مجلة الفنون المسرحية
مسرحية أوديب... التجريب على نص كلاسيكي
عصمان فارس
تراجيديا يونانية بسحر الملتميديا العرض قبل جائحة كورونا
علي قاعة المسرح الملكي الكبير 'دراماتن' في استوكهولم قدمت فرقة المسرح القومي في بلغراد مسرحية أوديب تأليف سوفوكليس وإخراج فيدا أوكنونيفش وتمثيل نخبة من ممثلي فرقة المسرح القومي في بلغراد ، وسبق للفرقة ان قدمت قبل عدة سنين مسرحية زوجة الوزير على المسرح الملكي الكبير دراماتن في استوكهولم . التجريب علي نص كلاسيكي ومحاولة القطيعة عن الماضي، الحداثة في هذا العرض المسرحي مرتبط بالجدلية مابين الاضداد والتي يخوض مبدعو مسرح الحداثة لواء المغامرة للبحث عن الجديد واحدات حالة التوتر والتناقض مابين القديم وحالة الصراع مع الحاضر. فالحداثة دائمآ هي نقيض لأي فكر سائد ،لأن التجريب في مفهوم المخرج المعاصر مرتبط بموقف الفنان من مجتمعه أي تجريب غير معزول عن المفاهيم الاجتماعية السائدة، لأن الفضاء المسرحي ليس مجرد شكل بوسائل جديدة ولكنه ضرورة فنية وإجتماعية، فعملية التعامل مع الماضي والحاضر اساس المسرح التجريبي والذي يحتوي في داخله علي الحداثة وما بعدالحداثة ،وتتحول اللحظة التأريخية العامة الي لحظة معاصرة، فحالة التجديد في المسرح وعملية التعامل والشغل المسرحي من قبل اي مبدع مسرحي ينبني علي رافد الماضي والذي يتوأم ويتلامس مع عقله من خلال قراءأته ودراساته اما الحاضر فيشكل اللحظة المعاشة للمبدع كأنسان وكفنان ومن خلال فهمه للماضي والحاضر ترتسم عنده صورة المستقبل الجديد. فاالمسرح الاوروبي اجتهد فيه المحدثون علي إيجاد وسائل ومفهوم الحداثة والربط بينها وبين التجريب، وتجاوز المسرح الغربي الواقع والمبدع فيه يبحث عن صيغ جديدة في التعبير المسرحي من خلال اعادة النص الكلاسيكي ومحاولة تفكيكه وإكتشافه، والبحث في الشكل والمضمون من خلال التجريب والحداثة لاتعني ابدآ القطيعة مع الماضي والقديم ولكنها تقيم العلاقة علي اسس وقواعد جديدة، والبحث عن صيغ تعبيرية وجمالية جديدة من خلال العودة الي المسرح الكلاسيكي مسرح النص والتي اثارت حافزآ جديدآ من محاولات التجريب القائمة علي أفكار جديدة.الاسطورة الاغريقية ليست فقط مصدر الدراما في الغرب ولكنها موضوع مسرحي علي مدي قرون، وقد قدم تحت اشكال وموضوعات جديدة، حتي إن بعض الكتاب المعاصرين عادوا الي روح المسرح الاغريقي.العودة الي الثراث في الغرب وخاصة الي المسرح الاغريقي لتقديم نظرة للعالم بمنطق شامل وانساني بحيت مما يدفع بالمسرح الي الامام من خلال التقنيات الحديثة في المسرح
والوعي لدي الفنان وفهمه للواقع الاجتماعي، واهمية الدراما الاغريقية حاليآ بسبب علاقتها بالافكار والصراعات التي يمر بها عالمنا المعاصر. وتعتبر مسرحية أنتيجون ومسرحية أوديب وغيرهما من التراجيديات القديمة مصادر مهمة لما تحتويه من عناصرالفعل والصراع الدرامي و(جدحات) تحرك ذهنية المخرج الحداثوي المشبع بروح المغامرة والبحث عن الجديد، ويلبسها ثوبآ معاصرآ في المعالجة شكلآ ومضمونآ من خلال وجهة نظر خاصة بالمبدع مع الحفاظ علي روح العصر، وقد تكون المعالجة من خلال الديكور والملابس والشكل العام .فمسرح النص والحاجة الي العودة الي المسرح الكلاسيكي من خلال المحاولات التجريبية والقائمة علي الافكار الجديدة.فعودة بعض الكتاب الي روح المسرح الاغريقي تحت أشكال وموضوعات جديدة ومعاصرة وعلاقتها بالصراعات التي يمر بها العالم حاليآ، فمسرحيات مثل أنتيجون واوديب ومسرحية ميديا، وكذلك اتجاه ومحاولات بعض من الباحثين والمبدعين في الغرب مثل مسرح الشمس في فرنسا ومحاولات بيتر بروك ومسرح جروتوفسكي في بولندا والشغل علي المادة الكلاسيكية اي المسرحية القديمة من اليونان والرومان وتقديم مفردات اخراجية جديدة تناقض وتقاطع الاخراج الكلاسيكي. ففي المسرح االاوروبي تحرر المخرج ونفض غبار الاشكال القديمة وهدم جميع التابوهات التي تقف عائقآ لحالة الابداع المسرحي. ومع ذلك يدور الجدل حول اشكال وطرق تقديم وتناول المسرحيات الكلاسيكية وطريقة استقبال الجمهور لمثل هكذا مسرحيات .
وهل تقدم فقط لنخبة من الملمين بلغة المسرح؟ فتجارب عديدة لمخرجين كبار في اوروبا لمسرحيات كلاسيكية وجعلها مسايرة للعصر مثل انتيجون ومسرحية أوديب والتي نحن في صدد مناقشتها وطريقة معالجة القديم بمنظور حديث،لعبة مسرحية مابين المتابعة والمشاهدة اعني هنا المشاهد غير المتخصص ومدي فهمه واستيعابه لعنصر المفاجئة والادهاش واسلوب الحداثة والتجريب علي مادة كلاسيكية والحاجة الي العمل علي هذه الثيمة الفنية والفكرية.وكل هذه المقدمة هي مدخل مهم لتناول الاسطورة وتفسيرها ومعالجتها عصريآ كما في مسرحية اوديب للمخرج الصربي (فيدا اكنونيفش) في استوكهولم،والعرض شاركت به فرقة المسرح القومي من بلغراد ومن اجل الولوج في افول العالم القديم ومايمثله من قيم ارتبطت بمجتمع الامومة الزراعي وعقدة المجتمع الابوي وتحولات العالم والتركيز علي الحرية وتحديدآ إرادة الانسان، والتركيز علي طقوس واساطير ذلك العصر القديم وسلوكيات رجاله ونسائه في قالب وضوء جديد من خلال تتبع المصير والحالة المأساوية لأسرة أوديب. وإعتماد العرض المسرحي علي الكلمة المنطوقة وادخال عناصر مسرحية مثل المولتيمديا التلفزين والكاميرا والحاسوب والمحمول الموبايل كلها كانت عناصر مهمة في العرض المسرحي المرئي والعرض بهذه الصورة قد يثير العديد من التساؤلات التي تبحث عن إجابات وإبداء ملاحظات عن النص والعرض المسرحي في أن واحد فكل قارئ وملم بالمسرحيات اليونانية القديمة وجدورها المبنية علي الاسطورة والتي بنيت عليها الحكاية وإمتدت عبر الاجيال، نعرف مدي اهمية الكاتب المسرحي الاغريقي وبراعته في صياغة المسرحية والمحافظة علي خصوبة موضوع ومادة الاسطورة العمل الفني والمتوازن من الناحية الفكرية والفعل يخلق صور درامية ومبررات تماسك أجزائه ووجوده، فمسرحية أوديب عالجها سوفوكليس من بداية الخيط لمشكلة العقدة المسرحية مستقاة من نهاية القصة بعد أن إستشري وباء الطاعون في مدينة طيبة، بعد أن قتل أوديب أباه وتزوج أمه وأنجب منها أربعة أبناء، ووفق هذا التسلسل كانت البداية لمسرحية أوديب الصربية مكتب تشريفات السيد الرئيس اوديب ومستشارين في المكتب يرن الهاتف الخلوي المستشار يسمع ويجيب بكلمة نعم والمتشار الثاني نعم صمت ويرن بنفس الطريقة جرس الهاتف الجوال مع قيام وحركة الممثل والجواب كلمة لا وتتكرر الحالة ونسمع كلمة لا باب خلفي وسلالم مدرجات بيضاء اجتماع مهم في مكتب الرئيس بحضور الوزراء الكل ينتظر مجيئ الرئيس أوديب وهو ينزل من السلالم الي قاعة الاجتماعات ،المسرحية بنيت علي مأساة القدر وهو الذي يتحكم ويرسم طريق المجد وسقوط الابطال، تحول البشر الي قطع من الشطرنج تحركها وتديرها ايادي خفية،والصراع في المسرحية مابين القدر والانسان. فنص سوفوكليس والمخرج الصربي فيدا وضعا أوديب البطل في موضع الضعف وهو يتحدي القضاء عن فعلته الشنيعة والمحظور وهذه الخطيئة حاول اوديب بقوة مكره،وارسل كريون اخ زوجته الملكة جوكاستا الي معبد ابولو،يرجع وعنده الخبر اليقين واوديب يسأله عما قالته العرافة في المعبد في البداية كان متردد عن الافصاح لكنه تمالك نفسه واعلن ان اللعنة حلت علي طيبة بسبب وجود شخص قتل الملك لايوس، والقاتل يسكن طيبة وتبقي اللعنة حتي يثأر اهلها لمولاهم المقتول.الاعلام والتلفزيون المذيعة تنقل الاخبار ساعة بساعة عبر الشاشات التلفزيونية وقناة الاخبار ومستشاري الرئيس يخشون التصريحات االمباشرة اوديب يحذر ويتوعد قتلة الملك لايوس وينتم من القاتل حتي لو كان اقرب المقربين منه. ويطلب القضاة والمستشارين وكريون من اوديب ان يرسل في طلب العراف الضرير تيريسياس وهو خبير بكشف الجاني، يدخل تريسياس بملابس عصرية وربطة عنق ويطلب أوديب منه ان يساعد وطنه وشعبه للكشف عن قاتل لايوس ،يرتجف تريسياس ويخشي التصريح والافصاح بكلمة واحدة عن القاتل.ويرجوه اوديب ان يدلي عن الجاني ولكنه يلتزم لغة الصمت ويصرخ اوديب فيه ويتهمه بالخيانة وانه يخفي معلومات عن القاتل، فينتفظ العراف الضرير تريسياس ويعلن القاتل هنا، وانه ابن طيبة وتزوج من امه وهو وريث فراش أبيه وسافك دمه. وينصرف تريسياس تحت حماية متشددة من حراس الرئيس اوديب، هنا يتدخل اوديب وهو يحاور كريون عن ترهات ماطرحه هذا الضرير تريسياس، ويبدأ الشك لدي اوديب في اتهام كريون ربما دبر هذه المكيدة لكي يستولي علي السلطة ويقضي عليه وعند طرد اوديب للعراف الضرير تريسياس ساخرآ منه ومن حماقته، وقبل ان يهيم تريسياس بالخروج يقول:'احمق انا في عينك، ولكني كنت حكيمآ عند والديك'.ويحاول اوديب معرفة اشياء كثيرة من العرافعن والده ولكن تريسياس لايوضح شيئ،'ولكن سيكشف ذلك اليوم عن مولدك ويحصل دمارك'. ويبدأ اوديب يفكر بالحكاية ويشك في موقف كريون.وتكون جوكاستا الوسيط مابين الاخ كريون وزوجها اوديب،وانها لاتصدق مايقوله العرافين وتحكي حكاية زوجها لايوس ملك طيبه قال له رسول من كهنة ابولو ان زوجته جوكاستا ستنجب ولدآ وسوف سوف يكون قاتل أبيه، ولما انجبت الطفل من لايوس اخد الغلام الي الجبل وتركوه هناك.وان زوجها قتل علي ايدي لصوص وقطاع طرق وليس ابنها لذلك كذب المنجمون،وبدأ اوديب يفكر في هذيان وحديث جوكاستا ،تملكه الرعب وقد اصابه مس واستسلم للهذيان.تحول الكورس في المسرحية الي جوقة من الصحفيين ومعلقة الاخبار التلفزيونية تنقل اخبار العائلة واخبار الرئيس اوديب لحظة بلحظة،وخبر الرسول وهو يحكي قصة الطفل الذي اخده من الراعي وقد اوثقت قدماه بأسياخ من حديد ،وكانت رواية الرسول نفس رواية جوكاستا اذآ هو قاتل ابيه لايوس وشريكه في فراش امه جوكاستا الملكة. وتبقي حلقة واحدة مفقودة ويرسل اوديب في طلب الفلاح الذي شهد مقتل الملك لايوس، ويفضي بالسر ان الطفل الذي سلمته له كان اوديب ولكنه اشفق علي الطفل وسلمه الي ذلك الرسول ويستسلم اوديب للقضاء والقدر انه ذلك الملعون والملوث ذريته.
الاخبار التلفزيونية تنقل خبر انتحار جوكاستا زوجة الرئيس وكثرة فضائح القصر الرئاسي ويظهر اوديب بثوب ابيض وقد فقأ عينيه وتحول الي رجل ضرير وقد تحرر من الاثم والالام؛ اما تريسياس الضرير العراف يحمل مسدس وينتحر بطلقة في الرأس وتعامل المخرج مع النص وفق القانون الوضعي حماية لهيبة الدولة والحاكم، كما تشي احداث مدي امتداد اللعنة وكيف حلت علي اوديب واسرته،واستطاع توظيف النص لكي يثير فكر المتلقي وحول الجوقة وعنصرالصراع المهم في الاساطير الاغريقية الي جوقة الصحفييين ومراكز صنع القرار وفبركة الخبر الصحفي وتدوين وارشفة الفضائح ليست هناك قيود علي حرية الفنان في التعامل مع مادته وخاصة الكلاسيكية ممكن حذف مشاهد او تقديم او تأخير مشهد بحيث يكاد يتحول العرض الدرامي الي عرض ذات طابع المادة التمثيلية الاذاعية او التلفزيونية، وقد تحافظ المعالجة علي قدسية جلال المأساة في اسرة اوديب ،وقدم العرض علي مسرح العلبة مع شاشات العرض وكاميرات تلفزيونية تنقل الاحداث بشكل مباشر وحي كل اخبار الرئيس واسرته علي امتداد العرض كانت الاظاءة فيضية ماعدا المشهد الاخير مشهد انتحار تريسياس وظهور اوديب والدماء تغطي قميصه الابيض تحولت الاظاءة الي اللون الاحمر. لعنة اوديب وماحل بطيبة وماحل به ارتقي ثم سقط سريعآ ونعيه لحظه العاثر بعد ان فقأ عينيه.المسرحية قدمت باللغة الصربية لكن ماكنة الترجمة الفورية الي اللغة السويدية قربت احداث العرض من المتلقي السويدي. فتعريف ارسطو للتراجيديا محاكاة لحدث وقع في الماضي هو تجاهل لعنصرالعرض المسرحي، والتراجيديا هو الحنين الي الماضي لكن العرض المسرحي ينتمي الي الحاضر، وتوفر عنصر وقدرة العرض المسرحي علي ربط الماضي بالحاضر وتحويل زمن العرض من التأريخ الماضي الي وحدة زمنية حاضرة في العرض. والعرض المسرحي اتاح لنا حالة التعايش مع مسرحية أوديب كتجربة جديدة، وان نتعايش معها كحادثة تأريخية في الماضي وكأسطورة شعرية.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق