياة، والتفريق أكثر بين النيء والمطبوخ من أولئك البشر، في حين كان السقف يقترب من الرؤوس، فيضيق الأمل كمعادل وحيد لليأس المتحذلق والمعزول عن إرادة الحياة ورونقها المضيء الرائع.
قلب الحدث
تمحورت موضوعة عرض “قلب الحدث”، الذي قدمته الفرقة القومية عام 2009، حول ثلاث شخصيات: مدمن حبوب مخدرة (مثّله سمر قحطان)، بائع جرائد (مثّله فلاح إبراهيم)، وامرأة (أدّت دورها آلاء نجم) تُقتل في تفجير إرهابي وهي داخل سيارة، ثم تعود إلى الحياة، في لعبة درامية فانتازية افتراضية لتكشف عن ذواتها، همومها وأحلامها وإحباطاتها ومواقفها، والتحديات الوجودية التي عاشتها قبل موتها.
اشترك العرض مع عرض هادي “حظر تجوال” في أن شخصياته من تلك الشريحة المسحوقة تحت وطأة المعاناة اليومي في واقع مترع بالخوف من القتل والفوضى والدمار صنعه الاحتلال وشريكه الإرهاب، لا لشيء سوى أن هذه الشخصيات الثلاث تبحث عن الخلاص من تلك المعاناة، وتريد أن تحيا حياة إنسانية كريمة، لكن رحلة البحث عن الخلاص تتحول إلى رحلة صوب المجهول في مدينة صار الموت المجاني فيها سيد الموقف، يتربص بتلك الشخصيات وبآلاف مثلها في المنازل والشوارع وأماكن العمل والمدارس ودور العبادة، فليس ثمة فضاء آمن إلاّ ما ندر، بحيث يغدو بقاء الإنسان على قيد الحياة محض مصادفة عبثية.
وفي سياق الكشف عن العوالم الداخلية للشخصيات بين لحظة اتخاذ قرار التغيير ولحظة الانفجار، كان الزمن هو المحور الأساس الذي لعب عليه المخرج، وشكّل على أساسه سينوغرافيا العرض، موظفا مفردة الكلاكيت في قطع المشاهد، والتحول من شخصية إلى أخرى، والانتقال من الماضي إلى الحاضر وبالعكس في أثناء سرد الشخصيات لوقائع حياتها السابقة للحظة الانفجار، تلك اللحظة الرهيبة التي شكلت حافزا فنيا ووجوديا لأن تكشف عن همومها الاجتماعية وعوالمها الداخلية، والعلاقات التي تربط بعضها ببعض.
بحسب تحليل الكاتبة أطياف رشيد، فالرجل المدمن، الذي خرج ولم يعد، كان قد قرر في لحظة مراجعة للذات أن يوقف ذلك الظلام الذي يلفّ بصره وبصيرته. المرأة قررت مغادرة بيتها وترك زوجها السكير والحياة الخانقة التي تعيشها، وبائع الجرائد قرر أن يكون ذلك اليوم يومه الأخير في بيع الجرائد، لكن الإرهاب كان أسبق إليهم من التغيير، فتلقفهم ذلك الوحش المفاجئ، الشخص الانتحاري الغامض الذي كان يتربص بهم ليغتال المستقبل الذي كان يمكن أن يكون كل واحد منهم فيه إنسانا آخر.
المفردة الوحيدة والمهمة التي ميّزت هذا الشخص، ودعمت وجوده على خشبة المسرح هي “حقيبة السفر”، وقد حوّلها المخرج من علامة تقليدية تشير إلى أن حاملها مهاجر أو لاجئ عائد إلى الوطن، إلى علامة تشير إلى أن حاملها تاجر موت جاء من خارج الحدود، وهو وجه آخر للمحتل كما يرى الناقد صميم حسب الله.
قام عرض “مخيم”، أو “camp”، الذي أنتجته جماعة المسرح التجريبي ومؤسسة المورد الثقافي، على لعبة تبادل الأدوار التي جعلها المخرج كمتتالية مشهدية يخرج من خلالها الممثلون عبر أبواب تفضي إلى أبواب، تاركا بذلك مساحات متساوية من الفرجة قائمة على رسم حركي منفّذ بدقة في عمق الخشبة، التي أراد المخرج أن يحولها إلى ما يشبه المتاهة التي لا تفضي إلى شيء، رامزا بذلك إلى حال المواطن العراقي في بلاد الشتات، نتيجة للاحتلال.
كما اعتمد المخرج على نوتة حركية لممثليه وفق أسلوب تراجعي لخطى أبطاله على الخشبة لإبراز مونتاجات زمنية لقصص متشابكة، أبطالها مجموعة من الشخصيات، وضعها وجها لوجه مع مصائرها المتنوعة، مكرسا تقنية الفلاش باك مرة تلو المرة بهدف الإحاطة بأكبر قدر ممكن من المواجهات بين من بقي في العراق، مقررا مواجهة الوضع المأساوي، وبين من فضل طلب اللجوء. دمج مهند هادي بين عدة مستويات لحكاياته مزاوجا بين حكاية المرأة المفجوعة بابنها المقتول على يد الجنود الأميركيين، وقصة الشاب المتطرف والممول من جهات خارجية، وابتعد عن اللعب في مقدمة الخشبة مبقيا على مجمل حركته في العمق وفق إضاءة حولت الممثلين إلى ما يشبه الظلال وذلك للإبقاء على الشخصيات وكأنها مسجونة في سراديب معتمة لا نهاية لأنفاقها الملتوية.
رسم العرض لوحات عن الألم والخوف والهجرة وجوانب عديدة للحياة في البلد: نساء مفجوعات بفقدان أبنائهنّ ورجالهنّ، ورجال محكومين بالبعد عن بيوتهم وأسرهم، إما للحرب أو للثأر والتورط الدموي في اللعبة الطائفية، شخصيات عديدة تحضر في المسرحية، يتناوب الممثلون على أدائها، هي أقرب إلى النماذج أو الحالات المعروفة والمتوقعة، وأشبه ما تكون إلى صور أو أطياف شخوص، وأخيرا لاجئون في سوريا، ينتظرون في مقرّ الأمم المتحدة للحصول على المساعدات أو موافقات السفر هربا من الجحيم الذي ولّده الاحتلال وتبعاته المتمثلة بالاحتراب الطائفي، والتهجير القسري، والإرهاب.
تحضر حقائب السفر في حياة شخصيات العرض كثيرا، فهي متأهبة للرحيل دائما، تخرج من متاهات عديدة، تحمل حقائبها وترحل بحثا عن وطن بديل لوطنها المنتهك، المستباح من الخارج (المحتلين) والداخل (الإرهابيين والميليشيات، ولصوص السلطة…)، لكنها تجد نفسها في متاهات أخرى أشد وطأة.. تطرق أبوابا لا تفضي إلا إلى أبواب.. وهذا ما يجري تجسيده على الخشبة في لوحات متناثرة ذات طابع أقرب إلى سريالية مثيرة للدهشة.
وأدى التوظيف السيميائي البارع للسينوغرافيا في العرض دورا كبيرا في الانتقالات السريعة من مشهد إلى آخر، والإيحاء إلى التحولات الدراماتيكية في الأفعال،
ويرجع الناقد صميم حسب الله الفضل الأول والأخير في هذا التوظيف إلى الدقة في أداء الممثلين من خلال تعاملهم مع البوابات الخشبية، التي لعب المخرج عليها للإشارة إلى مجتمع كامل، والتأكيد على مفاهيم (الداخل –
الخارج)، فمن هو داخل الباب يبدو في مأمن عما يحصل في الخارج في لحظة معينة، ثم سرعان ما يتغير المنظور ليكون الخارج أكثر أمانا من الداخل، حيث تهز أصوات الطائرات منزل الرجل، ويغطي جنود الاحتلال المدججون بالأسلحة رأسه بكيس أسود (إشارة أخرى إلى معتقلي سجن أبوغريب)، لكن الحال لا تبقى كما هي، إذ يرضخ الخارج لجماعات المتطرفين، فيتحول الرجل إلى قاتل يوزع الرصاص على جيرانه لأسباب يجهلها هو نفسه.
تجربة موندرامية
في تجربته المونودرامية “رائحة القهوة”، التي أدتها الممثلة الفرنسية جاكلين جاكو، استوحى هادي موضوعها من ديوان “ذاكرة للنسيان” لمحمود درويش، وهي تتناول حكاية امرأة طاعنة في السن تعيش وسط الحرب، حيث الوحدة والعزلة والخوف. فبعد أن استنفدت القوت والوقت والدواء تصحو على صوت منبه الساعة، وعندما تستمع إلى النشرة الإخبارية تتأكد أنها لا تزال على قيد الحياة. وتذهب هذه المرأة إلى الجمهور كي تشركه في اللعبة المسرحية، فما جرى لها ربما يحدث لأي امرأة في العالم.
إنها لا تريد مغادرة المكان خوفا من أن يأتي أحد أولادها ليأخذها معه، وتبقى تنتظر على أمل الخلاص من شبح الموت والقتلة، الذين يغتالون الهواء إذا مر قربهم. وعندما تسمع صوت الناس أثناء تجمعهم لمباراة كرة، تعتقد أن السلام قد عمّ، لكنها تكتشف أن المباراة قد جرت بين المتحاربين، وتصفية الحسابات، حيث تسيدت ثقافة الموت في كل مكان.
والإرهاب في هذا العرض، الذي قُدّم في مهرجان الكويت الدولي للمونودراما (2016) غير محدد في هوية ما، أهو إرهاب أيديولوجي، كما يتساءل الكاتب فادي عبدالله، أم إرهاب السلطة، أم إرهاب أسري، أم إرهاب نفسي؟ هي امرأة معزولة، فمن الممكن أن يكون نوع الإرهاب الممارس عليها من طرف أسرتها كي تعيش هذه العزلة، وأولادها كل واحد منهم بمكان مختلف، أي عائلتها وخذلانها وحبها السابق والقادم وزواجها وفقدانها زوجها، كل هذه الأمور تؤدي إلى عزلة الإنسان، ومن ثم هو إسقاط على الإرهاب غير محدد الهوية.
--------------------------------
المصدر : جريدة العرب
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق