المسرح المستوحد / عزيز بيلا
المقالة الأولى
1) منظوره :
لقد أردت بهذه المدرسة الجديدة للمسرح أن أواكب التغيرات المجتمعية الحدة التي يعرفها العالم اليوم، فقد أضحى الفرد ( وهو محور إهتمام مسرح المستوحد ) في عزلة تامة داخل مجتمعات ضخمة مكونة من جماعات تعداد أفرادها يقدر بالملايين وتعيش متكدسة دخل مدن عملاقة، وسبب هذه العزلة رغم المجتمع الكبير الذي يعيش فيه الفرد هو التحول من الجماعات الصغيرة أو القبيلة أو القرية أو حتى المدن الصغيرة الى نظام جديد تسحق فيه هذه المجموعة الكبيرة الفرد بكل خصوصياته وتميزه وتشكل منه وحدات متشابهة ومكررة في التفكير والسلوك، إن الفرد الذي نلاحظه اليوم بعد إنهيار أخر أشكال التجمع القديمة وهي العائلة أو الأسرة، قد أصبح يعيش في وحدة قاتلة يصارع مشاكله وحده بدون مساندة أو مساعدة من الآخر، فالأفراد في هذا الشكل الجديد من التجمع لا ترحم بعضها ولا تخدم الى مصالح المنظومة العامة ومصالحها، لذلك تحول الفرد في فردانيته وعدم تفرده إلى كائن داخلي يعيش معانات نفسية مستمرة ويتصارع مع نفسه بلا هوادة، ولم يعد الآخر ضروري لوجود الأنا، من هنا جاءت فكرة المسرح المستوحد الذي يرى العالم من منظور الفرد ولا يرى ضرورة لوجود أكثر من ممثل واحد فوق الخشبة مادام الآخر السلبي الذي لا يساند الفرد ولا يشكل أهمية كبيرة في حياته قد أصبح شبحا، فأي ممثل نضيفه إلى الممثل الواحد لن يكون سوى شبح ولا ضرورة لوجوده، فهل المسرح المستوحد يساند هذا المذهب الفرداني؟ في الحقيقة هو لا يساند ولا يعارض شئ، هو فقط يحاكي الواقع ويناقش الحياة من منظور الفرد في عالم أدى فيه التجمع الكثيف للإنسان واستبداد الجماعة إلى إنعزال الفرد وإنغلاقه على نفسه.
2) شكله :
عبر تاريخ المسرح الطويل لطالما أزعجت المونودرما هذا الشكل الأنيق للمسرح في وجود ممثلان على الأقل و حبكة وصراع..وغيره، وظل هذا النوع من المسرح الشاذ يقلق الكتاب و المخرجين وحتى الممثلين بل وأحيانا كثيرة لم يعترف بالمونودرما مسرحا بمعنى الكلمة، والحقيقة أن مسرح المستوحد يرى المسرح بشكله التقليدي في وجود ممثلين وموقف..وغيره، لايمنحنا زاوية نظر إنسانية للحياة بقدر ماهي نظرة إلاهية أو ( نظرة فوقية )، فالحياة التى نعرفها يعيشها الأفراد كل في عالمه الذهني حسب إعتقاداته وتفسيره لما يدور حوله، فلا وجود لحياة خارج عقل الفرد وتفكيره، لذلك تتأسس فكرة المسرح المستوحد على وجود ممثل واحد على الخشبة يمثل الفرد في نظرته للعالم وما يحيط به، وهو أيضا الكاتب والمخرج حفاظا على ما أسميته بأصالة الفكرة الأولى.
- أصالة الفكرة الأولى :
يقال أن تنقل النص من الكاتب الى المخرج الى الممثل يغني النص بمزيد من الأفكار الجديدة ومزيد من الإبداع وهذا صحيح بكل تأكيد لكن ماتخفيه عملية الإبداع هذه هو أن كل إضافة للنص تعني بالضرورة حذف من الفكرة الأولى فالفهم المختلف لنص معين يمنحنا أفكار جديدة وحذف من أصالة الفكرة الأولى أيضا، وتكمن أهمية الفكرة الأولى في المسرح المستوحد في أنها أفكار ذاتية، حيث أنه يشترط في المسرح المستوحد أن يكون النص ذاتي أو شخصي، يستلهم عناصره من الحياة المعاشة للممثل الواحد ولا يعني هذا أن يكون النص بالضرورة سيرة ذاتية أو سيرة ذهنية أو سيرة من أي نوع، معناه فقط أنه لا ينفصل عن الحياة المعاشة للممثل بهدف تحقيق حالة التوحد مع الجمهور.
- حالة التوحد :
أولا كلمة توحد أو مستوحد تستعمل هنا لغويا ومجازيا ولا علاقة لها بما تعنيه هذه الكلمات في علم النفس، ونقصد بها هنا أن مسرح المستوحد لا يخاطب الجمهور كجماعة بل كأفراد فكل فرد على حدا يجد نفسه في العرض متحدا معه بما أننا كأفراد نتماثل في الجوهر وكلما زاد إختلافنا في التفكير والتوجه زاد إحساسنا بهذا التماثل في الجوهر وطبيعة الوعي، فحالة التوحد هذه تعيد تصحيح علاقة الفرد بالآخر، وتعيدنا الى فكرة الفرد الذي صنع الجماعة وليس الجماعة التي تصنع الأفراد كما نلاحظه اليوم.
3) ورشة المسرح المستوحد :
إن العمل الجماعي في الورشات المسرحية قد تبدو متناقضة مع فكرة الفردانية في المسرح المستوحد، وهذا التناقض يعكس ماهو موجود في الواقع حيث تضارب المصالح بين مصلحة الفرد أو منفعته ومنفعة الجماعة، فهل يجتمع الممثلون في هذه الورشة على أن يشتغل كل ممثل لوحده؟ إن التعاون في ورشة المسرح المستوحد يشبه التعاون في بناء قرية ما حيث كل جار يساعد جاره في بناء بيته رغم أنه لن يسكن ذلك البيت، وفي ذلك إعتراف للآخر بامتلاك فضاءه الخاص وخصوصيته وإختلافه، ونعكس بهذا المفهوم إنتقال الأفراد من التشابه والتنافر الى الإختلاف والتكامل حيث يأدي إختلاف المواهب والمهارات بين الأفراد الى حاجتهم لبعضهم، إن منتوج ورشة المسرح المستوحد لن يكون عرضا مسرحيا بل مجموعة من العروض مادام كل ممثل قد أنتج عمله الخاص، ويمكن تقديم هذه العروض في أمسية أو أسبوع أو طوال موسم مسرحي، ورغم الصعوبة الفنية والإبداعية في تحقيق هذا النوع المسرحي، فمن الناحية المادية والتقنية يسهل إنتاج هذه العروض، وهي مناسبة للأسواق الفنية التي تعاني من الضعف والهشاشة أو إستبداد الأنظمة القمعية التي تحارب الثقافة والمسرح.
4) مؤسس المسرح المستوحد :
لم تكن فكرة هذا المسرح وليدة التأملات النظرية أو حتى القراءات المعمقة في المسرح بقدر ما كانت نتاج تجربة وممارسة ميدانية وسط صعوبات وإكراهات فرضتها طبيعة الميدان المسرحي في المغرب، فالعزلة والحصار الذي عايشته على مدى سنوات، وأنا أبحث عن طرق ومسالك جديدة للإبداع، جعلتني أقف لأول مرة أمام حقيقة معاناة الفرد وحيدا وسط ملايين البشر المحيطة به، فلا شئ قد يمنع هلاك هذا الفرد ولا أحد قد يكثرت به فالآخر جمهور متفرج يصفق لمصيبته، فأردت أن أنشأ مسرح يجعل لهذا الفرد صوتا يصرخ به في وجه الجماعة وأردت للممثل أن يتمرد على جماعته وعلى أشكال المسرح التقليدية وينشأ لنفسه مسرح يكون هو فيه القلب والقالب، وتختفي فيه المسافة بين حياة الممثل وتجربته من جهة وما يقوم بأدائه على الخشبة من جهة أخرى بمعنى آخر تختفي المسافة بين مايعيشه الممثل في الحياة وبين مايعيشه على الخشبة، فهو الممثل والكاتب والمخرج والمتعري ( The Stripper ) على خشبة الحياة.
( تعتبر مسرحية "الحركية الديناميكية لمركبات الألبان" أول عرض في المسرح المستوحد، وتتبعوا قريبا مقالات أخرى توضح أكثر مفاهيم هذا المسرح )
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق