المسرحية تروي فشل محاولة إلغاء العبودية في جزر الأنتيل في أعقاب الثورة الفرنسية.
ابو بكر العيادي _ العرب
“المهمة” مسرحية للمؤلف الألماني هاينر مولر عرضت على “مسرح الهضبة بباريس”، وهي تعالج رغبة الجمهورية الناشئة زمن الثورة الفرنسية في تصدير الثورة إلى أقاليم ما وراء البحار، حيث ينشأ وضع ملتبس حين يعلم الموفدون أن الجمهورية لم تعد ثورية، وأن مهمتهم صارت لاغية.
يعتبر الألماني هاينر مولر (1929-1995) من أعلام المسرح الأوروبي في النصف الثاني من القرن العشرين، استطاع أن يبني آثارا درامية على الأنقاض التي خلفتها الحرب العالمية الثانية، باستعمال نصوص مؤلّفة من عدة مقاطع كتبها في مراحل مختلفة، وكذلك من مهملات التاريخ المتصلة بالثيمة التي يعالجها، وقد دأب خلال أعماله التي تناهز العشرين على طرح قضية الإنسان في مواجهة الموت عبر استعارات يستوحيها من الحرب والإيروسية والمرض، فالجسد والجنس في رأيه هما مادّتا الإنسان والتاريخ.
الطريف أن عمله يقوم على ثنائية، بين انتمائه للمعسكر الشرقي، فهو من برلين الشرقية، واشتغاله في المعسكر الغربي أي في برلين الغربية، ومن ثمّ كان نقده للأوضاع الاقتصادية والاجتماعية في ألمانيا الشرقية باديا في مسرحياته، كما هو الشأن في “الأجور” التي كتبها عام 1956، و”البناء” التي جاءت بعدها بستّ سنوات.
نص المسرحية يعالج الثورات المغدورة، والدكتاتوريات التي يمكن أن تتمخّض عنها، ويصوّر تناقضات فلاسفة الأنوار
ولئن كانت كتابته تنهل من مخيال بلده وتاريخه المعاصر، فإنها لا تنحصر فيهما، بل تستدعي هوميروس وسوفوكليس وشكسبير ولاكلو ونيتشه لوضع الحداثة موضع مساءلة. ولذلك فهو ينظر إلى نصوصه كحوار بين الموتى، لأن إعادة الكتابة التي يقترحها تستحضر الماضي في الحاضر، وتربط العلاقات المقطوعة وتغوص في الرهانات الحقيقة التي تجمح بها. فمسرحيات “أوديب طاغية”، و”فيلوكتيتس” و”هرقل” و”برومثيوس” إنما هي انزياحات جديدة عن حكايات قديمة يعرفها الجميع.
و”المهمّة”، هذه المسرحية التي ألّفها مولر عام 1979، وجعل لها عنوانا فرعيّا “ذكريات ثورة”، تروي فشل محاولة إلغاء العبودية في جزر الأنتيل، في أعقاب الثورة الفرنسية، ففي عام 1794، أرسِل ثلاثة رجال في مهمة باسم الجمهورية الفرنسية، لتنظيم انتفاضة العبيد ضد السلطة الإنجليزية، غير أن انقلابَ نابليون بونابرت واستيلاءَه على السلطة في فرنسا أجهض مهمّتهم، فقد ورد عليهم أمر مغاير، يعلمهم أن باريس تشهد وضعا سياسيا جديدا، وأن إلغاء العبودية لم يعد واردا في جدول الأعمال.
هؤلاء الرجال هم دوبويسّون، سليل نخّاسين، وغالّوديك، مزارع من بريطانيا الفرنسية، وساسبورتاس، عبد أسود سابق. عندما علم ثلاثتهم بالأمر، اختلفوا، فقد قرّر ساسبورتاس وغالّوديك مواصلة المهمة، بينما آثر دبويسّون التراجع والانسحاب.
ومخرجها هو ميكائيل تالهايمر، وهو من أبرز المخرجين الألمان في الأعوام الأخيرة، (سبق أن أخرج بالفرنسية مسرحية “معركة الزنجي والكلاب” لبرنار ماري كولتيس) اختار بناء المسرحية في شكل استرجاع (فلاش باك) حيث تبدأ برسالة يسلّمها بحّار إلى دوبويسّون ويعلمه خلالها بهلاك رفاقه، فيرفض في بادئ الأمر وينكر حتّى هويّته خوفا من أن تكون وراءها مكيدة، ثم يقبل الرّسالة، ويغوص في ذكرياته، فتسرد المسرحية تلك المرحلة، وتنتهي بعدول دوبويسّون.
فالمسرحية إذ تبدأ من الزمن اللاحق، زمن الثورة المضادّة والتصلّب السياسي، مع مزجها بحكاية تنكّر مضاعف لدوبويسّون، تنكّره لموت أصدقائه أمام البحّار، وتنكّره لمثله العليا، لتكون المسرحية حكاية فشل ووهم.
والمواقف الفردية هنا تعكس العلاقات الطبقية، فالناجي الوحيد ينتمي إلى الطبقة البورجوازية، ولئن بدا أن ساسبورتاس وغالّوديك غير معنيين بما جدّ في فرنسا، فإن تراجع دوبويسّون عن موقفه يذكّر بنزعة المحافظة الرجعية لتلك الطبقة الاجتماعية.
لقد نجح مولر في كتابة نص يعالج الثورات المغدورة، والدكتاتوريات التي يمكن أن تتمخّض عنها، ويصوّر تناقضات فلاسفة الأنوار، حيث يرسم من خلال جوانب ملتبسة من الأيديولوجيات وعودة المسكوت عنه من التاريخ أشباحَ ماض لا يمرّ. غير أن المعالجة الركحية كانت مرهقة، فالمسرحية كثيفة، معقّدة، صيغت بمثل مُربكة، والمتفرّج مدعوّ إلى تجميع قطعها، لاسيما أن المخرج أضاف إليها مرجعيات وخطابات أخرى، فهي في جملتها حشد من النصوص والصور والعلامات تجتاح الخشبة وتحيل في جانب منها على المجتمع الذي نعيش فيه اليوم.
فمنذ اللحظات التي يدخل فيها المتفرّجون المسرح، يظهر على شاشة في خلفية الخشبة زخم من الصور المركّبة وكليبات برامج الترفيه، ومقتطفات من نشرات الأخبار التلفزيونية وصور وثائقية، وقد جعلها المخرج تعبيرا عن مختلف المراحل التاريخية والمواقف السياسية المتعاقبة، مثلما جعل إلى جانبها هيكلا عليه علم الجمهورية وقد تحوّل إلى ستار “نايت كلاب” جنب بورتريه لنابليون بونابرت.
ويفسّر المخرج ذلك بقوله إن ما يشدّه في هذا العمل هو التساؤل عن موقع الإنسان في التاريخ، والدروس التي يمكن أن نستخلصها، والشعور الدائم بأن التاريخ يعيد نفسه.
وهذا يمرّ عبر نصوص مثل قصة “النور وحبل المشنقة” للكاتبة الألمانية أنّا زيغرس، التي استلهم منها مولر مسرحيته هذه، وعبر صور، مثل صور الخيول، والجواد أرستقراطي بامتياز، وهي تهيم في الفضاءات الحضرية، متروكة مهملة، ويمرّ أيضا عبر نص عن لوحة “أنجيلوس نوفوس” لبول كلي، كتبه فالتر بنيامين الذي يدعونا إلى عدم التفاؤل بالتقدّم، والسعي بوعي حاد بالماضي.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق