الاضطهاد في مسرحية ملاّية للكاتب عمار نعمة جابر
د. طالب هاشم بدن
ملاّية أسم مثير للدهشة والاستغراب وهو ينطلق من عوالم بدائية وأعراف وتقاليد حملت هموماً ومكابدات وصارت الناعية على أجساد راحلة لمواساة ما تبقى من قلوب إعتصرها هم ووجع الفراق .....
صدرت ضمن مجموعة ( إنتباه ) مونودراما مسرحية ملاية التي تعني ( الناعية في عزاء النساء بالتحديد) ، يصف الكاتب شخصيته على إنها في الاربعين من العمر ، تدور أحداث المسرحية حولها وهي تعاني مكابدات النفس المهمومة ، يتجلى ذلك من حوارها مع النفس الذي تروي من خلاله معاناتها مع رجل تصفه بالغبي البارد لا يعرف قيمتها غير إنها أحبته وأفنت زهرة شبابها من أجله دون جدوى ، حتى قتل كل لحظات الفرح فيها وحول حياتها إلى عتمة ما حملها على إيجاد متنفس في النعي كمهنة تعبر من خلالها عن مدى الانكسار والضياع الذي تعانيه . فلا وسيلة سوى البكاء والنحيب على ما خلا من دهر لا رجعة له حتى صار الحزن إكليلاً من السواد يغطي ما تبقى من حياة هامدة خاوية وجدت ضالتها بين ركام من باكيات أصابهم الزمن بلعناته وصيّر حياتهن إلى ظلمة وخيبات متتالية صار نهارهن ليل كالح السواد كما لباسهن الذي تلاصق على اجسادهن الخائرات القوى .
إن العنصر المهيمن على مسرحية ملاّية يكمن في القهر ومعاناة النفس البشرية التي بدت واضحة منذ بدايتها في محاولة اصلاح نفوس الاخرين غير ان العيش في الخذلان ما برح ان يكون هو المسيطر والواضح في كل مراحل وخطوات المسرحية الذي يؤدي إلى العزلة التي اختارتها الشخصية بشكل محايث منسجم مع ما يدور من حوادث اضطهاد وهي العزلة التي تحيلنا إلى الكشف بصورة مبكرة عن عبثية الواقع وتماهيها في روح الفرد ، إذ يضيف الكاتب إلى حبكة المسرحية حبكة مجاورة إتسمت بمعاناة المرأة من عذابات النفس عبر ادراكها استحالة الانجاب وهي عاقر لا تملك طفلاً يؤنس وحدتها ويبعد عنها شبح العزلة المقيتة في الوقت الذي يجعلها أكثر تعرضاً للتحرش ومقبولية في مجتمع لا يعي أو يراعي صراع النفس البشرية .
إن دياليكتية الحياة وديمومتها عبر عملية انجاب الطفل يحمل اسم عائلة تعاني صراع داخلي عدواني جعل تنامي تمرحلات مهمة في النص أخذ يجول به إلى عالم من اللاشعور متمثلاً في قيام الزوج بضرب زوجته وإهانتها لا لشيء بل لأنها عاقر الامر الذي يضيف إلى نعيها آلاماً مضاعفة ربما صارت باعثاً لزيادة الوجع وانعكاساته على أسلوبية ما اجادت به من نعي وأصبح وسيلة للتخفيف والترفيه عن نفس مكظومة لو بقيت مكتومة لأودت بحياتها . يرينا الكاتب مراحل من نمو الشخصية عبر حوارها وتمرسها على النعي ، إذ تكون شخصية مركبة تعيش مراحل من الصراع تجسدت في لغة ناعية باكية ضمن بحبوحة تقوقعت فيها لتكون عالمها البديل وملجؤها الذي تفرغ به همومها . وفي انتقالة بالحوار تكشف لنا الملاية ان الزوج هو العاقر بعد محاولاته الفاشلة وزواجه لعدة نساء في محاولة لأنجاب طفل يورث اسما له ، وهنا في تغيير المواقف وتبادل الادوار يرينا الكاتب الوجه الشرقي وما تبعه من تسلط وظلم ظل ملاصقاً مجتمعاتنا ونظرتهم إلى المرأة عبر القرون ، إذ تمثل لغة الكاتب إشارات وإنتقالات والتفاتات مهمة ما ان تضع يدك على احداهن إلا وسارت بك دراما المسرحية الى عوالم من الترابط الكمي والمعرفي على وفق آلية مدروسة قادرة على ايجاد توافق زمكاني سائرة الى ملئ الفجوات والهنات التي نجدها في نصوص موازية أُخر . إذ ان ثنائية الزواج والعقر تجلت في شخصية ارادت ان تكون لها كائن يضع نصاب المواقف بشكل غير متزعزع ثابت المهام واثق الخطوات حتى نجد فاصل من الخذلان والابتعاد عن الترابط بشكل متوافق مع اللحظة التي تتقاطع فيها شخوص المسرحية وهي محاولة لوضع القارئ ضمن سلسلة من الوهم والخيال وتداخلات من أجل البحث عن اجابة مقنعة يحاول ذلك القارئ ان يجد لها حلاً عن نوع المتغيرات التي عندما تنتقل من شخص الى آخر لا تحقق العدالة المراد فهمها والعمل على تطبيقها بين الرجل والمرأة ، بوصف إن الزوجة تعاني والرجل سيد الموقف وصاحب الكلمة لا يكترث لما تصار لها جدلية الحياة الامر الذي نراه سائداً في مجتمع شرقي يفرض أو يحاول فرض نظرته البدوية على المرأة ، وما أراد التعبير عنه الكاتب في رؤيته الدرامية هي تلك الجدلية التي بقيت شاخصة الى يومنا هذا ، إذن تعبر المسرحية عن حس ثوري وتطلق صرخة احتجاج كما هو معهود في كتابات المؤلف عمار والتي تبدو أغلب مسرحيات مجموعته انتباه جاءت على هذا النهج بقصدية واضحة ومهمة لتوعية المجتمع الى هكذا موضوعات وينظر إلى واقع يكاد يهمل دور النص الاخر للرجل ، وربما رفض واستهجان لما نحن عليه من عسر في تعاملاتنا اليومية من عهر مع كائن ضعيف لا يقوى على مقاومة فحولة الرجل الشرقي ولا يدرك قيمته المتهالكة مع الزمن . ومن الملاحظ ان الكاتب عمار يقربنا كثيراً إلى شخصيات الواقع بمسمياتها وأفعالها وتحركاتها حتى يكاد يقول لنا : ها نحن نجسد الحياة ونجوب الطرقات بحثاً عن متغير ملموس منا ولنا .. وما علينا إلا العمل على الاهتمام بمن حولنا ومن هم بأروقة الحياة يمارسون ادواراً مهمة مؤثرة تكاد تطغى على الحياة في تشكلها ، لها وجوداً مغايراً لنظرة الوجودية التي تستحوذ على تفكير الناس ؛ إذ تخرج من المعاناة والمواقف الصعبة لمجابهة نمط جديد من العلاقات الاجتماعية المتشابكة لتخوض الصراع بشكل فردي . تخرج المرأة المعنفة إلى الواقع بقوة من أجل التغيير بل لتغير من حياتها وتعيش كما ترى ، إذ ان ملاية تجد التغيير ينطلق من دواخل النفس فتنفث غبار الحزن الملاصق لشخصيتها وتذهب إلى عوالم السعادة ومجابهة المجتمع بشيء من السخرية . غير إن ممارسة النعي يصفه الكاتب على أنه تفريغ هم وحزن مختلف الاسباب ، فمنه لفراق حبيب أو زواج غير متكافئ أو ضياع ولد تربى في كنف ام وأب سرعان ما فقدته أمه وبكت حد الجزع وهناك كرب على ضياع عمر تجد ان البكاء خير مرافق ما لبث أن يتدفق الدمع عن سماع بيت شعر مؤثر تنعى به الناعية لروح ما عادت ولم تعد قادرة على الصبر والتحمل فتعاظم شأن الحزن حتى لجأت إلى البكاء ، ورثاء نفسها . بعد كل تلك المواقف تقرر الملاية مواصلة النعي صارخة بألم وصوت يطغي عليه الشجن : كافي كي " تسمعني النساء في كل مرة ، وتغفوا أرواحهن في تلك الليلة التي أنعى لهن بسلام ، يغفون على وسائدهن ، مثل طفل صغير فزع للتو من ثدي أمه " وهي في تلك العبارات تحيلنا إلى رفض الاستمرار ليختم بها كاتبنا نصه الدرامي في تراجيدية معبرة عن وجع لا ولن ينته ..
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق