مجلة الفنون المسرحية
صلاح القصب وتجربة مسرح الصورة المتفردة / عواد علي
بدأت تجربة المخرج د. صلاح القصب في مسرح الصورة بعرض “هاملت”، الذي قدّمه في كلية الفنون الجميلة ببغداد عام 1980. وكان قد اطلع على هذا الشكل المسرحي خلال دراسته العليا في رومانيا، وحين عاد إلى بغداد بدا متحمساً لتطبيقه، والتنظير له، فكتب بحثاً بعنوان “مسرح الصورة بين النظرية والتطبيق”، وهو البحث الذي وسّعه، في ما بعد، وصدر في كتاب بالعنوان نفسه عام 2003.
تقوم بنية الخطاب المسرحي في مسرح الصورة، كما فصّلها القصب في ذلك البحث، على شبكة من التكوينات الجسدية، والأشكال الحركية والإيمائية والسينوغرافية المركبة، الغامضة، المصمّمة وفق علاقات إيحائية متغيرة، وتصاحبها إيقاعات صوتية بشرية مختلفة، كالتمتمات والصرخات والتأوهات والهمهمات.
وقد تستغني هذه البنية عن الحوار استغناءً تاماً، أو تكتفي بالقليل الجوهري منه لإعلاء الجانب البصري في العرض
تجارب صلاح القصب
قدّم القصب خلال عشرين عاماً اثني عشر عرضاً مسرحياً، في سياق مسرح الصورة، هي (هاملت، الخليقة البابلية، طائر البحر، الملك لير، أحزان مهرج السيرك، الحلم الضوئي، العاصفة، عزلة في الكرستال، الشقيقات الثلاث، الخال فانيا، حفلة الماس، وماكبث)
منذ تجربته الأولى "هاملت" صدم القصب الوسط المسرحي في العراق إبان عرضها قبل ما يزيد على أربعة عقود، لا بسبب طابعها التجريبي، فقد اعتاد ذلك الوسط على الرؤى الإخراجية التي تشتغل على تحديث النصوص الكلاسيكية، أو تقوم بتغييرات شكلية على فضاءاتها، وأجوائها، وطبائع شخصياتها، أو تختزل مشاهدها وحواراتها، وتحذف منها ما يتعارض وروح العصر، بل لغرائبية العرض، وافتراضاته وصوره العجيبة، وتأويلاته السيكولوجية، وأجوائه الطقسية البدائية؛ فقد افترض القصب عدم وجود جريمة حقيقية تقضّ مضجع هاملت، وهي جريمة قتل أبيه الملك، وإنما هي وهم محض صاغه مخياله المريض، كونه مصابا بـالانفصام (الشيزوفرينيا)، في الوقت ذاته الذي تعاني فيه مملكته من روح شريرة مدمرة. وعلى هذا الأساس جعل القصب هاملت يتحرّك في خطين: يسير الأول تحت سيطرة الروح الشريرة، ويسير الثاني بمعزل عنها، وهو يمثّل الأفق العقلاني في سلوكه ورؤيته، فحينما يكون تحت تأثير الروح الشريرة يظهر متلبساً شخصية بدائي (مثّلها الممثل الأسمر البشرة عبد الكريم عبود)، وتبدو له شخصية أوفيليا بوجه أفريقي بدائي (مثلتها ممثلة سمراء أيضاً هي ثورة يوسف)، ترتدي زياً تمتزج فيه ألوان زيّ كل من أوفيليا والملكة الأم الحقيقيتين، وحينما يكون هاملت خارج تأثير تلك الروح يظهر في شكله الاعتيادي (مثّله ممثل أبيض)، ويرى في أوفيليا الحقيقية (مثّلتها ممثلة بيضاء ذات وجه طفولي) روح البراءة، ومثالاً للوضوح والحب والمستقبل. ولكي يعمّق القصب الجانب المريض في مخيّلة هاملت، وروحه القلقة، وانفصامه العقلي فقد وظّف في فضاء العرض أشكالاً ورسوماً وأشياء مختلفة مستوحاة من الفنون البدائية، كالأسماك الحجرية والأواني الفخارية والحيوانات الخرافية، وعمد إلى شطر الشخصيات، واستخدم في بعض المشاهد المؤثرات الضوئية الخاصة، كالأشعة فوق البنفسجية، لخلق أجواء طقسية، وصور ذات ملامح سحرية، تدعمها أبخرة ودخان وروائح منتشرة في فضاء العرض. وفي محاولة منه للإيحاء إلى المتلقين بأن أحداث المسرحية وشخصياتها هي أحداث وشخصيات شمولية (كونية) توجد في أي عصر وبيئة، لا في العصر الذي حدّده شكسبير في الدنمارك، فقد جرّدها من ملامحها البيئية، وإطارها التاريخي.
وفي عرض “أحزان مهرج السيرك”، الذي أعدّه عن سيناريو سينمائي قصير للكاتب والشاعر الروماني ميهاي زامفير، خطا القصب خطوةً أكثر إيغالاً في تجريد الصورة المسرحية من ملامحها الأيقونية، فقدّم تجربةً ذات أجواء غريبة تتداخل فيها مستويات عديدة من أشكال التعبير البصري السريالي والفانتازي والرمزي، في نسيج شديد الكثافة، تفتقر فيه اللقطات والمشاهد إلى الحد الأدنى من المعقولية، فلا وجود لأي حبكة، ولا استمرارية للفعل، ولا زمان وفضاء تاريخيين، بل ذاتيان ونفسيان، حيث تبدو معظم المرئيات والكائنات في فضاءات سحرية وحلمية، وهي تقطع من سياقها الطبيعي وتوضع في مواقع اعتباطية مدهشة، وتنتقل بحركات سائلة كما لو كانت كائنات أسطوريةً توحي بإحساس باطني بالقلق. تشبه الدلالة الأساسية للعرض تلك الدلالة التي يخرج بها قارئ رواية “الشيخ والبحر” لهمنغواي، ومفادها “أن الإنسان قد يُهزم، لكنه لا يقهر”، فالمهرّج، وهو بطل العرض، الذي جعل منه القصب فناناً موسيقياً موهوباً، لا مهرّجاً مضحكاً، يعيش في وسط اجتماعي غير إنساني، يحاصره باستمرار، ويعمل على مسخ موهبته بشتى أساليب العنف والاضطهاد، الأمر الذي يبعث في نفسه إحساساً دائمياً وعميقاً بالرعب يدفعه إلى الاستسلام للأحلام والكوابيس والتداعيات الحرة الغريبة، التي تتبدى فيها صور مفزعة وغامضة للمعاناة، وتتمظهر القوى التي تستلبه في شكل كائنات وحشية تلتهم الحياة وتقتل الحب وتسحق البراءة وتشوّه الجمال من خلال طقوس شديدة الإثارة يحكمها السحر واللامنطق. لكن على الرغم من ذلك كله لا يفقد المهرّج روح المقاومة إلاّ في حالات خاصة يكون فيها خصومه في أشدّ فورانهم الوحشي، فيضطر إلى الاستجابة لرغباتهم، ويشرع في التوقيع على صوره، وتوزيعها على المعجبين، متحملاً تحول صورته إلى كائن ضئيل في نظر زوجته. وفي الأخير يعيده المخرج إلى حلبة الصراع، ويخرجه منها وهو مصرّ على الاستمرار في إبداعه، ونمط الحياة التي يريد أن يحياها؛ وهذا ما توحي به اللوحة الختامية في العرض، حيث يظهر جالساً على الأرض رفقة زوجته، وبيده كتاب يقرأ فيه، في جوّ تأملي ساكن، وكأن ما حدث له اختبار لصلابته وعزيمته ليس إلاّ. وقد اتسمت رؤية القصب في هذا العرض بإنسانيتها العميقة، وأسند دور المهرّج (المتحضر/ المبدع/ الشفاف) للممثل الأسمر نفسه الذي مثّل دور هاملت “البدائي”.
الحلم الضوئي
شارك القصب في إخراج مسرحية “الحلم الضوئي” المخرج شفيق المهدي، ويمكن إدراج هذا العرض، وهو في الأصل سيناريو من بضع صفحات كتبه المخرجان، في سياق ما يسمى بالـ”Meta- theatre”، أو “المسرح الانعكاسي” الذي يعرف بأنه تشكيل مسرحي يحيل المتلقي على نسق اللعبة المسرحية، وينبّهه إلى آلياتها بدلاً من أن يخفيها خلف قناع وهمي.
ينهض هذا العرض، أساساً، على شيفرات لا شعورية تتضمن تصوّرات ذهنيّةً ونفسيّةً تفتقد إلى المنطق، وتسودها الاعتباطية التي تبيح كل شيء خارق للعادة أو الاحتمال، وتهيمن عليه العلامات البصرية (المكانية) تبعاً لمعيار الالتقاط من جانب المتلقي، والعلامات الاصطناعية، تبعاً لمعيار المنشأ العلامي. وقد توصلت إلى تحديد ثلاث مجموعات من هذه العلامات:
1- علامات انعكاسية، وتضم: المؤدّي بوصفه ممثلاً، المؤدّي بوصفه منتجاً للعرض، المؤدي بوصفه متلقيّاً.
2- علامات رمزية تتألف من: شبكة التكوينات، العلاقات بين المؤدّين، السينوغرافيا بما فيها من ملحقات وإضاءة وأزياء.
3- علامات إشارية (أمارية): وتتمثّل ببعض الحركات والإيماءات.
إن عرض “الحلم الضوئي” عرض تجريبي صوري بشكل مطلق، يستغني عن النص، حتى كنقطة انطلاق، ويقوم على لغة الجسد، ويتسم بعدم ترابط أفعاله المسرحية، وتقاطعها من خلال صيغة البناء والهدم المتكرر للفعل، والتحوّل المستمر للشخصية، وعدم استقرارها على مواقف أو حالات محددة، أو واضحة. أما الفضاء الذي يجري فيه العرض فهو فضاء مفتوح (يشكّل اقتراحاً سيميائياً يُقّدم للمتلقي لكي يملأه بمخياله)، وتتألف العناصر الملقاة فيه من مجموعة أشياء ومرئيات غير متجانسة، تنتمي إلى أنساق متعارضة، بحيث يمكن تغيير تتابعها على وفق كيفيات مختلفة، من دون أن يحدث أي خلل في العلاقات الأفقية في ما بينها. وأخيراً، وبسبب تعليق العرض للمعنى، أو إرجائه (بالمعنى الذي اجترحه دريدا)، فإنه يصعب الإمساك بأي ثيمة، أو مدلول مركزي له، فدواله، في الأغلب، حرة عائمة يمكن أن يستحضر لها المتلقّي ما لا يحصى من الصور الذهنية من خلال فعاليته القرائية الاستعارية.
لقد كانت هذه العروض الثلاثة التي صاغها القصب، ووقفت على بعض ملامحها، إضافةً إلى تلك التي ذكرت عناوينها فقط، مغامرةً فنيةً خلخلت الذائقة الجمالية، والثوابت المعرفية، وأعراف التلقّي المألوفة في المسرح العراقي، واستفزت الأذهان الراكدة لعشرات المسرحيين والمثقفين، وصدمت آفاق توقعاتهم بجسارتها وتطاولها على المواضعات المسرحية والقيم الدرامية التقليدية، وتقاطعها مع واقع اجتماعي محاط بالأسلاك الأيديولوجية، ومعبّأ للحرب والقتال، ولذلك كان من الطبيعي أن يُنعت، خاصةً في السنوات الأولى من تجربته، بشتى النعوت، أقلها أنه شكلاني، مارق، غامض، غير عقلاني، ومُهلوِس.
إشعاع القصب
يجدر أن أشير في الختام إلى أنّ تجربة القصب المتفردة في مسرح الصورة، بغضّ النظر عن تباين النقاد في استقبالها، قد تركت أثراً كبيراً على جيل من المخرجين الموهوبين في العراق، وبعض الدول العربية، وحفّزته وحرّضته على إنتاج خطاب مسرحي بصري يقوم على بنى مشهدية، في التشكيل الحركي، والأداء الجسدي، والسينوغرافيا، بيد أن هذا الجيل، كما أرى، لا ينسخ تلك التجربة، بل يعتمد على القراءة التأويلية الخلاقة للنصوص، وإبراز المسكوت عنه فيها، ومحاولة إيجاد علاقات سيميائية/ إيحائية، بعضها جريء، وبعضها حذر جداً، بين نصوص العروض المنتجة عن تلك القراءة والواقع السياسي والاجتماعي.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق