مجلة الفنون المسرحية
*المشردات ... نساء على حافة العمر / د. لمياء انور
( القوانين الصالحة تصنع بشر صالحين) جملة جاءت على لسان هارنجتون المؤسس للنزعة المدنية للإنسانية ، فإن ما يميز الإنسان عن باقي الكائنات الحية هو فعل الوعي والإدراك ، وعندما جاء كانط بتفسير للإنسانية بأنها ما يُعبر عن هدف الأخلاق ، وحسب رؤية أوجست كونت بأن الإنسانية هي مجموع الصفات التي تكون كائناً اجتماعياً يتطور مع مرور الزمن .
وإنطلاقاً من تلك المسألة نجد المعادل الموازي للإنسانية وهي التشرد ، والذي يعني بمعناه العام عدم امتلاك الفرد (الإنسان) لمأوى مناسب للسكن نتيجة ظروف ما سواء فقدان الوظيفة أو انعدام الدخل ، فيضطر إلى اللجوء إلى الشارع ، و على صعيد أخر نجد تلك النزعة الإنسانية المدنية والتي جاءت على يد ماكيافيلي وهارنجتون والتي يمكن ان نرجئها إلى كتابات ارسطو في تأصيل تلك النزعة بارتباطها بالسلطة والقوة ، حيث ارتكزت تلك النزعة على التكفل باستمرار توفير الظروف اللازمة لدوام بقاء المجتمع ، وهي الظروف الخاصة بالفضيلة المدنية ، عن طريق ممارسة الاختيارات الحرة في فعل الممارسة الإنساني وأن ينظر للفرد كإمتداد لهويته الشخصية وإمتداد للمبادئ الحاكمة التي يرتكز المجتمع نفسه عليها .
ومن هنا ينطلق العرض المسرحي الأسترالي (المتشردات) unHOWsed والذي يضعنا أمام مجموعة من القصص الواقعية لمجموعة من النساء اللواتي يعانين التشرد ويعيشن على حافة المجتمع ، وإذا ما أمعننا النظر في القاسم المشترك بينهن هو الشعور بعدم الأمان والخيط الرفيع هو حالة الخزي من تلك الظروف وهذا المجتمع.
فتلك المآسي والصعوبات التي تعرضن لها بشكل خارج عن إرادتهن والتي أدت بحتمية تشردهم هو الأمر الذي ينتج عنه تغييراً جذرياً في النفس البشرية مما يترتب عليه تعرض فئة ليست بقليلة بالتدمير بل والهدم ، وبالتالي تعرضهن للإيذاء والإعتداء والاغتصاب والركل والنبذ من المجتمع ككل ، فيصبح الشارع هو المأوى والحيوانات الضالة هي الصاحب .
يبدأ العرض بفيديو بروجيكتور لسيدة مسنة وهي تؤدي أغنية مفادها عن التشرد في محاولة منها أن تذهب لعالم خيالي تستطيع فيه أن تبقى على قيد الحياة ، وتقدم مونولوجاً خاصاً عن تجاربها ، ثم تصرخ قائلة ( أنا امرأة في الشارع) (تعرضت للأعتداء ثلاث مرات) (الحياة ليست كبيرة) ( كنت سأقتل من أجل شريحة لحم) ، ثم تأخذنا المخرجة إلى المسرح الذي نجد فيه ثمانية من النساء يجلسن بشكل مرتب داخل إطار محدد يوحي بالسجن مفتوح الزاوية الصغيرة المقابلة للجمهور ، حيث تم استخدام الكشافات الفوقية والواقعية محددة الحواف ، وهم في حالة من التطهير مع الإحساس بحالة من تداعي الذكريات الأليمة في محاولة للتخلص منها في اطار من الحكي الفردي.
نجد شخصية الجدة (بوراندانيس) التي تجاوزت الخمسين من عمرها وانفصلت عن زوجها وطردت إلى الشارع والتي كانت تنام على مقعد الحديقة المجاورة للمسرح في ملبورن ، كذلك السيدة (ماكدونالد) والتي قالت ( كنا سيدات عاديات وعندما ساءت الظروف أصبحنا سيدات غير عاديات ) ، وسردت حكايات تمثل لها ذكريات من الوقت الضائع من العمر ، فهي ذكريات (الهدر) .
يمكن القول بأن المخرجة كانت على وعي فني وحقيقي بكل خطوة على المسرح ومدركة تماماً لقيمة الصمت والإيماءة ، مستغلة في ذلك الدراما الواقعية المكتوبة ، فعندما يؤدين النساء لأغنية بطرح تساؤلات للأب (لماذا تركتنا؟) ، ( أين أنت ؟)، فالأب هنا هو الأمان ، الحماية ، وربما الإله ؟!، في حين دخول (ماكدونالد) بماكيت لسيارة تحكي فيه قصة تشردها ، وكيف كانت السيارة هي مأواها في العالم الخارجي ، تأكل وتشرب وتنام وتتحمم في الشارع وكذلك تفعل الرذيلة مقابل المال ،
وتأتي الحكايات واحدة تلو الأخرى لكل سيدة منهن ، ولا ننسى الدور الهام والبارز للإضاءة في تكثيف وتأكيد الحدث الدرامي ، فوعي المخرجة بأهمية اللون واتجاهه ومعناه الدرامي جعل للإضاءة دور البطولة بجانب عملية الحكي والبوح الموجع لهؤلاء السيدات.
وينتهي العرض برسالة على شاشة البروجيكتو (أنا هنا إلى الأبد ) ، وهذا يوضح اليأس الكامل من سماع القضية من قبل القوانين والدولة المنوطة للبشر الذي يعيشون تحت ظلالها .
القضية هنا قد تعني بفئة خاصة من المجتمع الاسترالي حيث انه وفق للدراسات والبيانات الأخيرة أنه في غضون خمس سنوات زاد عدد النساء اللاتي يعانين التشرد بنسبة 31% ، كما أفادت منظمة التشرد الاسترالي العام الماضي أن عدد النساء الأكبر سناً اللاتي ينمن على الأريكة في الشوارع بنسبة 83% وان عدد النساء اللاتي ينمن تحت السيارات ارتفع إلى 75% في أربع سنوات، وهذه التقارير تم التوصل إليها من الصفحة الخاصة بالعرض المذكور.
فمحاولة الحفاظ على الكرامة الإنسانية لامرأة ناضجة لهو أمر يصعب على الكثيرين فهمه، وذلك نظراً لأن المجتمع بطبيعته القاسية لن يستطيع احتواء تلك المشاعر المضطربة لهؤلاء البشر (النساء) على الخصوص ، بل ويبدأ المجتمع في محاولة لتشويه الصورة والاعتداء عليها وإلقاء اللوم كاملاً عليهن بمعزل عن الظروف المحيطة، وأخيراً يمكن القول بأن العرض خرج من اطاره المحلى لأن تصبح القضية هي قضية اجتماعية عالمية.
*المقالة عن العرض الأسترالي المشردات نشرت في العدد العاشر من نشرة المهرجان الدولي للمسرح التجريبي ٢٠٢٠
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق