من الصعب تناول شخصية فنية مشهورة وموجودة بيننا في المسرح كما في الفنون الأخرى، فتقديم سيرة لفنان يحاصره الكثير من التدقيق، وغالبا ما يكون مثيرا للجدل حتى على تفصيل لا يلائم تصورات الجمهور أو تصورات الفنان نفسه، ولذلك يلجأ الكثير من المبدعين إلى الاكتفاء بالسيرة الفنية للفنان، وهو ما يخلق إشكالا آخر حول صدق العمل.
مع مسرحية “فرد عود” ينتقل المخرج والكاتب المسرحي العراقي حسين علي هارف إلى تقديم المونودراما، وهو الذي سبق له أن كتب وأخرج العديد من النصوص المسرحية للكبار وللأطفال وللفتيان. واستوحى المخرج مسرحيته الجديدة من معزوفات وسيرة الموسيقي العراقي نصير شمة، ليتناول مسيرته الفنية وهواجسه الثقافية من زوايا مختلفة لم يألفها الجمهور من قبل.
يمكننا اعتبار هذا العمل أول مسرحية تتناول سيرة نصير شمة، لا كفنان وعازف فقط، وإنما أيضا كمثقف وإنسان، حيث قرن إبداعاته الموسيقية بمبادرات ثقافية وإنسانية ومجتمعية متنوعة داخل وخارج العراق، لذا مثّل مادة خصبة للمونودراما التي قدمها هارف، من تمثيل طه المشهداني، وبمشاركة العازف محمد العطار، بينما تكفل بالإدارة المسرحية والتقنية الفنان علي جواد الركابي.
مسرحة الموسيقى
يتبادر إلى ذهن المتفرج أن فكرة المسرحية تندرج في إطار مسرح السيرة، وبالتالي ستتناول خفايا من حياة شخصيتها المحورية، لكن هارف يوضح أن موضوعة المسرحية مستوحى من معزوفات وسيرة الفنان نصير شمة الإبداعية لا الحياتية، إذ اعتمد التقاطات فنية وأعاد بناءها في قالب مونودرامي لإطلاق العنان للخيال والتأويل، للكشف عن معاناة الفنان كنموذج للمثقف العضوي، ولإبراز اغترابه داخل الوطن قبل مغادرته وبعد هجرته منه، وكل ذلك من خلال البوح الموسيقي والمؤلفات التي كانت تتماهى مع الواقع السياسي والاجتماعي لوطن الفنان.
ويؤكد مخرج ومؤلف المسرحية أنها ليست سيرة بالمعنى التقليدي المتداول، ويقول “لقد أخذنا سيرة وطن من خلال سيرة فنان. لم أُعن كثيراً بمحطات اجتماعية وحياتية بل بمواقف وانفعالات نصير شمة مع ما حل بالوطن، والتداخل والتماهي بين أوجاع الفنان وهمومه وأوجاع الوطن وهمومه، إنها سيرة إبداع، سيرة وطن، سيرة موسيقى عبرت عن وطن جريح”.
ما يميز تجربة هارف المونودرامية “فرد عود”، هو توزعها على محطات درامية (مشهدية) متنوعة ومتحولة من مشهد لآخر، وكأن كل مشهد هو عرض مونودرامي مستقل، رغم وجود رابط درامي وفكري داخلي متين، وقد وضع المخرج لكل مشهد مستقل اسما وعنواناً جاءت كلها تحت مسمى “بوح” وهو ما ينبئ بنوع من الصدق في تقديم فصول السيرة وكأنها أسرار يتشاركها العمل مع جمهوره، مثل “بوح العود”، و”بوح الطفولة”، و”بوح الحرب”، و”بوح ملجأ العامرية”، و”بوح اليد تغني”.
وربما مما يحسب لهارف أيضا علاوة على مسألة المشهدية هو أن هذا العرض هو تجربة جديدة في مسرحة الموسيقى، حيث انطلق المخرج من أجواء وروحية المقطوعات الموسيقية لنصير شمة، وكتب الحوار والمشاهد بروح شعرية حاولت التماهي مع تلك المؤلفات التي عبرت عن تراجيديا الواقع بتراجيديا الموسيقى.
المسرحية ليست سيرة بالمعنى التقليدي المتداول، فقد حاول منتجوها أن يتناولوا سيرة وطن من خلال سيرة فنان
وعلى عكس ما هو متوقع لم يتواصل المخرج مع الفنان للوقوف عند أهم محطاته بل اكتفى بموسيقاه، حيث صرح قائلا “لم أقم بإجراء محادثة أو مقابلة مباشرة مع الصديق الفنان نصير شمة برغم وجود محادثات بسيطة بيننا، لكنني بشكل أساسي عمدت إلى الاستماع إلى مؤلفاته الموسيقية وتحليلها دراميا”.
وأضاف “من ثم اعتمدت على الاستماع بتركيز إلى الكثير من لقاءاته التلفزيونية والإذاعية التي كشف فيها عن إرادة حرة وواعية في جعل الموسيقى وسيلة دفاع عن الحياة، ومحاربة الموت والخراب والحرب والطغيان، كما كشف فيها عن توظيفه الواعي والصادق للموسيقى في التعبير عن مواقفه الاجتماعية والوطنية، فضلاً عن تداعيات الصراعات التي عاشها في طفولته وشبابه ورحلاته وأسفاره المضنية، هذه المعاناة المتماهية مع معاناة الوطن الذي شهد الكثير من الحروب والحصارات والاحتدامات”.
وقد استثمر هارف العزف الحي للعود في درامية العرض والذي قدمه الفنان محمد العطار حيث أدى بعض مقطوعات لنصير شمة كانت موظفة في سياق العمل، ويذكر المخرج بأن المسرح قد أمده بثقافة وحس موسيقيين، كما أنه من عشاق آلة العود، وهذه ليست المرة الأولى التي يوظف فيها آلة العود في أعماله المسرحية، فقد اعتمد على العزف الحي على آلة العود في العديد من المسرحيات التي كانت تدخل في إطار مسرحة القصيدة، بدءًا من أول تجربة إخراجية له عام 1984 بمسرحية “أمسية مع نجيب سرور”، التي حصل من خلالها على جائزة أفضل مخرج وأفضل عرض في مهرجان منتدى المسرح، وفي مسرحية “كلمات غير متقاطعة” عام 1992 التي قدمت في مسرح المنصور في مهرجان بغداد للمسرح العربي، وكذلك في تجربة مسرح المقهى “سالوفة مسرحية” التي قدمت في رمضان 2019 في مقهى رضا علوان وغيرها من الأعمال.
وفي “فرد عود” آثر هارف، وللمرة الخامسة، أن يكون للعود مع العزف الحي حضور حي وفعال، وأن يكون هو بطل للعرض إلى جانب عازف العود، فاستعان بعازف عود ماهر ومبدع رشحه له الفنان نصير شمة، وهو الفنان محمد العطار مدير بيت العود العربي في بغداد، وأحد تلامذة شمة، حيث قدم العطار في سياق وبين ثنايا العرض أجزاء كبيرة من مؤلفات شمة، ضمن السياق الدرامي الذي سيقوم بتجسيده الممثل طه المشهداني، الذي ضبط أداءه في تناغم مع الأداء الموسيقي لعازف العود.
الرهان على الممثل
احتفاء بأحد أبرز المبدعين العراقيين
كما يذكر كتب هارف هذه المونودراما إكراما لفنان عراقي محب لفنه ووطنه، وعلاوة عن كون المسرحية مستوحاة من سيرة موسيقى ومن أحلام عازف الخشب، فقد اجتهد من خلالها المخرج في تقديم تجربة في ما يمكن تسميته بـ”مسرحة الموسيقى”، إيمانا منه بأن الموسيقى هي روح المسرح وأهم عناصره التعبيرية.
من جانبه قال بطل العرض الفنان طه المشهداني “للمونودراما طريقة خاصة في تقديم العرض فهي تعتمد على الممثل ومنظوماته الحسية والفكرية والجسدية والصوتية، و’فرد عود’ أجسد فيها شخصية مازالت متواجدة بيننا، بل يعرفها العراقيون والعرب والعالم وذلك لإنجازاتها الفنية الكبيرة. إنه نصير شمة ذلك الطائر الذي حلق في سماء العالم من خلال رحتله منذ الطفولة مع آلة العود التي عشقها وعشقته هي بدورها”.
وتأدية دور فنان معروف ومازال متواجدا بيننا ويقدم عطاء فنيا هاما، كل هذا طرح نوعا من التحدي على الممثل، الذي حاول أن لا يقلد الفنان نصير شمة في الشكل والمضمون الصوتي ولا طريقة أدائه في الحياة، وذلك لضرورات درامية علمية يستند عليها المسرح وطريقة العرض، ولم يجسد المشهداني كل تفاصيل وأفعال الشخصية الدقيقة إلا في لمسات معينة، مقرا بأن المخرج قد ساعده في ذلك كثيراً، في حين كانت آلة العود تتدفق أنغامها وسطوتها على أحاسيسه.
واعتبر الممثل أن هذا العرض هو بمثابة احتفاء بأحد أبرز المبدعين العراقيين، دون أن ينفي أن هناك الكثير من المبدعين يستحقون الاحتفاء بهم.
ونذكر أن مسرحية “فرد عود” قدمت أخيرا في المهرجان السنوي للإبداع العربي (دورة الموسيقار العالمي سفير السلام نصير شمة)، الذي أقامته مؤسسة عين للثقافة والإعلام يوم السبت 12 ديسمبر 2020 في المسرح الوطني في العاصمة بغداد، وسط أجواء احتفالية مميزة ومتنوعة، بحضور وزير الثقافة والسياحة والآثار الدكتور حسن ناظم، وبمشاركة نخبة من الأسماء اللامعة من العراق والدول العربية في مختلف مجالات الثقافة والفنون والإعلام.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق